[المدن السنية العراقية والاستراتيجية الأمريكية]
إبراهيم العبيدي
أصبح من الواضح لكل متابع للقضية العراقية، أن الاستراتيجية الأمريكية ومعها الحكومة العراقية برئاسة (الائتلاف الشيعي) في العراق، تقوم على سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية للمدن السنية، والتهميش المتعمد للسنة العرب لمنعهم من المشاركة السياسية الفاعلة، والحيلولة دون ممارستهم دورهم السياسي الحقيقي المفترض في العراق الجديد. ويبدو أن هذه الأستراتيجية قد تم الاتفاق عليها بين قوات الاحتلال الأمريكي والأحزاب الرئيسية في الائتلاف الشيعي كالمجلس الاعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة بقيادة إبراهيم الجعفري، وبغطاء من المرجعية العليا في النجف والمتمثلة بالمرجع الديني (علي السيستاني) وبدعم إيراني مطلق قبل وبعد سقوط بغداد في التاسع من نيسان ٢٠٠٣م.
لقد تلاقت مصالح الشيعة الموالين لإيران مع المصالح الأمريكية في احتلال العراق؛ لذلك فقد أبدى الشيعة تعاوناً مطلقاًَ مع القوات الامريكية لتسهيل مهمة احتلال العراق. (وهو الدور التاريخي نفسه المعروف الذي قام به ابن العلقمي نصر الدين الطوسي الوزير العباسي في سقوط بغداد على يد التتار آنذاك) مقابل تأمين نفوذهم في العراق الجديد، وتحقيق مكاسب سياسية للشيعة «الصفويين» الموالين لإيران، لتعيد إيران إمبراطوريتها الفارسية الصفوية في بلاد الرافدين والخليج، بما يُعرف بـ (الهلال الشيعي) .
إن استخدام القوة المفرط الذي تنتهجه القوات الأمريكية والقوات العراقية في معالجة ما يسمى بـ «الإرهاب» والمحصور في المناطق السنية تحديداً أمر مثير للريبة والقلق؛ حيث إن من المعلوم أن معالجة الإرهاب في كل العالم وكما نسمع ونشاهد، تتم من خلال معلومات استخباراتية ترصد خلايا الإرهاب، ومن ثم يتم القبض عليهم أفراداً أو جماعات من قِبَل الأجهزة الأمنية المتخصصة، كما حصل ذلك في كثير من دول العالم، ومن دون اللجوء إلى عمليات عسكرية واسعة النطاق، يروح أكثر ضحاياها من المدنيين الأبرياء.
إن استخدام القوة العسكرية الكبيرة، واستخدام المسموح وغير المسموح من الأسلحة التي يساندها القصف بالطائرات والمدافع والدبابات، لتتحول بعدها مدن بكاملها أثراً بعد عين، ويتم قتل وتشريد آلاف العوائل كما حصل لمدينة الفلوجة في العام الماضي؛ حيث تم قتل أكثر من ٣٥٠٠ مدني، وتشريد أكثر ٢٠٠٠٠٠ شخص، وتدمير أكثر من ١٥٠٠٠ وحدة سكنية وعشرات المساجد، وتدمير البنى التحتية للمدينة بأنواعها: الكهرباء والماء والصحة والصرف الصحي.. (بحسب إفادات منظمات إنسانية عراقية) . بعد كل هذا التدمير الشامل (وكما وصفته الصحافة الغربية بأنه أكبر عملية تدمير للمدن حصلت بعد الحرب العالمية الثانية) يطالعنا يومها القادة الميدانيون الامريكيون والسياسيون في (حكومة علاوي) ، من أن الارهابيين تمكن كثير منهم من الهروب خارج الفلوجة إلى مدن أخرى.
وهكذا يتم ويتواصل مسلسل الإبادة الجماعية والتدمير لمدن اخرى، على غرار ما حصل لمدينة الفلوجة، ومدينة تلعفر، والتدمير متواصل في جميع المدن السنية كالرمادي، وسامراء، والموصل، والقائم، وحديثة، وعانة، واللطيفية، وأبو غريب، ومناطق جنوب بغداد إلى غيرها من المدن السنية التي تشهد مقاومة ضد قوات الاحتلال لإخضاعها؛ فالمدن السنية تخضع لخطة إرهاب دولة منظم من قِبَل الحكومة العراقية وقوات الاحتلال.
- الجانب الشيعي:
دوافع الجانب الشيعي في حرق المدن السنية في العراق هي دوافع «طائفية حاقدة» تنطلق من موروث ثأري تأريخي مغلوط ضد أهل السنة، منذ العهد الراشدي وحتى اليوم، يتوارثونها حاقداً عن حاقد للطعن في الإسلام وحَمَلته من العلماء والخلفاء، وإليك نموذجاً من امتداد هذا الحقد المتواصل الدفين ضد أهل السنة، تلك الكلمات والتصور والعقيدة والاستراتيجية التي عليها القوم، أطلقها مدوية نهاراً جهاراً «علي كريمي» أحد المرجعيات الشيعية في خطبة جمعة ألقاها في قم الإيرانية بعد سقوط بغداد مباشرة في ٩/ ٤ / ٢٠٠٣، والتي يحرض فيها على قتل أهل السنة بقوله: «اليوم يا أهل الشيعة في العراق.. يا خاصة علي وفاطمة! بعد أن استعيد ملككم المغتصب وحقكم المستلب عليكم أن توقفوا الزحف السني البكري العمري الأموي والوهابي إلى بغداد.. عليكم أن تنتهكوا أعراضهم مثلما انتهكوا أعراضكم أيام صدام - على حد زعمه - عليكم أن تشردوهم وتقتلوهم كما قتلوكم وشردوكم.. شدوا على أيدي إخوانكم من فيلق بدر وساندوهم في إتمام مهمتهم في القضاء على كلاب السنة الوهابية أولاً ثم عامتهم من الجِراء - أي صغار الكلاب ـ كبيرهم كافر وصغيرهم زانٍ» .
وبحسب وزارة الثقافة والإعلام العراقية ووزيرها المعين مفيد الجزائري، أن ما مقداره ٥٠٠ ألف كتاب ديني دخل العراق من إيران، ذكر انها تحمل فكراً معادياً لما أسماه: (أهل العامة) والمقصود به أهل السنة في العراق؛ وكان من أهمها خطبة المرجع الديني (علي كريمي) التي أشرنا اليها. فهل هذه هي استتراتيجية الحكومة العراقية الموجهة من إيران في كيفية محارية أهل السنة وتحقيق الأهداف الطائفية في العراق والمنطقة؟
- أقوال وإفادات دالة:
- ما صرح به وزير الداخلية العراقي (بيان جبر صولاغ) «الإيراني الاصل» في مؤتمره الصحفي أثناء الحملة العسكرية على مدينة القائم قبل فترة قال: «نحن مستعدون أن نتعاون مع الشيطان لمحاربة الإرهاب» والإرهاب كما هو معلوم في نظره هم السنة العرب بكل أطيافهم وتوجهاتهم؛ والواقع الممارَس يدل على ذلك.
فحملات الاعتقال (أكثر من مائة ألف سجين سني في السجون العراقية والأمريكية، بحسب إفادة نائب رئيس الوزراء العراقي «عبد مطلك الجبوري» أثناء مساعيه للإفراج عن المساجين) والاغتيال والإقصاء الوظيفي التي طالت أبناء السنة العرب ورموزهم أكبر شاهد على الممارسة الطائفية لهذه الحكومة.
- الدكتور طارق الهاشمي أمين عام الحزب الاسلامي العراقي «السني» في برنامج (بلا حدود) عبر قناة الجزيرة الفضائية مؤخراً، قد أشار إلى ما تتعرض له المدن السنية، والسنة العرب تحديداً، من ممارسات قمعية من قِبَل الحكومة العراقية والقوات الامريكية، ووصفها بحرب إبادة وبالتطهير العرقي الذي وقع في يوغسلافيا في الحرب الأخيرة. وهذا الموقف تؤكده كل المرجعيات السنية الكبيرة مثل الوقف السني، ومؤتمر أهل العراق، وهيئة علماء المسلمين، ومجلس الحوار الوطني.
- وحتى الزعيمان الكرديان مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان، وجلال الطالباني رئيس الجمهورية، في مذكرتهما الأخيرة إلى رئيس الوزراء (إبراهيم الجعفري) التي هدد فيها الزعيمان الكرديان بإنهاء التحالف مع كتلة «الائتلاف» الشيعية إذا لم يطبق الاتفاق الذي وقّعه مع «التحالف الكردستاني» الذي مهد لتشكيل الحكومة، وطالباه بوضع حد لـ «الجرائم الكيفية بحق السنّة العرب» .
- الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في تقريره له إلى الأمم المتحدة قال: «إن حق المدنيين العراقيين في الحياة راح ضحية عوامل مثل الإرهاب والجريمة والتجاوزات العسكرية» .
وأضاف: «إنه فضلاً عن هجمات المسلحين فإن هناك قلقاً متزايداً بشأن العمليات العسكرية التي تنفذها القوة المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة والتي أفضت إلى حدوث وفيات وإصابات وتشريد بين المدنيين بسبب استخدام القوة بشكل مفرط أو يفتقر إلى التمييز فيما يبدو» .
- والذي يعزز هذا التوجه الأمريكي في استخدام القوة المفرطة ضد المناطق السنية في العراق، هو مطالبة الإدارة الشديدة في اجتماع الجمعية العمومية الأخير للأمم المتحدة، على حذف عبارة: «إن الهجمات على المدنيين تعتبر عملاً إرهابياً» من وثيقة مكافحة الإرهاب، وهو دليل قاطع على تبييت النية على استباحة المدنيين.
فكم تبجحوا هم وأعوانهم في الحكومة العراقية الطائفية بجرائم صدام ضد العراقيين، وهاهم اليوم يحاكونه في البطش العشوائي بالمدنيين الأبرياء، فعلوها من قبل بالفلوجة وتلعفر ويفعلونها الآن في مدينة حديثة من المنطقة الغربية، وأنجزوا من القتل والتدمير في سنتين ونصف أكثر مما أنجزه صدام بأكثر من ثلاثة عقود، أنها فعلاً تكنولوجيا الديمقراطية الحديثة؛ فهل ذهب صدام الفرد ليحل محله صدامون كثر؟ إنها فعلاً أمُّ المهازل.
- وآخرها التصريحات الخطيرة من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمره بمقر السفارة السعودية في نيويورك؛ حيث شخَّص الواقع العراقي بالطائفي الخطير بقوله: «إن السياسة الأمريكية في العراق عمقت الطائفية، وسلمت العراق لإيران» في إشارة إلى النفوذ الإيراني الكبير في جنوب العراق، وتسليح المليشيات الشيعة الموالية لها. وهذا التشخيص للواقع العراقي قد لاقى ترحيباً وتأييداً كبيراً في وسط العرب السنة والتشكيلات الوطنية الأخرى في العراق، وعلى رأسهم الحزب الإسلامي العراقي وهيئة علماء المسلمين والوقف السني ومؤتمر الحوار الوطني وغيرهم. بالإضافة إلى الترحيب الإقليمي العربي، ولا سيما في دول الجوار العراقي والجامعة العربية، والتي على أثرها سيتم عقد مؤتمر مصالحة وطنية شاملة لكل مكونات المشهد العراقي تحت مظلة الجامعة العربية، وهو إنجاز كبير ولا شك «إذا ما تم» للجامعة العربية بخصوص القضية العراقية بعد سبات طويل. يأتي ذلك بعد ان أيقنت قوات الاحتلال الأمريكي والحكومة العراقية أنهما في مستنقع كبير، وأن الحل الأمني القمعي والعسكري لم يفتَّ في عضد العراقيين المقاومين، ولم يحقق شيئاً من الأمن والاستقرار على الأرض، وأنه وصل إلى طريق مسدود في العراق، ولا بد من حلول سياسية تلبي طلبات الشريحة الأكبر من الشعب العراقي الرافض للاحتلال وسياساته.
- الجانب الأمريكي:
أما دوافع القوات الأمريكية في حرق المدن السنية فهي دوافع «سياسية عسكرية» ؛ فكما لا يخفى أن الطرف السني العربي لم يكن شريكاً فعلياً في مؤامرة احتلال العراق، كما هو حال الطرف الشيعي والكردي العلماني في (مؤتمر لندن وصلاح الدين) فمنذ ذلك الوقت وُضع العرب السنة خارج اللعبة لعدم انسجامهم مع المشروع الاستعماري الجديد للعراق، وأن المقاومة الوطنية المسلحة قد انطلقت شرارتها من المدن السنية، وهو الأمر الذي جعل من العرب السنة هدفاً مباشراً لقوات الاحتلال والحكومة العراقية الشيعية العميلة لها. فأصبح السنَّة العرب والقوى الوطنية الأخرى المناهضة للاحتلال حجر عثرة أمام المشروع الأمريكي - الشيعي في العراق.
فهل سيبقى العرب السنة وحدهم يدفعون ضريبة مواقفهم الوطنية، في مقاومة الغزاة، والدفاع عن هوية العراق التاريخية والإسلامية ووحدة أرضه وشعبه من دون أن تمتد إليهم يد العون والمساعدة من إخوة الدين والعروبة لنصرتهم؟