للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

[بين طب الأدلة وفقه الأدلة]

د. أيمن بن أسعد عبده

في السنوات العشر الماضية، حدث تطور كبير وهام في طريقة التفكير

الطبي وحل المشكلات الطبية. ويتمثل هذا التطور في التحول التدريجي من الطب

المبني على الخبرة والتجربة إلى الطب المبني على الأدلة والنتائج المستخلصة من

البحث العلمي.

وقد بدأ هذا المنهج الجديد في الانتشار نتيجة لإدراك بعض العلماء والأطباء

أن كثيراً مما كان يعتقد أنه ثوابت طبية وحقائق علمية لا تقبل الجدل هي في

الحقيقة افتراضات متوارثة لم تثبت بالدليل العلمي القوي، ولم تخضع للأبحاث

العلمية المقننة. وبناءاً على ذلك تم إخضاع كثير من المسلَّمات في الموروث الطبي

إلى هذه المقاييس، فثبت بعضها، وتبين خطأ بعضها الآخر. وبعد ذلك لم يعد

يقبل من أحد أي ادعاء دون أن يكون مدعماً بالدراسات القوية المؤيدة لصحته؛

فتكون قوة الادعاء وضعفه مرتبطة بقوة الأدلة المصاحبة وضعفها.

وصار هذا المنهج هو حديث الوسط الطبي الأكاديمي، وصارت المهارات

اللازمة لممارسة هذا النوع من التفكير الطبي جزءاً أساسياً في التعليم الطبي لطلاب

كليات الطب الغربية والأطباء المتدربين.

وأحسب أن لانتشار هذا النوع من التفكير أسباباً عديدة لعل من أهمها انسجامه

مع المنهج التجريبي الاستقرائي الذي سيطر على الفكر الغربي بشكل عام، والذي

يُخضِع كل شيء للبرهان المنطقي أو العلمي.

وكلما تأملت هذا النوع من الطب ودرسته ومارسته وجدته امتداداً للتفكير

العلمي الإسلامي الذي وُضِعت أصوله، ومورس في شتى مجالات العلوم الشرعية

منذ أكثر من عشرة قرون. يبدو ذلك جلياً في مناهج الأصوليين والفقهاء وعلماء

المصطلح وغير ذلك من العلوم الشرعية. وفي هذه المقالة أسجل على عجل بعض

النقاط الهامة التي تبين التشابه بين الفكر الطبي المبني على الأدلة وبين الفقه

الإسلامي؛ وذلك عن طريق استعراض بعض القواعد الأساسية في طب الأدلة التي

تستخدم الآن في التفكير الطبي الحديث، ومن ثم مقارنتها على عجل ببعض ما

تقرر عند العلماء المسلمين الأوائل من القواعد الشرعية وأصول الاستدلال.

أولاً: كل قول يردُّ على صاحبه ما لم يكن مدعماً بالدليل العلمي:

هذا هو الأساس الذي بني عليه طب الأدلة؛ حيث إن أي رأي أو دعوى

علمية لا تمثل سوى رأي شخصي فحسب ما لم تكن مدعومة ومؤيدة بالدليل العلمي

ومن الطريف أنه في السابق كانت عوامل أخرى مثل طول الخبرة والسن

والجنسية تمثل العوامل المحددة لقبول الأقوال والآراء، فكان الاستشاري الأكبر سناً

أو الأقدم خبرة يفتي في كل مرض، فيقنن ويصنف ويصحح ويخطِّئ، ولا يستطيع

أحد مناقشته أو الرد عليه، ويعد قوله في نفسه دليلاً. أما الآن فإن أصغر الجالسين

سناً وأقلهم خبرة بوسعه أن يطلب بأدب أو بغير أدب من هذا الطبيب دليلاً علمياً

يؤيد قوله ويناقشه في دليله بشكل علمي موضوعي، فإن لم يكن للقول دليل يستند

إليه رد على صاحبه كائناً من كان. كما أن بوسع طالب الطب الصغير أن يرد كلام

الأكبر منه خبرة وسناً إذا توصل إلى دراسة أو بحث علمي قوي يؤيد قوله.

وفي العلم الشرعي وبخاصة في علم الفقه فإن التشريع لا يكون إلا بالدليل

الشرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع. قال الله تعالى: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ

بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء: ٣٦) . فكل قول في دين الله تعالى ينظر في دليله، فمتى ما

وجد الدليل وصح أخذ بالقول وإلا اعتبر رأياً لا يمثل الشرع بالضرورة، وأما إذا

خالف القول الدليل رد على صاحبه ولم يقبل. إن هذه القاعدة من أهم القواعد

المعرفية في الدين الإسلامي.

ثانياً: عند التعارض بين الأقوال تقدر قوة القول

على حسب قوة دليله:

فإذا تقرر أن كل قول يستمد شرعيته من دليله، فإنه يستمد قوته وضعفه من

دليله. وقوة الدليل تتعلق بعناصر أساسية منها:

١ - نوع الدليل:

قسَّم علماء طب الأدلة الأدلة الطبية إلى مراتب ومستويات بحسب قوتها

الدلالية، فاعتبروا أقوى الأدلة هي الدراسات المبنية على العينات العشوائية المعماة،

تليها غير المعماة، ثم الدراسات الاستقرائية المستقبلية، ثم الرجعية، ثم

الدراسات الوصفية. فعند تعارض الأقوال وتناقضها ينظر في أدلة كل قول،

ويكون التفاضل بين الأقوال بحسب نوع الدليل المصاحب لها. ولقد تقرر في الفقه

الإسلامي أن أقوى الأدلة هي الأدلة من القرآن الكريم الذي يقدم المحكَم فيه على

المتشابه، وأدلة السنة الصحيحة، وفيها يقدم القول على الفعل، والقول على

الإقرار، ثم الإجماع وتعتمد قوته على عصره ومن حكاه، ثم بالقياس، وعند

التعارض تتفاضل الأدلة بهذه المقاييس الدقيقة.

٢ - صحة الدليل:

لا بد حتى يمكن الاستشهاد بالدليل من التأكد من مصداقيته وصحته. فلا بد

من استيفاء الدراسة الطبية للشروط الأساسية للبحث العلمي، فوضعوا لكل نوع من

الدراسات السابقة عناصر أساسية وعناصر ثانوية لا بد من استيفائها لقبول الدراسة

ويكون هذا عاملاً مهماً في قوة الدليل وضعفه. وبالمثل فإن صحة الدليل في الفقه

الإسلامي شرط أساس لقبول الدليل. ولما كان القرآن محفوظاً بحفظ الله عز وجل

وضع علماء المصطلح القواعد والضوابط التي تقاس بها صحة الأحاديث

والمرويات عن الصحابة. وتمثل هذه النقطة سبباً مهماً لاختلاف الأقوال بين

العلماء سواء في الطب أو الفقه؛ فعلى الرغم من الضوابط العلمية التي تحكم صحة

الدراسات الطبية فإنها لا تزال تخضع لمدارس علمية مختلفة، وتعتمد على تمرس

الناقد وخبرته في التعامل مع الدراسات الطبية. وكذلك الحال بالنسبة للفتاوى

الشرعية؛ حيث يعتبر الاختلاف في ثبوت الدليل وصحته أحد أهم أسباب

الاختلافات الفقهية.

٣ - مصدر الدليل:

هذه النقطة متعلقة بما سبق؛ فالدراسات المنشورة في مجلات علمية معروفة

يكون لها أفضلية على الأبحاث المنشورة في مجلات مغمورة. وكذلك إذا كان

مصدر الدراسة مجموعة من الباحثين المعروفين في المجال ولهم باع طويل فيه،

كان ذلك أدعى إلى قبول الدراسة بعد استيفاء شروط الصحة.

والقول في الفقه مرتبط أيضاً بمصدره؛ فالحديث في صحيح البخاري مثلاً

يقدم على حديث معارض له عند الديلمي مثلاً، والفتوى الصادرة من أحد الأئمة

الأربعة مثلاً ليست كالصادرة عمن دونهم وهكذا.

ثالثاً: تعتمد النتائج المستخلصة من الدليل على فهمه:

بعد أن تأكدنا من وجود الدراسة المؤيدة للقول، وكذلك من سلامة بناء الدراسة

وقوة نوعها، صارت هذه الدراسة صالحة للاستدلال. وننتقل للخطوة التالية وهي

فهم الدراسة لاستنباط النتيجة. ولهذه النقطة عناصر كثيرة أهمها:

١ - دقة الدليل في الدلالة على موقع الاستشهاد:

لا بد من التأكد من أن الدراسة المستخدمة دليل تدور حول نفس النقطة التي

يستشهد لها بالدراسة. فلا بد أن تكون في نفس المرض، وتكون قد أجريت على

مرضى مشابهين جداً للمريض المراد علاجه. وهذه النقطة هامة كذلك في

الاستدلال الفقهي؛ إذ لا بد من التأكد من أن دلالة الدليل هي في نفس النقطة مناط

البحث، وكلما كان الدليل أقرب وأكثر صراحة في الدلالة على المراد كلما كان

الاستشهاد به أقوى.

٢ - قوة دلالة الدليل:

أهم العوامل المؤثرة في فهم الدليل وتطبيقه هو قوة دلالة الدليل؛ فالنتائج

الرقمية للدراسة، وقوة نتائجها، تكسبها قوة أكبر، فلو ثبت أن علاجاً مَّا فعل

بنسبة ٩٠% فإنه يقدم على العلاج الذي فعاليته ٥٠% وهكذا. كما أن الدقة

الإحصائية لهذا الأثر عامل آخر مهم في التأكد من مصداقية النتائج. وفي الفقه يهتم

بالدلالات اللفظية للدليل لاستخلاص الأحكام الشرعية، وبحسب قوة الدلالات تكون

قوة الأحكام المستخلصة. فالأصل في الأمر مثلاً أنه يقتضي الوجوب عند انتفاء

الموانع، والمعاصي التي اقترن النهي عنها بالوعيد الشديد أو اللعن عدها العلماء

من الكبائر، وكثير من الأحكام تتفاضل في فضلها بحسب تفاوت ثوابها وهكذا.

٣ - انتفاء موانع التعميم:

في هذه النقطة ينظر في عينة الدراسة، من حيث السن واللون والجنس

والنشأة وغير ذلك للتأكد من أن هذه العينة المدروسة تمثل مجتمع المرضى المراد

تطبيق نتائج الدراسة عليهم. فلا يمكن لنتائج دراسة أجريت على الأطفال أن تطبق

على الكبار إلا أن يكون المرض لا يختلف بحسب العمر. وفي الفقه لا بد من التأكد

من أن النص المستخدم تدخل ضمنه الحالة المراد استخلاص الحكم فيها، فلا تكون

هناك قرينة توجب التخصيص، أو علة متعلقة بالحكم ينتفي بانتفائها.

٤ - استخلاص النتائج وتطبيقها:

بعد أن ثبتت لنا صحة الدليل وقوته، وبعد أن فهمناه فهماً صحيحاً، لا بد من

أن نستخلص من هذا الدليل نتيجة نهائية على الحالة التي أمامنا أو المشكلة العلمية

المراد حلها. ولهذه الخطوة الهامة مراحل أهمها:

أ - مقارنة الدليل بالأدلة الأخرى: عادة ما يكون في المشكلة الواحدة أكثر من

دراسة واحدة، تتفاوت في صحتها وقوتها ومصدرها ونتائجها، ولذلك فقبل التسرع

في استخدام نتائج أي دراسة لا بد من مقارنتها مع الدراسات الأخرى ومعرفة

موقعها الدقيق بينها، وهذا مقرر بشكل واضح في الفقه الإسلامي؛ حيث قرر

العلماء وجوب محاولة الجمع بين الأدلة وعدم ضرب بعضها ببعض وذلك وفق

ضوابط أصولية معروفة عند العلماء.

ب - معرفة الواقع المراد تطبيق الحالة عليه: ذكرنا في نقطة فهم الدليل

ضرورة التأكد من مطابقة الدليل للواقعة المراد الاستشهاد بها، فينبني على هذا

ضرورة فهم الحالة أو المشكلة المراد علاجها. ولذلك لا بد من التأكد من أن

مواصفات المريض المراد علاجه وحالته داخلة ضمن العينة التي تمت دراستها في

البحث، فإذا كانت الحالة مختلفة قليلاً فإنَّا ننظر إن كان الاختلاف بين الحالة وعينة

البحث اختلافاً هاماً يؤثر على النتائج فلا نأخذ بالدراسة، أم أنه اختلاف في أمر

فرعي لا يؤثر على النتائج فنأخذ بالدراسة. وفي الفقه تعتبر هذه النقطة عنصراً

هاماً في معرفة الأحكام وإنزالها على الواقع أو ما يعبر عنه بعض الأصوليين

بتحقيق المناط.

ج - معرفة النتائج العلمية الإيجابية والسلبية من التطبيق: قبل أن نصف

الدواء لا بد من معرفة ملاءمة الدواء لهذا المريض بالذات والتأكد من خلوه من

الموانع التي قد تجعله لا يستفيد من العلاج أو ربما يتضرر منه مثل أن تكون لديه

أمراض أخرى أو أن يكون يستخدم أدوية أخرى وهكذا، ولهذا فقد يعالج المرض

نفسه بأدوية مختلفة في مرضى مختلفين، بل قد يعالج المريض نفسه بأدوية مختلفة

في مراحل متعددة من مرضه، وقد يعدل عن الدواء الأكثر فعالية إلى دواء أقل

فعالية لوجود عوامل معينة مثل عدم تحمله للأعراض الجانبية. وفي الفقه تقدر في

كل أمر المصالح والمفاسد، وتدرس الموانع الشرعية التي قد تؤثر على تطبيق

الحكم مثل الضرورة والحاجة. بل قد يُفتى في المسألة الواحدة بفتاوى مختلفة

لاختلاف حال السائل، فيُفتى أحدهم بالرخصة والآخر بالعزيمة مثلاً. كما قرر

الأصوليون أن الفتيا تتغير بتغير المكان والزمان في المسائل الاجتهادية.

د - الاستئناس بالخبراء والمختصين في فهم الدليل وتطبيقه: وهذا من

العناصر المهمة؛ فإن الأفهام قد تختلف حتى على الواضحات؛ ذلك أن أهل

التخصص لهم خبرة طويلة في التعامل مع الأدلة في هذا الفرع، فيعرفون مظانها

وطرق الاستنباط منها، ثم إنهم قد قاموا بعلاج آلاف الحالات المشابهة وصار لهم

إلمام كبير بالواقع الحقيقي للمرض. ولذلك فإنهم يجتمعون بشكل دوري ليتدارسوا

كل الأبحاث والدراسات في مشكلة معينة، ويخرجوا بتوصيات تعتبر أداة هامة

يستخدمها الأطباء الأقل خبرة. وفي الفقه يكون دور علماء الفقه عظيماً في الجمع

بين الأقوال والترجيح بين المذاهب وبيان الأقوال التي وافقت الدليل والأقوال التي

أخطأته. كما تمثل المجامع الفقهية الحديثة والمؤتمرات الإسلامية المتخصصة

وسيلة هامة جداً في التوصل إلى الأرجح والأوْلى بالاتباع.

هذه هي أبرز الخطوات التي ينص عليها علماء طب الأدلة في طريقة

استخدام الدراسات العلمية وتطبيقها على الحالات الطبية مع أبرز أوجه الشبه بينها

وبين الخطوات الأساسية في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها في الواقع عند الفقهاء

المسلمين. وقد تبدو بعض هذه النقاط بديهية في حس بعض لتمرسهم عليها، ولكن

الذي يعايش الهالة العلمية والإعلامية المصاحبة لهذه الطريقة في التفكير الطبي يظن

أن الأمر كشف جديد وعلم توضع أسسه الآن فقط.

ولا شك أن هناك اختلافات هامة كذلك بين المدرستين لا مجال هنا للتفصيل

فيها، ومن أهمها أن النصوص الشرعية هي وحي منزل من عند الله العليم بعباده،

ولذا فهي الحق الذي لا يأتيه الباطل بخلاف الدراسات التجريبية التي لا تعدو أن

تكون تجارب علمية قابلة للصواب والخطأ. ومن ثم فينبغي مراعاة الفوارق بين

المدرستين كما ينبغي الاستفادة من تلك القواسم المشتركة.

وفي ختام هذه المقارنة العاجلة يمكننا الخروج ببعض الفوائد الدعوية التي

تفرض نفسها:

١ - إذا كان أصحاب كل علم وفن يحاولون جادين ربط تخصصهم بالقواعد

العلمية الثابتة فإن الدعاة إلى الله تعالى من باب أوْلى من واجبهم ربط دعوتهم

بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة. وفي هذا العصر تكون حاجتنا أعظم لأن نربط

الناس بالأدلة الشرعية ونقدم لهم الأحكام بأدلتها. كما ينبغي تعويد الناس على طلب

الدليل وإزالة حواجز الرهبة والجهل بينهم وبينه ضمن الأطر الشرعية. ومن

جانب آخر لا بد من الاستفادة من الأبحاث العلمية والدراسات الإحصائية في الجانب

العملي للدعوة إلى الله حتى نتمكن من قياس النتائج بشكل رقمي يساعد كثيراً في

التخطيط للبرامج الدعوية واختيار الأساليب الأكثر فاعلية بناءاً على دراسات

إحصائية دقيقة بدلاً عن الآراء المجردة التي تفتقد في الغالب إلى النظرة الشاملة

والتجرد المطلوب.

٢ - بعد ربط الناس بالدليل لا بد من الاستمرار في تأصيل طرق الاستنباط،

وتيسير علم أصول الفقه للناس، وتقديمه إليهم بطريقة أكثر عصرية وجاذبية،

ومحاولة إزالة حواجز الغموض والتعقيد بينهم وبين هذا العلم الهام. وكم في الساحة

الدعوية من الطوامِّ التي نتجت عن سوء فهم للنصوص أو الاعتماد على نص واحد

دون نظرة شمولية لمجموع الأدلة.

٣ - تتفاوت مراتب الناس من حيث التعامل مع الأدلة والنصوص الشرعية

بحسب مستوياتهم العلمية والعقلية، فكما وضع علماء طب الأدلة خططاً مرحلية

يتدرج من خلالها المتدرب في التعامل مع الأدلة فإن الأمر مشابه جداً في التدرج في

الأدلة الشرعية. فطالب الطب مثلاً مطالب فقط بمعرفة الحقائق الطبية العامة

ومعرفة ما كان مؤيداً بالدليل مما كان مجرد فرضيات لم تثبت بعد مع تعويده على

طلب الدليل والعناية به. فإذا تخرج وانخرط في برامج الزمالة التدريبية فإنه

مطالب بمعرفة الدراسات المؤيدة للحقائق العلمية، ثم إذا تخصص فإنه مطالب إذ

ذاك بمعرفة كل الدراسات العلمية في مجال تخصصه والمقارنة بينها ومعرفة نقاط

القوة والضعف في كل منها ومجالات تطبيقها. وبالمثل فإن على العلماء والدعاة

تعليم الناس الحقائق الشرعية المؤيدة بالدليل القوي وتعليمهم الدليل بقدر الإمكان،

مع التركيز على أهمية الدليل والعناية بدراسته، ثم يترك التفصيل في الأدلة

والأقوال للدعاة وطلاب الكليات الشرعية، وأما العلماء فإن عليهم في تخصصاتهم

التبحر في الأدلة والمقارنة بينها.

٤ - أهل كل علم أعلم بمصادر الأدلة المعتمدة عندهم في فنهم؛ فلا بد أن

يترك ذلك لهم ويحترم رأيهم في ذلك. فكما أن الأخبار الصحفية الخفيفة لا تعتبر

مرجعاً علمياً للأطباء، ولا يقبل منك الطبيب رفض دوائه المؤيد ببحث رصين من

أجل قصاصة من جريدة أو من أجل كلام الجيران فإن العالم الشرعي كذلك مؤتمن

على الأدلة التي يقدمها ولا يجوز معارضة أدلته القوية بكلام فلان من الجاهلين أو

المتعالمين.

٥ - لا بد من احترام التخصص؛ فكما أن الأمور الطبية التفصيلية لا بد أن

تترك للأطباء فإن العلوم الشرعية والفتيا لا بد من أن تُحال إلى العلماء وطلبة العلم

والعجب أن أكثر الناس تجرؤاً على القول بالرأي في الأمور الطبية هم العوام

الذين قل عقلهم وعلمهم، وأما العقلاء من الناس فإنهم عادة ما يرجعون الأمر إلى

أهله من الأطباء، وأما العلوم الشرعية فكأنها مشاع يضرب فيها كل أحد بما يشاء

سواء من العوام والمتعالمين، مع أنها أعظم العلوم قدراً عند الله، وأكثر العلوم

تأثيراً في حياة الناس، ولكن حمزة لا بواكي له!

٦ - لا بد كذلك من احترام التخصص الدقيق؛ فإن المعرفة الطبية قد اتسعت

اتساعاً عظيماً ولم يعد بوسع أحد أن يحيط بكل دقائق العلم. فإذا آلمك ضرسك فإن

المتصور أنك تذهب إلى طبيب الأسنان وليس إلى طبيب الأطفال! وكذلك في

العلوم الشرعية؛ فإن التخصص الدقيق مطلوب بل هو واقع فرض نفسه. فلا

ينبغي لمن أعجب بخطبة خطيب جمعة أن يستفتي الخطيب في دقائق المعاملات

الاقتصادية إلا أن يعلم أنه مؤهل وهكذا؛ لأن العالم أو الداعية قد يكون إماماً مجتهداً

في فرع من العلم مقلداً في الآخر، ولا يضيره ذلك، بل ينبغي أن يزيد من ثقة

الناس به. وكذلك يستحسن طلب الفتيا من العالم الموجود في المجتمع ذاته الذي تقع

فيه المسألة لاطلاعه على الأحوال ومعرفته مواقع الحال.

٧ - لو نظرنا إلى الاختلاف الكبير بين علماء الطب، ومناقشاتهم الحامية

التي لا تهدأ والناتجة عن الكم الهائل من الأبحاث العلمية التي تزج بها المطبعات

على الرفوف لرأينا أن هذا الاختلاف في معظمه مبني على ما بينا بعضه فيما

مضى من المعرفة بالبحث وصحته وقوته وكيفية فهمه وطريقة تطبيقه. وإن هذه

الأسباب في الغالب هي نفس الأسباب التي تؤدي إلى الخلاف الفقهي بين العلماء

الشرعيين، فلماذا يعتبر الخلاف الطبي أمراً مقبولاً ونقاشاً علمياً بينما يعتبر

الخلاف الفقهي المنضبط تفريقاً للأمة وضيقاً في الأفق؟ ولماذا تتعالى الأصوات

المتشنجة منادية بضرورة توحيد آراء الفقهاء على قول واحد وأَطْرِ الناس عليه

أطْراً بينما تتخافت هذه الأصوات عن الدعوة إلى التوحيد لآراء الأطباء على

تشخيص واحد وعلاج واحد؟

وبالمقابل، فكما أن الخلاف المذموم بين الأطباء وإعطاء بعضهم آراء

مناقضة تماماً لآراء الأطباء الأخرين، كما أن ذلك يقلل من ثقة الناس بالأطباء

عموماً ويصرف الناس عنهم؛ فإن الخلاف بين الفقهاء إذا خرج عن أطره العلمية

وضوابطه الشرعية فإنه يقلل من ثقة الناس بالعلماء ويصرفهم عنهم.

٨ - كلما ازداد عالم الطب تبحراً في الأبحاث الطبية والأدلة العلمية كلما كان

في العادة أكثر تواضعاً وأقل تشنجاً لرأيه بل قد يطلب من المريض أخذ رأي طبيب

آخر؛ فإن الأمر مماثل بالنسبة للعلماء الربانيين المتبحرين في العلوم الشرعية؛

فإنهم أوسع الناس بالخلاف صدراً وأقلهم تعصباً.

إن أمتنا الإسلامية تمتلك كنزاً معرفياً ثميناً لا تملكه أمة أخرى، وتحتضن

تراثاً علمياً ضخماً، وإذا كان الغربيون اليوم يتشدقون بالمنهج التجريبي وبأصول

البحث العلمي واستنباط الحقائق فإن أصول ذلك كله موجودة في إرثنا الثقافي، وإن

كانوا قد تعاموا عن الدلائل الواضحة على التأثير الكبير الذي تركه الفكر الإسلامي

على الفكر الغربي الحديث؛ فإن من واجبنا أن ننفض نحن الغبار عن الحقائق،

ونرفع الرأس عالياً، ونستل الهمم من أغماد الذل والتبعية، فنقدم للبشرية هذه

الأسس بصياغة إسلامية متوضئة متطلعة إلى السماء، موضوعية في بنائها، جذابة

في عرضها. وإن ذلك لمهمة ما زالت كسيفة تنتظر فارس الأحلام!