للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[أثر حرب العراق في النظام الدولي]

حسن الرشيدي

(إن الدول الديمقراطية الحرة التي تقود الحرب ضد العراق هي أمل العالم

في تأسيس نظام عالمي جديد فاعل) .

هذه افتتاحية مقال كتبه أبرز عرَّابي الإدارة الأميركية الحالية، وهو ريتشارد

بيرل رئيس مجلس سياسات الدفاع في وزارة العدل الأميركية قبل استقالته، والذي

أكده في صحيفة ناشيونال بوست الكندية قبل استقالته.

وانتقد بيرل في مقاله من يعتقدون بأن النظام العالمي يمكن إنشاؤه فقط من

خلال منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؛ مشيراً إلى أن تصرفات دول مثل

فرنسا والصين وروسيا من خلال الأمم المتحدة هي «أقرب إلى الفوضى وليس

للنظام» ؛ على حد تعبير المسؤول الأميركي المعروف بوصفه أبرز منظري التيار

الجديد المتنامي في الإدارة الأميركية.

ولمحاولة توقع أثر الحرب التي وضعت أوزارها في العراق في النظام الدولي

الراهن؛ لا بد من فهم كينونة النظام الدولي، وتتبع مساره في العالم منذ أن بدأ

الحديث عن ذلك النظام؛ لدراسة العوامل والمتغيرات والسنن والقوانين التي حكمت

هذا النظام منذ بروزه على الساحة الدولية حتى يومنا هذا؛ من أجل فهم عميق،

ومحاولة توقع المتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في أعقاب الحرب على العراق،

ثم نعرج إلى هذه الحرب وتداعيتها على النظام الدولي.

* تعريف النظام الدولي:

إذا كان علماء السياسة اتفقوا على أن الدولة مجتمع منظم، وأن أهم مظاهر

هذا التنظيم هو وجود سلطة الدولة التي تملك من الأدوات ما يمكنها من فرض

إرادتها على جميع أفراد الدولة في تلك الرقعة الجغرافية التي تشكل حدود الدولة،

ولكنهم اختلفوا في مجتمع الدول والعلاقات بينها.

فبعضهم يقول إن هذه العلاقات لا يحكمها نظام؛ لأن مجتمع الدول بطبيعته

يخلو من ترتيب هرمي للسلطة، ويقوم على مصفوفة أفقية مشكَّلة من وحدات

مستقلة وذات سيادة لا تخضع لأي سلطة أعلى منها، فكل دولة تخول لنفسها الحق

في أن تتصرف كما يحلو لها دون أن تخضع في تصرفاتها هذه إلى أي قواعد

ملزمة، وحتى في حالة وجود تلك القواعد الملزمة فلا توجد سلطة عليا فوق سلطة

الدول تضمن تطبيق هذه القواعد في حال الخروج عليها. وبعبارة أخرى فإن قانون

الغاب هو الذي تخضع له الدول وفق هذه النظرية.

بينما يرى آخرون أن هناك نظاماً يحكم بين الدول، وهو نظام يضم مجموعة

من الوحدات المتفاعلة التي تسمى أمماً أو دولاً، يضاف إليها أحياناً بعض المنظمات

فوق القومية مثل الأمم المتحدة.

ويقول هؤلاء إن النظام الدولي يشتمل على خمسة أبعاد أساسية هي:

- وحدات النظام: وهي الدولة بمفهومها الحديث.

- التفاعل بين هذه الوحدات: مثل الاتصالات، والتجارة والدبلوماسية.

- البيئة الدولية: وهو ذلك الوسط الذي توضع على أساسه السياسة

الخارجية لوحدات النظام الدولي.

- حدود النظام: ويتميز كل نظام دولي بوجود حدود جغرافية وثقافية

واقتصادية؛ تحدد طبيعة النظام وتميزه عن النظم الأخرى.

- هيكل النظام: ويقصد به عناصر القوة داخل وحدات النظام وترتيبها

بالنسبة إلى بعضها.

بتتبع أحوال النظام الدولي وتاريخه في القرون الثلاثة الأخيرة نجد أن الهيمنة

الغربية على العالم تكرست عبر تقاسم القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت أغلب

مناطق العالم الجغرافية؛ لذلك يرتبط النظام الدولي في هذه القرون بالعالم الغربي

وحجم القوى داخله.

وباستعراض تاريخ العلاقات الدولية نجد أن النظام الدولي مر بمحطات رئيسة

أثرت في شكل هذا النظام:

- معاهدة فيينا لسنة ١٨١٥م.

- الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م.

- الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥م.

- سقوط الاتحاد السوفييتي.

- أحداث ١١ سبتمبر.

* معاهدة فيينا عام ١٨١٥م:

كانت هزيمة نابليون مناسبة مهمة لإعادة صياغة الواقع الأوروبي من جديد

على قواعد وأسس تراعي المتغيرات الحاصلة على الأرض، ولذلك تداعت الدول

المنتصرة إلى عقد مؤتمر فيينا الذي أسس لمرحلة جديدة من النظام الدولي. أما

أبرز ما أتت به معاهدة فيينا لسنة ١٨١٥م فهو إعادة التوازن في أوروبا عبر إعادة

العروش إلى أصحابها، وتقسيم الأراضي الأوروبية مجدداً. كما تمت إعادة الملكية

إلى بروسيا والنمسا، وتوحيد السويد والنرويج في اتحاد فعلي، وضُمت بلجيكا

إلى هولندا في مملكة قوية بمواجهة فرنسا، وبمقتضاها أزيلت بولندا عن الخريطة

الجغرافية السياسية لأوروبا، وتوزيعها بين روسيا وبروسيا والنمسا، ووضعت

سويسرا في حياد دائم.

كانت الدولة القومية هي العامل الوحيد في السياسة الدولية، ولم تعرف هذه

المرحلة المنظمات الدولية ولا المؤسسات غير القومية مثل الشركات العالمية،

وكانت قوة الدولة مرادفة لقوتها العسكرية.

وكان الموقف الدولي منذ الحروب النابليونية وحتى الحرب العالمية الثانية بيد

بريطانيا تمارس فيه دور الحَكَم، وكان النظام الدولي نظامها تمارس فيه دور الدولة

العالمية؛ بينما كانت الدول الأوروبية تؤدي أدواراً أوروبية أكثر منها عالمية،

حيث كانت بريطانيا تترك للدول الأوروبية أمر إيجاد التوازن في أوروبا؛ بينما

تتفرغ هي بكليتها لبناء إمبراطوريتها الشاسعة المترامية الأطراف، وكانت لا

تتدخل إلا عند تعرض الميزان إلى اختلال بيِّن، حين تكون الحرب وشيكة الوقوع

أو نشبت فعلاً، وكانت تتدخل عندئذ إلى جانب الطرف الأضعف لإعادة التوازن،

أو تتدخل إذا تعرضت الأراضي المنخفضة للاجتياح أو خطر الاجتياح من قِبَل دولة

أوروبية طامعة في السيطرة على أوروبا، ولم تكن تقيم الأحلاف مع أحد في أوروبا

إلا عند التدخل. ولما كانت قوة بريطانيا في أسطولها فقد كانت تفتش عن حليف

أوروبي يقدم القوات البرية. كانت بريطانيا تعتمد تقليدياً على النمسا في حفظ

التوازن في أوروبا لتخليها عن حلم السيطرة على أوروبا، ولأنها كانت تعمل على

الحفاظ على الوضع الراهن لتحافظ على تماسك إمبراطوريتها المتنافرة. ولما

أصاب النمسا الضعف رحبت بريطانيا بألمانيا في بادئ الأمر بوصفها قوة من

الدرجة الأولى لتكون دعامة رئيسية لتوازن القوى.

أثبتت هذه المعاهدة أن أي نظام عالمي هو نتاج المنتصر في الحرب؛ كما

تثبت أن أياً من الأنظمة العالمية التي مرت عبر التاريخ لم تدم، بل كانت عرضة

لتغيير مستمر؛ وبطبيعة الأمر فإن ما يسود اليوم هو متغير غداً.

إن هذه المعاهدة وما أعقبها من معاهدات لم تتح للنظام الذي أنشأته أن يدوم

طويلاً؛ فسرعان ما انقلب موقعو المعاهدات على تواقيعهم، وجرت أوسع عمليات

التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وسادت المصالح الخاصة مكان التعاون،

والأطماع الإقليمية وحروبها مكان حل النزاعات بالطرق السلمية.

باختصار: لم تنتج الدول الأوروبية نظاماً عالمياً إلا وبدأت هي نفسها في

الاتجاه الذي سيلغيه مجدداً؛ وهذا ما كان.

* الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م:

كان السبب الرئيس في اندلاع هذه الحرب هو أن النظام الدولي السابق لم يعد

صالحاً؛ فألمانيا والنمسا اللتان اختارتهما بريطانيا ذراعاً لها لتنفيذ طموحاتها البرية

في أوروبا قد بدأتا في التمرد؛ وخاصة أن ألمانيا شرعت في تكوين إمبراطورية

استعمارية دفعتها إلى بناء أسطول بحري عسكري لإجبار بريطانيا على إعادة

التقسيم. فتكتلت الدول، وتكونت الأحلاف كحلف الوفاق الثلاثي الذي يضم:

(فرنسا، بريطانيا، روسيا) الموجه ضد دول الحلف الثلاثي المتكون من (ألمانيا،

النمسا، وإيطاليا) .

كان السبب المباشر - وهو بالمناسبة كأي ذريعة تأخذها القوى الكبرى لبدء

الصراع سواء كان سياسياً أو عسكرياً في تاريخ النظام الدولي - اغتيال ولي عهد

النمسا في صربيا بمدينة سراييفو؛ مما دفع النمسا لتقديم مطالب لصربيا وهي: حل

الجمعيات السرية، والمشاركة في محاكمة المتهمين.

أمام رفض صربيا لهذه المطالب أعلنت النمسا الحرب عليها بمساندة (ألمانيا،

والمجر، وتركيا) ، وعرف هذا التكتل بـ (المحور) ؛ ضد (الحلفاء) وهم

(فرنسا، بريطانيا، روسيا، بلجيكا) .

وكعادة النظام الدولي الذي يقوم على شريعة المنتصرين؛ فقد تمت في أعقابه

تغيرات جغرافية قسرية يمكن اعتبارها مسؤولة عن غالبية الصراعات الراهنة من

تقسيم دول البلقان الذي خلق تداخلاً قابلاً للانفجار بين دولها، ثم خصوصاً الدولة

العربية وتفتيتها بين اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور؛ وبذلك تم إيجاد جغرافية

سيئة للعالم عن طريق صنعهم لكيانات قابلة للانفجار على شكل حروب صغيرة ذات

ضحايا بشرية بأعداد هائلة.

إن أبرز ما أنجزته الدول المنتصرة محاولة إيجاد نظام دولي على أسس

شرعية وفقاً لمصالحها، فكان تأسيس عصبة الأمم وانضمام العديد من الدول الفاعلة

إليها رغم بقاء الولايات المتحدة خارجها وإعطائها صفة الإشراف على النظام

العالمي؛ إضافة إلى إنشائها ضوابط تحكم العلاقات الدولية.

وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي علقت عليها فإن عصبة الأمم التي أوكل

إليها مهمة الإشراف على النظام العالمي كانت تحمل في طياتها أسباب إخفاقها

وانهيارها لاحقاً؛ فعلى الرغم من المهمة العسيرة التي أنيطت بها لم تُعْطَ

الصلاحيات الكافية لها؛ فإجراءاتها توصيات ليس إلا، وليس بمقدورها فرض أي

قرار تمليه مصلحة النظام العالمي حتى لو كان من منظور الدول المنتصرة.

إضافة إلى ذلك؛ فإن بقاء الولايات المتحدة خارجها وانسحاب ألمانيا منها بعد

دخولها إليها قد ولَّد الانطباع بأن النظام العالمي الذي ساد آنذاك كان في الواقع متكئاً

على قدم عرجاء، وليس بمستطاعه المضي كثيراً.

إن أحد المرتكزات التي قام عليها النظام العالمي آنذاك هو توازن القوى في

عالم متعدد الأقطاب، ومن الطبيعي عند اختلال التوازن أنه سيختل النظام القائم؛

وهذا ما حدث عملياً بعد فترة وجيزة من الزمن، وهو الأمر الذي أسس للحرب

العالمية الثانية.

* الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م:

وكالعادة في تاريخ النظام الدولي؛ برزت عيوب النظام الذي نتج عن الحرب

الأولى مع مرور السنين، وكانت ألمانيا أيضاً هي أبرز الناقمين على نتائج النظام

السابق؛ إذ شتّتت القوميات الألمانية في الدول المحدثة كبولونيا وتشيكوسلوفاكيا،

وعجز الاقتصاد الألماني عن تجاوز مخلّفات الحرب الأولى وتسديد تعويضات

الحرب لفرنسا وإنجلترا؛ كما لم تنل إيطاليا الترضيات التي وُعدت بها في الحرب

الأولى وتجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات. في المقابل تمكنت فرنسا

وإنجلترا من إعادة بناء اقتصادهما، وبدأت الولايات المتحدة في فك عزلتها،

والسعي إلى إيجاد دور عالمي لها في النظام الدولي.

أدت هذه الحرب إلى تراجع القوى الاستعمارية القديمة فرنسا وبريطانيا نتيجة

الانهيار الاقتصادي مقابل تدعيم اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية؛ كما برز

الاتحاد السوفييتي كثاني قوة اقتصادية في العالم، ومن نتائجها الأساسية الاتفاق على

تأسيس هيئة دولية تحل مكان العصبة، وتسند إليها مهام الإشراف على النظام

الدولي المزمع إنشاؤه إن لم نقل فرضه.

وكما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى تداعى المنتصرون ليضعوا

أسساً لنظام عالمي جديد؛ ففي قمة يالطا عام ١٩٤٥م تم إعادة رسم الخريطة

العالمية وتوزيع مناطق النفوذ بين المنتصرين في الحرب، ثم تحوَّل شكل النظام

الدولي إلى القطبية الثانية بعد تكوين حلف الأطلسي عام ١٩٤٩م وامتلاك الاتحاد

السوفييتي القنبلة الذرية وتكوين حلف وارسو عام ١٩٥٥م، وحاول القطبان

الظهور بأن النظام العالمي بعد الحرب العالمية هو برعاية وعناية هيئة الأمم المتحدة

وتحديداً مجلس الأمن الذي أنيط به حماية السلم والأمن الدوليين، بل التدخل

بالطرق العسكرية لفرضه إذا دعت الضرورة إلى ذلك؛ وعلى الرغم من ذلك أي

إظهار الصلاحيات الواسعة لمجلس الأمن إلا أن الأمر لا يعدو كونه صورياً من

الناحية العملية؛ باعتبار أن المسيطر على القرار الفعلي لمجلس الأمن هو الدول

الخمس الكبرى؛ أي أن النظام العالمي في هذه الفترة هو عملياً نتاج هذه القوى

وعلى شاكلة هذه الدول نفسها وقدرتها. كما أن إفساح المجال لكل الدول المستقلة

للدخول في عداد الأمم المتحدة هو في الواقع محاولة إسباغ العالمية على المنظمة

الدولية؛ ومن ثم ربط هذه الدول بمواثيق ومعاهدات من الصعب الإفلات منها

بسهولة، وهذا ما حدث فعلاً عبر شبكة المنظمات والوكالات المتخصصة التابعة

للمنظمة الدولية؛ بحيث باتت جميع الدول المنضمة تحت لواء المنظمة الدولية

أسيرة سياسات النظام العالمي المفروض على الدول الأخرى، والتي لا حول لها

ولا قوة إلا الدخول والمضي فيه؛ بصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة

والمعزولة عملياً، وظهر أن التوسع القاعدي لعدد الدول في تركيبة النظام العالمي

وتحلُّقها حول الأحلاف وخصوصاً بين المحورين الأساسيين أدى إلى انقسام واضح

على المستوى العقائدي والسياسي والاقتصادي بين الدول، وهو ما انعكس سلباً

على النظام العالمي في ظل الأمم المتحدة، وجعل هذا النظام أداة بيد الدول المؤثرة

فيه من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، كما أن حصر التنافس عملياً بين واشنطن

وموسكو آنذاك على قيادة النظام العالمي أدى عملياً إلى تهميش كل القوى الواعدة

للمنافسة معهما، وبذلك ظلت جميع الأطراف الأخرى دولاً تابعة بصرف النظر عن

قوتها وقدرتها التي تبدو بأنها لا يستهان بها؛ كنموذج (اليابان، وألمانيا،

وإيطاليا) ، ومجموعة الدول الأوروبية (كفرنسا وبريطانيا شركاء الحلفاء في

الحرب) .

* سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج عام ١٩٩٠م:

منذ منتصف الثمانينيات بدأ التأكيد أن شيئاً ما سيحل محل النظام العالمي القائم،

وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى العديد من الأسباب المتعلقة بوضع الاتحاد

السوفييتي الداخلي من جهة، وأزمة النظام الغربي وتطوره المطرد والمتسارع،

والسباق على التطور التكنولوجي للأغراض الاستراتيجية ذات الصلة بالهيمنة

الدولية.

لقد اتجه النظام الدولي خلال هذه المرحلة نحو أحادية القطبية بعد انهيار

الاتحاد السوفييتي وظهور الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الغربي منفردة

بقيادة العالم، وتمدد دورها وهيمنتها على الأمم المتحدة. وقد شهدت هذه المرحلة

زيادة عدد الدول نتيجة الانقسامات والانشقاقات التي حدثت في كثير من الدول.

وفي الوقت نفسه يشير النظام خلال هذه المرحلة إلى أنواع تفاعلات جديدة تركز

على الجوانب الثقافية وتوزيع مصادر القوة والنفوذ بصورة جديدة تعطي دوراً أكبر

للمنظمات غير الحكومية؛ مما جعل بعض المحللين يطلق عليه اسم النظام العالمي

الجديد بدلاً من النظام الدولي الجديد.

وكما هو الحال في أعقاب انهيار نظام دولي ونشوء نظام آخر؛ قامت حرب

جديدة، وتم اتخاذ أسباب مباشرة لها كتهديد عراقي للنظام الدولي، ولكن في واقع

الحال كما هو في المرات السابقة؛ فإن الأسباب الحقيقية كانت تكمن في رغبة القوة

الدولية المهيمنة في فرض نظام جديد يقضي على عيوب النظام السابق من وجهة

نظرها، ويغير من المعادلات التي تحد من نفوذها وهيمنتها بما يناسب حجم قوتها

بوصفها قوة أولى ومهيمنة على العالم.

وقد حدد بوش الأب في خطابه الشهير أمام الكونجرس في ١٤/٤/١٩٩١م

المبادئ العامة التي ستحكم النظام العالمي، فكان مما قاله: «كانت الولايات

المتحدة على مدى قرنين من الزمان هي المَثَلُ الأعلى للعالم في الحرية والديمقراطية،

وقد حملت أجيال متعددة راية النضال للحفاظ على الحرية وتعظيم المكاسب التي

حققتها، واليوم وفي عالم يتحول بسرعة شديدة؛ فإن زعامة الولايات المتحدة لا

غنى عنها. لقد أنقذنا أوروبا، وتغلبنا على الشلل، ووصلنا إلى القمر، وأضأنا

العالم بثقافتنا، والآن ونحن على مشارف قرن جديد نسأل: لمن يُنسب هذا العصر؟!

إنني أؤكد أنه سيكون عصراً أمريكياً آخر» .

كانت من أبرز ملامح هذا العصر الأمريكي مشاركة واشنطن في خلق البؤر

المناسبة للصراعات الإقليمية، ومن ثم التدخل في إدارتها وصولاً إلى فرض

الحلول المناسبة لها من الوجهة الأمريكية البحتة؛ كما طبقت وفرضت أساليب

جديدة لفرض مشيئة منطق القوة في السياسة الدولية؛ كما جرى تهميش جميع القوى

الأخرى في العالم وعزلها عملياً عن مواقع الحل والربط، وربطها بأزمات داخلية

اقتصادية مالية ذات صفة وخلفيات سياسية، وهو الأمر الذي أدى إلى غياب تام

لتوازن القوى العالمي، وابتدعت مفهومات ومصطلحات ظاهرها مختلف عن

خلفياتها ومضمونها، وسوغت أعمالاً بحجج واهية ليس لها أي علاقة لا من قريب

ولا من بعيد بالقضايا التي تطرح من أجلها كنموذج (العقوبات الذكية) .

وفي الجانب الاقتصادي كان الإعلان رسمياً عن جذوة النصر للرأسمالية

الحديثة القادرة على عولمة ما يخطر ولا يخطر على البال؛ بدءاً من حرية التجارة

العالمية، وإلغاء الحواجز الجمركية وفتح الأسواق المالية دون قيد داخلي؛ مروراً

بالتدخل في السياسات العامة للدول عبر ظاهرة المديونية، وسياسات التخصيصية،

وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات المالية ذات الهوية والمنشأ

الرأسماليين، وصولاً إلى تطويع دول العالم وفقاً لمنظور معين من التدخل من

الصعب تخطيه أو تجاهله؛ بدءاً من عالم الاتصالات والثقافة، ووصولاً إلى سلوك

البشر وأمزجتهم وتفكيرهم.

إن مجمل تلك المظاهر قد ساعدت في تأجيج العداء للولايات المتحدة الأمريكية

بشكل غير مسبوق، وجعلها في الموقع المسؤول عما جرى في ظل قيادتها للعالم.

* أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م:

قبل أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق

كبير، فكثير من القوى العالمية مثل أوروبا والصين وروسيا، وحتى الكيانات

الضعيفة؛ بدأت في رفض الهيمنة الأمريكية على العالم، فقد اعتادت معظم

وسائل الإعلام الأوروبية كما اعتاد العديد من الزعماء على اتهام واشنطن بالأحادية

غير المكترثة، وكانت أميركا على وشك تعريض علاقاتها مع روسيا للخطر

بسبب الدفاع الصاروخي؛ كما اتجه بعض زعماء أوروبا نحو إثارة علامات

الاستفهام بشأن أهمية الأمن المشترك في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة، وبات

جيش أوروبا على وشك أن يصبح خارج إطار حلف الناتو يقوم بمهام غامضة

حددت أساساً وفقاً لسياسة الابتعاد السياسي عن الولايات المتحدة، وأخذت تسلك

مسلكاً وتشق عصا الطاعة على القطب الأمريكي؛ كما أن كثيراً من المناطق

الجغرافية في العالم أصبحت خارج السيطرة.

وهناك عامل كبير أخذ في البروز والتشكل، وهو سيطرة اليمين البروتستانتي

على السياسة الأمريكية، وهذا الفريق له أجندته الخاصة في العالم وقيمه ومفهوماته،

وكما قال المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميث بالحرف الواحد: «إن سطوة

المثقفين الإمبرياليين من غلاة القوميين المتمركزين حول أنفسهم في واشنطن الآن

أقوى من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، وسوف تكون لهذه النزعة

الأحادية الانفرادية الكفة العليا في أمريكا لعدة عقود مقبلة» .

وكما هو في السابق فقد تم اتخاذ حادث ضرب برجي نيويورك وتفجير

البنتاجون ذريعة لشن حرب تفرض فيها الولايات المتحدة مفردات جديدة لنظام

عالمي جديد يلبي المطالب الأمريكية في الهيمنة والنفوذ، فانهالت العروض

الأوروبية بشأن الانضمام للحملة الدبلوماسية والعسكرية الأميركية ضد الإرهاب؛

كما أن روسيا أصبحت شريكاً في الحملة ضد الإرهاب، ووفرت الصين معلومات،

كما أن العلاقات مع الهند نمت بشكل أفضل على الرغم من اعتماد أميركا على

القواعد الباكستانية في الحرب ضد أفغانستان، وقامت الولايات المتحدة بخطوات

إيجابية تجاه إيران، كما أن الدولتين اللتين تعرضتا لهزيمة خلال الحرب العالمية

الثانية (ألمانيا واليابان) تخلتا عن المعوقات الداخلية السابقة؛ إذ بعثت ألمانيا

بقواتها متخطية حدود حلف الناتو، ونشرت اليابان سفناً في المحيط الهندي بعيداً

عن مياهها الإقليمية؛ لا شيء من هذه الخطوات كان متوقعاً قبل ستة أشهر مضت

من الحادث.

باختصار أدى العدوان على أميركا إلى إقناع الدول الكبرى بأهمية الدور

الأميركي، ونتيجة لذلك فإن الولايات المتحدة وللمرة الأولى خلال نصف قرن لم

تعد تواجه خصماً استراتيجياً أو أي بلد وحيداً أو متحالفاً يستطيع أن يصبح كذلك

على الأقل خلال العقد المقبل، كما لم تعد الدول الكبرى الأخرى تنظر إلى أمريكا

على أنها تشكل تهديداً استراتيجياً، والخطر الذي يتعرض له جميعهم لا يأتي عبر

الحدود، وإنما من خلايا إرهابية مزروعة داخل بلدانهم أو من النزاعات بين قوى

عسكرية ثانوية.

لقد أدى يوم الحادي عشر من سبتمبر إلى إقناع أوروبا بأنها لا تمتلك وسائل

الانتقام من هجمات مشابهة، وبأن الحاجة لعلاقات أمنية عبر المحيط الأطلسي تظل

قائمة؛ كما أن التحسن الواثق للعلاقات الروسية الأميركية يستبعد الحاجة إلى دور

الوساطة المبكر بين روسيا وأميركا، والذي حاول بعض قادة أوروبا القيام به؛

ولهذه الأسباب تبنَّى مجلس حلف الناتو ولأول مرة في تاريخ الحلف خلال ثمانٍ

وأربعين ساعة من الهجمات الإرهابية طبقاً للمادة الخامسة من معاهدة الحلف التي

تسمح بالقيام بإجراءات دفاعية مشتركة، وعكست الدبلوماسية المشتركة التي برزت

تأكيداً أكبر على التعاون الثنائي مع واشنطن؛ انطلاقاً من أسس وطنية وضمن

إطار شمال الأطلسي بدلاً من هيئات الاتحاد الأوروبي، وقد دعمت دبلوماسية

التحالف الفطنة التي اتبعتها إدارة الرئيس بوش بقوة هذه العملية.

وكما قال أحد خبراء العلاقات الدولية: لو لم توجد أحداث ١١ سبتمبر

لأوجدتها أمريكا.

* اجتياح العراق ٢٠٠٣م:

لقد تميز هيكل النظم الدولية كما مر بنا باستعراض المراحل السابقة بأنه يعبر

عن مجموعة من الدول الكبرى؛ بحيث يمكن أن تكون أحدها أقوى من الجميع،

ولكن هي في محل قيادة لهم، وليس تسلطاً وتجبراً عليهم وتهميشاً لهم، وهذا الدور

مارسته بريطانيا في كثير من مراحل النظام الدولي، ولكن كان بجانبها قوى أخرى

كان لها رأيها النافذ والمتحكم أيضاً كفرنسا، والنمسا، وألمانيا، وروسيا، وأمريكا،

في مراحل مختلفة، وتميزت هذه النظم بأنه عندما تريد دولة أو تحاول حتى

الانفراد بالهيمنة؛ فسرعان ما تندلع الحرب لتعيد التوازن أو شبه التوازن مرة

أخرى، ولكن في النظام الدولي الجديد بدأت أمريكا في الشروع بالانفراد الذي يعني

إخضاع الآخرين وعدم السماح بنفوذ لهم في هيكل النظام الدولي، وكان من أبرز

مظاهر هذا الطغيان والتجبر:

- جعل أمريكا مركز العلاقات الدولية: فقد بدأت الولايات المتحدة محاولة

إخضاع جميع التفاعلات الدولية لأسلوب أنها لا بد أن تمر بالمركز. وإذا لاحظنا

في السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة فسنجد أن هناك أكثر من محاولة، وكل

شيء في العالم لا يمر إلا عن طريقها: الصراع العربي الإسرائيلي، كوسوفا

البلقان، وأصبحت أمريكا هي المركز الذي يجب أن تمر عبره جميع التفاعلات،

وليس لبقية القوى في هيكل النظام الدولي نصيب.

- التدخل في العلاقات الإقليمية والثنائية: حتى العلاقات الأخرى الصغيرة؛

ولكن أقل من العلاقات السابقة على سبيل المثال: روسيا واتفاقها مع إيران؛

فالمفروض أن هذا بعيد عن أمريكا، ولكن اتفاقية مع إيران يجب أن يكون

للأمريكان دور فيها، ولذلك كل المحاولات والاتفاقيات نجدهم موجودين فيها،

ويطلبون من الروس شروطاً؛ فلا يريدون لشيء أن يحدث إلا من خلالهم.

- إخضاع حكام العالم: حقن العالم بشعور أن حكامه ليسوا أكثر من مجرد

حكام محليات، وظلت الولايات المتحدة تزيد من هذه الفجوة، وتحكمت في أشياء

كثيرة منها المعونات الاقتصادية والعسكرية والتجارة الخارجية، والبيع والشراء،

وأصبح الحكام مكلفين؛ هذا يعمل هذا، والآخر يعمل هذا، ومن ثم أصبح الحكام

لهذه الدرجة يخدمون هذا النظام الدولي الأمريكي.

ومن ثم بدأ التململ يحدث في النظام الدولي، ومن مظاهره الانقسام الحاصل

في الجسد الأوروبي، وبروز ما يسمى بالمحور الفرنسي الألماني ضد الولايات

المتحدة يؤكد مدى رفض القوى الدولية واستنكارها للغطرسة الأميركية، ومحاولة

واشنطن فرض هيمنتها الكونية، وإلغاء دور الآخرين وإزاحتهم من المشهد الدولي

كلاعبين أساسيين، وهو تأكيد أيضاً لواشنطن بأن الدول الأوروبية ليست تابعة

للولايات المتحدة، وأن لها مصالح في بقاع العالم المختلفة ينبغي إدراكها ومراعاتها.

والواضح أن جبهة الرفض العالمية للحرب تتسع شعبياً ورسمياً؛ إذ انضمت

(روسيا والصين) إلى (باريس وبون) في المطالبة باحترام الشرعية الدولية،

والتأكيد على الحل السلمي، وإعطاء مهلة أكبر لفرق التفتيش لممارسة مهامها.

لقد بدأ القلق يتنامى داخل أوروبا - بشكل عام - وفرنسا وألمانيا على وجه

الخصوص؛ عندما أعلنت إدارة بوش الابن عن استراتيجية الأمن القومي الأميركي

الجديدة، وتبني مفهوم الضربات الاستباقية، وفطنت أوروبا إلى أن العقيدة الأمنية

الأميركية تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الأحادية خلال القرن الـ ٢١ ليكون قرناً

أميركياً، حتى لو أدى ذلك إلى وأد نمو القوة الأوروبية المستقلة على الصعيد

الدفاعي، ويعني ذلك أول ما يعني تهميش كل من فرنسا وألمانيا وقطع الطريق

على تطوير الدفاع الأوروبي المستقل؛ أي أن مصلحة الولايات المتحدة تتمثل في

نكوص الأوروبيين بقيادة فرنسية ألمانية عن الاضطلاع ببناء قوة عسكرية أوروبية

قادرة على توفير غطاء مستقل لأمن القارة بعيداً عن الغطاء الأطلسي.

وبذلك بدا النظام الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية لا يعبر حقيقة عن

هيكل النظام الدولي، وظهر ما يشبه الصراع بين قوة تحاول تحطيمه وصياغة

نظام جديد يتفق مع إمكانيتها وطموحها، وبين قوى تحاول الاحتفاظ به والتشبث

بقواعد قديمة تحفظ لها مكانتها في النظام الدولي؛ لذلك رجعت الإدارة الأمريكية

للأسلوب التقليدي في تغيير النظام الدولي وهو افتعال حرب تفرض من خلالها

نظامها الدولي الذي تريده، ولجأ بوش ومعه إدارته إلى حرب العراق مرة أخرى

نتيجة عدة اعتبارات معينة ليتم عن طريقها هيكلة النظام الدولي.

إن الحرب التي دارت في ربوع العراق لهي مفصل مهم لا يختلف عن

مفاصل تاريخ النظام الدولي كمعاهدة فيينا، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية،

وحرب الخليج الأولى، وأحداث ١١ سبتمبر؛ حيث إن نتيجتها سيتوقف عليها

كذلك تغيير كبير في النظام الدولي.

وخروج أمريكا منتصرة سيفرض نظاماً جديداً في خصائصه كما أسلفنا سابقاً،

وكما توقع مستشار ألمانيا جيرهارد شرودر؛ أن يقرر الغزو الأمريكي للعراق

مستقبل العالم لمدة خمس عشرة أو عشرين سنة؛ في انتظار القوة التي هي خير أمة

أخرجت للناس كي تتبوأ قيادة العالم مرة أخرى.