للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

[الدكتور أحمد عبد الكريم معبد في حوار مع البيان]

أجرى الحوار: وائل عبد الغني

الوقت لا بد أن يحسب في عمر الباحث بالدقائق

ضيفنا اليوم علم من أعلام السنة.. رعاه الله حين مات أبوه وكان عمره ثلاثة

أشهر، وأكرمه بأم شفوق محتسبة وهبته للعلم منذ نعومة أظفاره، وصبرت على

فراقه رغم حاجتها إليه فقد كان وحيداً، وحباه الله عزيمة وجَلَداً وحباً للعلم،

واستعمله في إحياء السنة، تحقيقاً وتعليماً وإشرافاً ونصحاً، أشرف على عشرات

الرسائل العلمية في جامعتي الأزهر بالقاهرة والإمام محمد بن سعود الإسلامية

بالرياض، وله عناية فائقة ومعرفة كبيرة بالمخطوطات، ويعدّ مرجعاً رئيساً فيها،

فأهلاً به ضيفاً كريماً على صفحات البيان.

البيان: فضيلةَ الدكتور: نود أن تحدثنا عن رحلتكم العامرة بداية من المنشأ

والمولد، وكيف كان ترقيكم في العلم؟

- ولدت في إحدى قرى محافظة الفيوم عام ١٣٥٩هـ ١٩٤٠م، وتولاني الله

بعنايته وفضله حين هيأ والدتي يرحمها الله لتنشئني على العلم منذ بواكير حياتي،

وكان لإصرارها وتضحيتها بعد فضل الله أكبر الأثر في تفريغي للعلم رغم حاجتها

الشديدة لوجودي إلى جانبها كابن وحيد، وقد وهبتني - رحمها الله - للعلم حين كان

العلم شرفاً ينال وتبذل من أجله الأموال، وليس كما هو اليوم إذ أصبح مصدراً

للتكسب. حفظت القرآن في حوالي ثلاث سنوات وكان عمري ١٣ عاماً، ودرست

في الأزهر الشريف، حتى حصلت على الشهادة الإعدادية في عام ١٩٥٤م، ثم

الشهادة الثانوية في ١٩٦١م والتحقت بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وتخرجت

فيها من قسم التفسير والحديث عام ١٩٦٦م، وحصلت على الماجستير في الحديث

في عام ١٩٦٩م، ١٩٧٠م ثم الدكتوراه عام ١٩٧٨م.

البيان: رغم ولعكم المبكر بالتفسير وعلومه إلا أنكم اخترتم التخصص في

الحديث فما سر ذلك؟

- لا شك أن في هذا حكمة بالغة ونعمة سابغة من المولى جل وعلا عليّ.

ابتداءً كان الفضل بعد الله تعالى في دخولي قسم التفسير والحديث لفضيلة الدكتور

عبد الحليم محمود - رحمه الله - حين كان عميداً لكلية أصول الدين وهو رئيس

قسم العقيدة، ومع ذلك كان ينصح ألا نتخصص في قسمه، وكان في ذلك الوقت قد

أصدر قراراً بأن من يختار الانتقال من شعبة العقيدة إلى أي شعبة أخرى يسمح له،

ومن يختار الانتقال من شعبة الدعوة أو شعبة الحديث والتفسير إلى قسم العقيدة لا

يُسمح له.

كان يرى أن شعبة الحديث والتفسير وشعبة الدعوة هما أنفع للطالب وأقرب

لتكوينه الإسلامي من شعبة العقيدة والفلسفة؛ فأنا اخترت التفسير والحديث، والحمد

لله درست التخصص؛ فلما حصلت على شهادة الإجازة العالية أو الليسانس التحقت

بالدراسات العليا تخصص تفسير، وفي امتحان الماجستير؛ حال خطأ إداري بقدر

الله بيني وبين التسجيل للدكتوراه في التفسير بعد أن أديت الامتحانات، وتلافياً لهذا

الخطأ تحولت بعدها إلى التسجيل في الحديث، وبحمد الله درست الحديث من جديد

ونلت الماجستير في الحديث، وكانت الرسالة عن الحافظ العراقي وأثره في السنَّة،

وهي نفس رسالة الدكتوراه حيث توسعت فيها، وقد كان مسموحاً بذلك حينها، وقد

سعيت في البحث لإبراز مكانة الحافظ العراقي في مدرسة الحديث في مصر أولاً ثم

في الحرمين ثانياً، فقضى فترة في مصر، ثم عاش فترة ثلاث سنوات في المدينة

النبوية وكانت تحت الحكم المصري (حكم المماليك حينذاك) وهو قاضي المدينة،

وكان هو إمام مدرسة الحديث في ذلك العصر الذي هو القرن الثامن الهجري حتى

إنه عده العلماء مجدد القرن الثامن الهجري في ذلك التخصص، وكانوا يلقبونه كما

هو موجود في تراجمه وفي مؤلفاته بـ «حافظ العصر» .

البيان: وماذا عن بداية اهتمامكم بالمخطوطات: هل كان في ذلك الوقت أم

بعده؟

- بداية الاهتمام بالمخطوطات ترجع إلى المرحلة الثانوية، وأستاذنا الشيخ

سيد صقر - عليه رحمة الله - مدرس المطالعة والبلاغة في المرحلة الثانوية كان

لديه اهتمام بالمخطوطات، وكان يصطحب معه في الدرس بعض هذه المخطوطات

التي أذكر منها الآن شرح الخطابي لصحيح البخاري، فحببني فيها، ونبهني إلى

أماكنها في مصر، ولا سيما معهد المخطوطات.

بالنسبة للتحقيق عندما سجلت موضوع الحافظ العراقي كانت فكرتي عنه أنه

له عدة كتب مطبوعة، وأني سأدرسه من خلال الكتب المطبوعة؛ لكن عندما

دخلت في الكتابة بعدما كتبت عنه في الماجستير كتابة مختصرة كان لا بد أن أكتب

عنه كتابة موسعة في الدكتوراه، فوجدت أن الرجل له كتب نفيسة جدّاًً ما تزال

مخطوطة حتى الآن.

البيان: مثل ماذا؟

- شرحه لجامع الترمذي وهو من الكتب التي أعددتُها للطباعة قبل عشرين

سنة من الآن، ولم يطبع حتى الآن، ولكني بدأت بعد ذلك فوجدت أن شرح

العراقي لجامع الترمذي هو تكملة لشرح عالم آخر سبقه وهو ابن سيد الناس

اليعمري، فوجدت أنه من القصور بعد التخرج أن أبدأ بتكملة العراقي دون شرح

ابن سيد الناس، وهو عندي الآن ما وجد من هذا الشرح محقق منسوخ ومقابل

ومعلق عليه تعليقات كثيرة من عشرين سنة.

وقد قمت بتوثيق النصوص وعزوها إلى مصادرها وتصويب ما يحتاج إلى

تصويب منها، أما التعليق فهو الأصعب؛ لذلك طبع جزءان من الكتاب حتى الآن،

وهناك جزءان في المطبعة التعليقات عليهما مطولة للغاية؛ بما أراه مفيداً نظراً

إلى أن الأحكام التي أصدرها ابن سيد الناس على الرواة وعلى الأحاديث كان لا بد

أن يكون لي موقف منها. فاقتضى هذا توسعاً؛ حتى إن أحد الإخوة الفضلاء غير

المختصين في الحديث انتقدني في الإطالة؛ بأني كتبت في محمد بن إسحاق مائة

وسبعين صفحة تعليقاً عليه، فكان رأيه وهذه وجهة نظره أن هذا خروج بالتحقيق

عن منهجه وأن المفروض ألا أطيل بهذا الحجم. وقد كتبت في مقدمة الجزء الثالث

رداً على هذا، وهو أن التحقيق يختلف منهجه بحسب خبرة المحقق، وذكرت

بعض النماذج ممن طول تطويلاً ارتضاه الأخ الفاضل نفسه.

البيان: الآن بوصفكم أستاذاً لعلوم الحديث ما هي أهم الرسائل التي أشرفتم

عليها خلال رحلتكم العلمية المباركة؟

- أهم الرسائل من حيث التخصص هي الرسائل التي عنيت بعلم علل

الحديث، وأيضاً بتحقيق تراث من علم الحديث لم يكن طبع قبل أن أقترحه أنا على

الطلاب ليشتغلوا به. على سبيل المثال في قسم السنَّة في كلية أصول الدين في

الرياض كان مما اقترحته على الطلاب قبل أن يعمل فيه أحد كتاب: (الكامل في

ضعفاء الرجال) لابن عدي، وخرج منه رسالتان قبل أن يطبع بواسطة الناشرين

الآخرين، أيضاً كتاب (المختار) للضياء المقدسي كان من الكتب التي اقترحتها

على الطلاب وخرج منه حوالي أربع رسائل قبل أن يطبع أيضاً، ومسند أبي يعلى

الموصلي كان من الكتب التي اقترحتها على الطلاب في ذلك الوقت وخرج منه

ثلاث رسائل قبل أن تطبع الأجزاء الأولى من المسند، وعلل الحديث كانت أول

رسالة أشرفت عليها في ذلك التخصص في علل الحديث وأحوال الرجال في رواية

المروزي عن الإمام أحمد، وهذه الرسالة نوقشت وانتهت قبل أن يطبع الكتاب

بحوالي عشر سنوات، وأيضاً علل الحديث لابن أبي حاتم الرازي، والدارقطني.

البيان: من خلال إشرافكم على حوالي مائة وأربع رسائل علمية في

الدراسات العليا ما بين ماجستير ودكتوراه في الحديث وعلومه، ما هي

توجيهاتكم للباحثين في مجال البحث العلمي عموماً ومجال السنَّة والاعتناء بها

على وجه الخصوص؟

- أولاً: أوصي الباحثين ألا يقتصروا في تكوين الخلفية العلمية على

المقررات الدراسية؛ لأن المقررات الدراسية مهما بلغت لا يمكن من خلالها أن

تتكون لدى الطالب الملكة العلمية التي تجعله ملمّاً دارياً بالحديث، فضلاً عن أن

يكون دارساً متخصصاً، وحتى يكون الباحث باحثاً فعليه أن يديم الاطلاع بحسب ما

يسمح به وقته ولا يقف عند مرحلة معينة، ويكون لديه اهتمام متواصل بالبحث في

دائرة اختصاصه، وما يخدمها، لا سيما اللغة، وأن يكون هذا الاهتمام بالاطلاع

الشخصي وبالمذاكرة مع أقرانه وبالمباحثة مع أساتذته، وأن يكون كل هذا مشمولاً

بالحسنى وبحسن الخلق وعدم التعالي أو إظهار حظ النفس؛ فالعلم بدون حسن

الخلق يكون وبالاً على صاحبه.

ثانياً: المحافظة على الوقت. ولا بد أن أذكر في هذا المجال أن قيمة الوقت

في حياة الباحث العلمية تساوي أن يكون أو لا يكون؛ فالوقت لا بد أن يُحسب في

عمر الباحث بالدقائق.

الأمر الثالث: أنه لا بد أن يكون لدى الباحث خلفية علمية أوسع من دائرة

التخصص الدراسي الذي يريده، فإذا أراد مثلاً أن يكتب في المصطلح فلا يقصر

اطلاعه على المصطلح؛ لأنه لو قصر اطلاعه على مادة المصطلح يخرج بحثه

غالبا تكراراً، أو ربما يصعب عليه الابتكار أو الإضافة من خلال كتب المصطلح

نفسها، فإذا ما وسع دائرة اطلاعه على كتب السنة عموماً؛ مثل كتب المتون،

وكتب الشروح وكتب الرجال، ملك زمام البحث ولانت له الأفكار واستطاع أن يفيد؛

لأن هذه الفروع كلها يخدم بعضها بعضاً، وفي كل منها ما يفسر الإجمال ويجبر

القصور في الآخر.

الأمر الرابع: أن ينوِّع العمل في الدراسات أو البحوث بين التأليف والتحقيق،

فلو أنجز الطالب بحثاً في تحقيق كتاب معين؛ يحسن به أن يعمل في المرحلة

التالية في التأليف، فإذا أخذ الماجستير في التحقيق ثم أخذ الدكتوراه في التحقيق

أيضاً تكون إفادته وهو أستاذ بعد ذلك في التأليف محدودة، وكذلك لا يقصر عمله

على التأليف؛ فالاقتصار على أي من الجانبين يصنع تحيزاً لدى الباحث قد يحرمه

من خير كثير؛ فكلا النوعين يغذي كل منهما الآخر؛ فماذا تؤلف إذا لم يكن عندك

نصوص؟ وكيف تخدم النصوص إذا لم يكن عندك ملكة التأليف والتعبير؟ فمن

مجموع الأمرين يمكن أن تتكون الشخصية العلمية بتوفيق الله عز وجل.

البيان: في إطار التكامل بين العلوم الشرعية: كيف توظف علوم الحديث

في خدمة العلوم الأخرى؛ يعني هل هناك نوع من التنسيق والتوافق أو التزاوج

والتلاقح بين الأقسام العلمية كما يحدث في التخصصات الإنسانية والمادية؟

- التكامل أو التغذية تحتاج إلى تعاون، فإذا لم يوجد رغبة من أقسام الشريعة

كالفقه وأصوله مثلاً، للاستفادة من خبرة الحديث والعكس فإن ذلك التكامل لن يكون،

وأذكر أنه حدث مثل هذا الموقف ونحن ندرس في جامعة الإمام محمد بن سعود

حيث طلب إلينا في قسم الحديث أن نفيد طلاب قسم الفقه والأصول بالخبرة الحديثية

بناء على أنهم يتعاملون مع نصوص شرعية وأدلة، فما كان منهم إلا أن قالوا نوافق

بشرط أن تأخذوا أنتم أيضاً من تخصصنا أكثر مما تأخذون، فكان هذا المثال لعدم

الرغبة في التعاون مما سبب الفصل أو سبب عدم التزاوج بين خبرة المحدث وبين

عمل الفقيه. وعلى الطريق الآخر وهو طريق التكامل وجدنا قسم العقيدة وقسم

التفسير في نفس الكلية في أصول الدين: فالعقيدة تدرس في كلية أصول الدين في

جامعة الإمام من خلال الكتاب والسنة وليس من خلال الجانب العقلي أو المنطقي

فقط، ومن ثم يحتاج من يدرس هذا التخصص أن يكون ملماً بالحديث وبتخريجه

وبدراسة إسناده وببيان الصحيح من الضعيف بأدلته. فتم نوع من التكامل الذي

يحتاج إلى تعضيد. مثلاً قسم التفسير وقسم العقيدة في الكلية كان يأتي إلى نهاية

التخرج بعد أن يدرس الطالب في قسم الحديث إلى مرحلة الليسانس فيختار المعيدين

في قسم العقيدة من قسم الحديث، والمعيدين في قسم التفسير بعضهم أيضاً من قسم

الحديث، على أساس أن يخدم بالسنة هذين التخصصين، وقد نجح المسؤولون في

قسمي العقيدة والتفسير آنذاك في إدخال تدريس طلبة الدراسات العليا مادة عن

التخريج ودراسة الأسانيد، والحمد لله كان لها نجاح كبير.

البيان: من خلال تدريسكم في أشهر جامعتين إسلاميتين: الإمام محمد بن

سعود والأزهر، هل تجدون فرقاً كبيراً بين الجامعتين؟

- من جهة المنهج الفرق ليس كبيراً، بل متقارب بسبب أن وضع المناهج

مرتبط بمسألة معادلة الشهادات، كما أن الذين وضعوا مناهج جامعة الإمام معظمهم

من الأزهر.

أما التمايز فيأتي من عاملين اثنين تميزت بهما الدراسة المنهجية في جامعة

الإمام عن دراسة المناهج نفسها في جامعة الأزهر:

العامل الأول: هو توفر الإمكانات على مستوى المؤسسة وعلى مستوى

الطلبة في جامعة الإمام، وهو الذي جعل المواد الدراسية تنجح بدرجة كبيرة؛ فعلى

سبيل المثال كلية أصول الدين في الرياض كان لديها لمادة تخريج الحديث خمسة

معامل كل معمل فيه مائة مقعد وكل مقعد عليه مكتب يحمل نسخة من الكتب التي

في مقرر التخريج؛ أي نسخة لكل طالب؛ بحيث إنك إذا أدخلت مائة طالب للمعمل،

فإن طالباً لن يحتاج أن يستعير من الآخر كتاباً، وأنت إذا درّست تطلب فتح

الكتاب الفلاني تجد النسخة التي أمامك أنت يا أستاذ هي الموجودة عند كل طالب،

وقل الشيء ذاته عن إمكانيات الطالب. وهنا أذكر أن طالبة في السنة الأولى من

الدراسات العليا بقسم السنة وعلومها كانت تمتلك في مكتبتها أكثر من ألف كتاب

مخطوط مصور فضلاً عن المطبوع.

أما في مصر فتوفر المكتبات العامة يمكن أن يعوض على الأقل ٨٠% مع

توفر الهمم.

العامل الثاني: هو الحرص على الاستفادة بالوقت سواء وقت الأستاذ أو وقت

الطالب في جامعة الإمام، وأذكر من حرص بعض تلاميذي الأفاضل على ذلك أن

أحدهم إذا دق جرس البيت ولم أسعفه بالخروج إليه ربما لدقائق فإذا فتحت أجده يقرأ

في كتاب معه إلى أن أفتح له الباب، فإذا ما اعتذرت عن بعض التأخر؟ يقول: لا

عليكم أنا أستغل وقتي حتى تفتح الباب.

قيمة الوقت نراها كذلك لدى الإدارة والأساتذة، ولهذا يستفيد الطالب من وقت

الدراسة منذ أول لحظة، بل أقول إن هناك جدية وحزماً في عنصر الوقت داخل

العملية التعليمية، بكل أطرافها وسيرورتها، وعلى أكمل وجه، وفي عملية الرقابة

والإدارة. في جامعة الإمام نجد حزماً وحساسية شديدة تجاه الوقت عما هو موجود

في الأزهر.

وكلا العاملين له أثره في عملية إعداد الفرد؛ فالعضو في هيئة التدريس الذي

بمرحلة الماجستير أو الدكتوراه بجامعة الإمام إذا قست معدل تحصيله العلمي في

تخصصه والعضو المماثل له في الأزهر تجد أن الذي هناك متميز بقدر توافر

العاملين له.

البيان: العمل الخيري له إسهامه المشكور في نشر العلم: ما هي المجالات

العملية التي ترى أن يتوجه إليها العمل الخيري؟

- أنا أتمنى أن تكون هناك جهات وقفية تدار بطريقة ناجحة ومنظمة لتصب

في مصلحة العمل تتبنى مثلاً كرسي دراسات إسلامية في جامعة، مثلما يوقِفُ

بعض المسلمين أموالهم على كراسي دراسات إسلامية في جامعة مثل كمبردج،

فحبذا لو وجدت مثل هذه الخدمة من الأوقاف أو توجهت نحو هذا المجال؛ لأنها بلا

شك ستكون عاملاً مساعداً؛ ولتكن هذه النافذة أولاً تبنِّي باحثين يعرف أن عائقهم

الوحيد هو الماديات، وتوفر لهم إمكانات البحث بحيث يخرج عملهم في خدمة

التراث وفي خدمة علوم الحديث على الوجه المطلوب.

أيضاً إنشاء المكتبات. ولا بد لي أن أذكر في هذا أن الأوقاف المصرية لها

مكتبات كانت تتوسع في هذا، مما أدى إلى نتيجة جيدة جداً، بعض المساجد في

القاهرة التي أنشئت فيها مكتبات رصيدها لا يقل عن ألف كتاب من المراجع مثل

مكتبة أحمد طلعت الموجودة في مسجد أحمد طلعت بالقاهرة وهي مكتبة كبيرة جداً

وناجحة، أيضاً مكتبة الشيخ حامد وهي موجودة في القاهرة ويؤمها مئات الباحثين

من مصر وغيرها، وحبذا لو تكررت مثل هذه المكتبة وأعيد تزويدها وتنميتها

وتنسيقها رجاء التحديث، فالمشكلة مثلاً أنها تفتح بألف كتاب تجدها تنقص ولا تزيد؛

فالأسس موجودة ونريد فقط أن تنمو وتنجح؛ فإذا حصل هذا فلا شك أنه سيكون

للأوقاف دور طيب في هذا المجال، فتتبنى باحثين وتفتح مكتبات وتزودها،

ويحصل من مجموع الأمرين إن شاء الله ازدهار علمي لا يُشك في نجاحه بإذن الله.

هناك احتياجات قريبة تعد مقدمة للمجال العلمي مثل كفالة الأيتام ومثل الإنفاق

على المساجد والمدارس التي تصب بلا شك في المجال العلمي.

وعموماً على الجهات الخيرية أن تتحسس مواضع الحاجة، وأن يكون دورها

هذا متنوعاً؛ لأن الصعوبات كثيرة والاحتياجات أيضاً كثيرة، فلو تنوعت جهود

أهل الخير كان أفضل حتى يحصل التكامل، وأن توازن هذه الجهات في دورها

بين الاحتساب حيث لا تحمِّل الباحث فوق طاقته، وبين أن تجعل أيضاً الاطلاع أو

التمكين من الاستفادة بدون مقابل، وإنما يكون هناك شيء رمزي يُشعر بأهمية

العمل وفي نفس الوقت يكون متاحاً للباحث.

وبهذا تُستنهض الهمم وتبنى النماذج الواعدة والتي يحول بينها وبين الاستكمال

ضعف الإمكانات.

البيان: هل هناك نماذج ناجحة في العمل الوقفي على العلم يمكن أن تحتذى؟

- نعم! نحن نعرف مثلاً نظام الأوقاف في دبي. هناك نموذجان من أنجح ما

يمكن أن يقال في نظام الأوقاف وهو (مركز جمعة الماجد) و (دار البحوث

العلمية) و (إحياء التراث) التي تديرها إدارة الأوقاف في دبي؛ فدار البحوث هذه

من فروع الأوقاف، وتحظى برعاية ودعم مشكور من الحكومة ومن الأمراء

شخصياً، وقد أصدرت الآن مجلة علمية محكّمة، وأخرجت ما لا يقل عن خمسين

كتاباً ما بين بحث وما بين كتاب وما بين تحقيق وما بين تأليف وما بين عقد مؤتمر،

مؤتمرات علمية حول المواد الشرعية وطريقة الاستفادة منها، والنهوض بها

وغير ذلك، وهذا نموذج طيب جدّاً للأوقاف الناجحة في الحقيقة؛ لأنها أدت رسالة،

ويمكن أن نقول إنها بإمكانات أقل من الأوقاف الموجودة في دول أخرى ونتائج

أوسع وأفضل.

كذلك بعض جهات الأوقاف في المغرب لها إصدارات ولها صوت يدل على

أن جهات الوقف تنتج في هذا المجال.

لا أعني بذلك أن الأوقاف الموجودة في دولةٍ ما ليست منتجة، لكن كما أقول

هناك نماذج بالتعاون أنتجت وهناك نماذج لم تثمر.

البيان: شهد نصف القرن الأخير تقريباً نهضة واسعة في علوم الحديث

وازدهارها، وكان لها دورها في ترشيد جانب مهم من الصحوة الإسلامية، تتمثل

في إعادة الاعتبار إلى السنة وتعظيم الناس لها، لكن مما عكر صفو هذا الخير

تصدُّر من لم يتأهل بعد: في نظركم ما هي مواصفات وشروط محدث العصر،

وكيف تعالج قضية التصدر هذه؟

- لا بد أن يفرَّق بين الدارس لعلوم الحديث وبين باحث في الحديث وبين من

يسمى بـ «المحدِّث» ، وأهم ما يشترط في محدِّث العصر أن يكون ما يعرفه من

علوم الحديث سواء رواية أو دراية أو فنون الحديث بجميع أنواعها أكثر مما يجهله.

والحفظ بمعنى الفهم والاستيعاب يعني حفظ الذاكرة لا نملكه أو ما يمكن أن

نحاسبه عليه، أنا درست على بعض أشخاص كانوا يقولون: نحن نحفظ الكتب

الستة، أنا لا أستطيع أن أجعل هذا شرط المحدث الآن، لكن الذي اشترطه عليه

أن يكون ما يعلمه من تراث الحديث بجميع فنونه أكثر مما يجهله، وهذا ضابط

ينبغي أن يطبق، فإذا وصل المحدث إلى هذه الدرجة، فهو الذي يمكن أن يفيد

ويمكن أيضاً أن يوضع في هذا المكان.

فإذا كان ما يجهله أكثر فهنا يكون التصدر قبل التأهل، إلا أنه من الصعب

التحكم في مثل هؤلاء، ولكن العلاج في تقديري هو أن يظهر مجموعة من النوع

الأول تسد حاجة الناس إلى النوع الثاني، يعني هؤلاء الذين تصدروا طبعاً

تصدُّرهم في حد ذاته له سبب وهو وجود الفراغ؛ فقبل أن أحاسبهم على هذا

التصدر أريد أن أحث غيرهم على ملء هذا الفراغ بمن هو كفء.

هذه المسؤولية مشتركة: أولاً على علماء الحديث، ثانياً على الجهات التي

سبق أن ذكرنا أن يناط بها الحفاظ على هذا التخصص، سواء كانت مؤسسات

علمية رسمية كالجامعات الإسلامية والأزهر مثلاً، أو كانت جهات ممولة خيرية؛

لأن العلم يزهو بالإنفاق، فبذلك إذا أردنا أن نقضي على هذا التصدر فنحن نحتاج

إلى ملء الفراغ بالأكفاء.

البيان: الحركة العلمية الحديثة في مجال تنقيح علوم السنة وتحقيقها

وتصحيحها كان لها ريادة بلا شك في هذا المجال، ما هي المصالح التي ترتبت

على هذه الحركة، وهل هناك ملاحظات يمكن أن تذكر في هذا المجال؟

- لا شك أن الريادة العلمية التي أستطيع ذكرها قد تمثلت في ظهور الشيخ

أحمد شاكر - عليه رحمة الله - ومن كان في وقته من علماء الأزهر في مصر،

وظهور الشيخ عبد الرحمن المعلمي في الهند، ثم في السعودية ومن ظهور الشيخ

الألباني أيضاً - عليه رحمة الله - في الشام، وظهور الغماريين في مصر والمغرب،

فهؤلاء جميعاً كانوا رموزاً أعادت لمدرسة الحديث شيئاً كبيراً جداً من تقدمها

وحيويتها أو صحوتها. ما زلت أذكر كلام الشيخ الألباني - عليه رحمة الله - في

مقالاته المبكرة في مجلة الوعي الإسلامي، والتي كانت نواة لسلسلة الأحاديث

الضعيفة، كنا نقرؤه ونحن طلاب في الثانوي أو في الجامعة ونعده في وقته فتحاً

جديداً، كيف نقرأ الحديث في سنن النسائي غير مبين الدرجة، ثم نجد الشيخ

الألباني يقول: رواه النسائي بإسناد حسن، فمثل هذا العمل كان يمثل مرحلة جيدة

بحمد الله، كذلك الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري والشيخ أحمد بن الصديق

الغماري كان لهما جهد في هذا في بلاد المغرب، وتعاون مع أساتذة الأزهر مثل

فضيلة شيخنا عبد الوهاب عبد اللطيف - رحمه الله -، ووُجد من تعاونهم نشاط

علمي في ذلك الوقت، هذه الصحوة أينعت ثمارها في إخراج تراث السنة المخطوط

والعناية به. واعتبرت أعمالهم في وقتهم أعمالاً ريادية، نتج عن هذه الصحوة

المحظور الذي ذكرناه قبل قليل وهو أن هناك من الناس من ظن أن هؤلاء الناس

يمكن مضاهاتهم بسهولة، فبدأ يقحم نفسه، ومن ثم ظهر ضعف النتاج الذي تحدثنا

عنه، وظهرت مكانة هؤلاء الناس. ويكفي أنهم فتحوا هذا الطريق أمامنا وحولوه

إلى حركة دائبة إلى حد أنه الآن تكتب بحوث ورسائل في مستوى علل الحديث مثلاً

بأقلام رصينة معقولة. هذا يعتبر شيئاً جيداً جداً.

البيان: هل يتوفر أحد بمثل هذا المستوى بعد موت هؤلاء الجهابذة؟

- في العادة عندما يختفي الرموز يصعب أن تنصب غيرهم دون أن يكون

عندهم أرصدة؛ فالآن هناك أشخاص يعرفون في الحديث. يعني أنا خرَّجت والحمد

لله في قسم السنَّة في جامعة الإمام أشخاصاً موجودين الآن في التخصص وهم على

كفاءة يقلُّ أن تجد أمثالها، مثل الدكتور عبد الله بن وكيّل الشيخ، ومثل الدكتور

محمد بن تركي التركي وهذا في جامعة الملك سعود، والدكتور عبد الله دمفو وهو

الآن عميد كلية التربية في جامعة الملك عبد العزيز في المدينة، والدكتور سعد

الحميِّد في جامعة الملك سعود. وهناك منهم أشخاص لم أدرِّسهم لكني أعرف قدرتهم

وكفاءتهم، مثل الدكتور عبد الخضير، والدكتور خالد الدريس، والدكتور مساعد

الراشد، وفي الأزهر عندنا الدكتور الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق

والدكتور عزت عطية والدكتور عبد المهدي عبد القادر والدكتور إسماعيل الدفتار،

وهو يعتبر من طبقة شيوخنا وعنده كفاءة معروفة، والدكتور مصطفى عمارة

والدكتور مروان شاهين، والدكتور محمد بكار، والدكتور رفعت فوزي أيضاً،

والدكتور أحمد محمد نور سيف رئيس دار البحوث في دبي، وفي الكويت الآن

الدكتور السيد نوح، وهناك الشيخ أبو إسحاق الحويني وله جهود طيبة. ومن

الشوام الدكتور خليل ملاَّ خاطر أيضاً، والدكتور محمود الطحان، الدكتور محمود

ميرة وهو موجود أيضاً في الرياض، هؤلاء هم رؤوس المدرسة الحديثية ولهم

الكفاءة التي يمكن أن يعول عليها، لكن الجهود تحتاج إلى من يجمعها؛ فإذا ما

رعت الجهات الوقفية وغيرها جهود أمثال هؤلاء انتفع المسلمون بها انتفاعاً عظيماً.

البيان: حدثونا عن تجربتكم في تحقيق المسند طبعة دار الرسالة.

- في تجربة تحقيقنا للمسند؛ لا بد أن نذكر في مقدمتها وفي منطلقها معالي

الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وهو الآن رئيس رابطة العالم الإسلامي،

وكان في ذلك الوقت رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود، وهو الذي تبنى المشروع

وذلل له الصعاب، تؤازره المكرمة الملكية من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -

حفظه الله -، وقد شاركت أنا وأخي الدكتور محمود الميرة في وضع منهج التحقيق

والنسخ والعمل فيه، وكان لنا نقاشات مطولة مع الشيخ شعيب الأرناؤوط حول

كثير من نقاط هذا المنهج، وكان لنا عدد من الملاحظات تم تداركها في الأجزاء

الأولى من الكتاب، وأذكر أن الجزء الأول بالذات من المسند، وهو الذي وضع فيه

منهج التحقيق، أن تجربته عملت خمس مرات، وكان يعمل في الكتاب أربع لجان

: واحدة في سورية برئاسة الأخ الشيخ محمد نعيم العرقسوسي، والثانية موجودة في

الأردن برئاسة الشيخ شعيب، والثالثة موجودة في القاهرة؛ بالإضافة إلى لجنة

المراجعة التي في الرياض.

وجلسنا ثلاثة أيام جلسات متصلة في عمان في وضع خطوط المنهج في

التحقيق واتفقنا على ٧٠% من النقاط وبقيت ٣٠% مثار خلاف لا لأنها ليست

علمية ولكن لأنها تكون مكلفة وقتاً ومالاً ولم يعتدها الناشر؛ إلا أنه تُدورِك أغلبها

فيما بعد، فكانت اللجان الثلاث تقوم بالتحقيق بينما تقوم لجنة المراجعة بواجبها.

وفعلاً سار الأمر على ذلك أننا نراجع ونرسل لهم ملحوظاتنا، والحمد لله

بمجرد ما خرجت المجلدات الخمسة الأولى وأهدي منها إلى أهل العلم كالشيخ عبد

العزيز بن باز - رحمه الله - والمختصين الذين لهم دراية والجامعة الإسلامية

وجامعة أم القرى، فجاءت معالي الدكتور التركي خطابات ثناء واستحسان للعمل

فتشجعنا وتابعت العمل حتى الجزء (١٨) .

ومما يميز هذا العمل أن معالي الدكتور التركي والناشر قد جمعا له نسخاً

خطية لم يسبق أن اعتمد عليها في التحقيق أحد مثل نسخة المكتبة الظاهرية، وكذا

مثل نسخة الحرم المكي.

البيان: كم نسخة تقريباً جمعتم؟

- النسخ الكاملة من المسند قليلة، لكن مجموعها لا يقل عن ست نسخ،

بعضها كامل مثل نسخة بغداد، وبعضها ملفق مثل نسخة المكتبة الظاهرية، ومثل

نسخة دار الكتب المصرية، ومثل نسخة مكتبة الحرم المكي، وكان الخلاف: هل

تُذكر الفروق بين النسخ ما أمكن وهذا ظاهر في الأجزاء الأولى أكثر منه في

الأجزاء الأخيرة، أم نذكر الفروق الجوهرية أو المترتب عليها خطأ وصواب فقط؟

البيان: وما الدروس المستخلصة والتوجيهات الهامة من هذه التجربة؟

- أولاً: المستخلص من هذا أن تحقيق أي كتاب بدون خطة علمية يكون

إضعافاً للثقة بمضمونه، وهذه نقطة مهمة جدّاً في التراث، فالخطة العلمية

ضرورية جداً والتزامها ضروري.

ثانياً: التعويل على أصول خطية بأكبر قدر ممكن منها في خدمة النص وحتى

نصور هذا أنه بالرغم من الاعتماد في الطبعة على ست نسخ خطية إلا أن هذه

النسخ جميعاً اتفقت على سقط يبلغ ١٢٠ حديثاً في أثناء الجزء (٣٩) من الكتاب،

واضطر الإخوة المحققون أن يستدركوا هذا السقط من خلال كتب نقلت عن المسند

مثل كتاب أطراف مسند أحمد للحافظ ابن حجر، وكتاب جامع المسانيد للإمام ابن

كثير.

فهذا الأمر نحن نعلم أن المسند من ١٣٠١هـ متداول مطبوعاً على أنه كامل،

ثم في عام ١٤٠٥هـ تقريباً أخرج الشيخ محمود الحداد سقطاً بلغ نحو مجلد

صغير سماه صلة المسند، ثم لما عملت جمعية المكنز الإسلامي بالقاهرة مؤخراً

على الكتاب على نسخ خطية أخرى ظهر أن في جميع هذه النسخ خرماً يبلغ هذا

العدد؛ وقد تيسر لجمعية المكنز الإسلامي بحمد الله الحصول على بعض نسخ موثقة

اشتملت على هذا الخرم، وعلى زيادة بعض أحاديث لم توجد في غيرها،

وستصدر طبعة المكنز الكاملة قريباً بإذن الله. لذلك فالعنصر الثاني هو الاعتماد

على أكبر عدد ممكن من النسخ الخطية للكتاب المحقق.

ثالثاً: أن تكون هناك خبرة علمية مؤهلة للقيام بمثل هذا العمل. وهذه

الشروط الثلاثة كفيلة بأن تخرج عملاً علمياً أحسن ما يمكن بإذن الله، إذا ما انضم

إليها عنصر رابع هو روح هذا كله وهو عنصر الإشراف والمتابعة؛ لأن كل هذه

العوامل يمكن أن لا تنجح أو يعرقل كل منها الآخر لو لم تكن هناك قوة حازمة تدير

هذه الوسائل الثلاثة بكفاءة، وتوجهها الوجهة السليمة، نسأل الله أن يتقبل.

البيان: وماذا عن مشروع المكنز الإسلامي الذي تشرفون عليه؟ ما أبعاد

هذا المشروع وما ثمراته؟

- هذا المشروع عمره الآن يقترب من عامه العشرين، وأنا أُعتبر جديداً عليه؛

فلم يكن لي علم بنشأته، وعندما جئت إلى مصر كان هو قد قطع حوالي اثني

عشر عاماً من العمل، أخرج خلالها الكتب السبعة في طباعة مصححة ومفهرسة

عدة فهارس جيدة، لهذه الكتب السبعة وهي صحيح البخاري، وصحيح مسلم،

وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي وسنن ابن ماجه، وموطأ الإمام

مالك، باسم «الموسوعة الحديثية» وطبعت أيضاً على قرص ألكتروني (CD)

طبعة متميزة، بعدة ميزات علمية عن غيرها مما هو متاح في الأسواق حالياً.

هذا العمل وإن كان غير مستكمل لكل العوامل إلا أنه إذا قورن بمراكز مماثلة

داخل مصر أو خارجها بإمكانات أكبر يجد أنه يعتبر إنجازاً كبيراً، ولكن ليس هو

أفضل ما يمكن، ولذلك الآن المرحلة الحالية يتم نشر الاستدراكات والتصويبات

على هذه المجموعة، على موقع إحسان على الإنترنت.

البيان: وماذا عن الفترة الحالية؟

- والمشروع في الفترة الحالية الآن بدأ مرحلة تتميز عن المرحلة السابقة

بأشياء:

أولها: أنه لا يتم إخراج كتاب من كتب السنَّة إلا على أصول خطية كافية

وموثقة.

الثاني: أنه لا بد من تحكيم هذه الأعمال المحققة بواسطة أساتذة الاختصاص

من داخل مصر وخارجها قبل طباعتها.

والثالث: أن تكون الطباعة في ثوب يجعل قيمة الكتاب في متناول شريحة

كبيرة من الناس؛ لأن موسوعة الكتب السبعة طبعت في ألمانيا، وترتب على ذلك

أن كلفتها كانت عالية، ولذلك نتوسم - إن شاء الله - أن يكون لها تأثير في ما

يخرج، والكتب التي هي بصدد الإخراج الآن مسند الإمام أحمد باعتبار أنه كان من

الكتب الداخلة من الأول في البرنامج، ولكن توقف، أولاً لطول الكتاب، وثانياً

لأنه عدل منهجه من المنهج القديم إلى المنهج الجديد، وهذا التعديل نتج عنه

الحصول على نسخ خطية تشتمل على الخرم الموجود في طبعة الرسالة، لدينا

نسختان خطيتان الآن من المسند حصلنا عليهما من تركيا تشتملان على هذا السقط

كما قدمت.

البيان: وما الفرق بينها وبين نسخة مؤسسة الرسالة؟

- طبعة مؤسسة الرسالة السعودية، تتميز بأشياء ليست في طبعة المكنز وهي

الحكم على الحديث من حيث الصحة والضعف، وهو عمل ليس بالسهل ويمكن أن

تكون الأخطاء فيه كثيرة، ومن ثم يحدث منها بلبلة أو خلاف أكثر مما تحصل منها

فائدة، خاصة مع قلة الإمكانيات وضيق الوقت، أما الإضافة التي نعتبرها توفيقاً

من الله تعالى، هو هذا الخرم الذي عالجناه بنسخ خطية، ولم يسبق أن عولج من

هذه النسخ من قبل لا يمكن أن تقول بالإضافة، إلى أن هذه النسخ أعطتنا أحاديث

لم تذكر تقريباً ١٢ حديثا، والمسند الآن والحمد لله في مراحله الأخيرة؛ فإذا تم

الفراغ منه بدأنا مرحلة جديدة تتضمن سنن الدارمي ومسند الحميدي، وسنن

الدارقطني ومستدرك الحاكم.

البيان: ما هي أهم كتب السنة المخطوطة التي لم تر النور بعد، وتنصحون

بتحقيقها ونشرها؟

- كثير من الكتب لم تر النور ولم يُعْتَنَ بها؛ فهناك كتب المتون مثل الأجزاء

الحديثية، وهذه ليست قليلة وهي تمثل أصولاً لكثير من الكتب الآن. يعني فيه

كتب مثلاً أصول لسنن البيهقي حتى الآن تعتبر من كتب الأمالي المخطوطة التي

ترجع إلى أثناء إسناد البيهقي وهذه يوجد نسخ منها وتنتظر التحقيق. لكن الذي

يمثل أكثر هذه الكتب كتب شروح الحديث، ونسخها الخطية موجودة؛ على سبيل

المثال عندنا شرح ابن رسلان لسنن أبي داود، وهذا يعتبر أوسع شروح سنن أبي

داود، والشرح الكامل للسنن الذي تم في عصر الحافظ ابن حجر، وقد اقترحته

على كلية أصول الدين في الرياض فحققوا منه قرابة ثلثيه ونسخه موجودة في

السعودية في مكتبة المحمودية في المدينة وفي تركيا وهم استكملوا النسخ، وتقريباً

ما زالت الأجزاء الأخرى تسجل لكن نتمنى أن يخرج إلى الطباعة ما حقق منها،

أما كتب الشروح الأخرى فهناك عدد من شروح البخاري لم تخرج هناك شرح

الزركشي لصحيح البخاري، وهناك شرح البرماوي لصحيح البخاري، وهناك

أيضاً بعض الشروح لكتب السنة الأخرى أيضاً لم تخرج حتى الآن، بل هناك أيضاً

من الشروح التي خرجت الآن ما لم يخرج محققاً مثل فتح الباري لابن حجر وإرشاد

الساري وشرح الأُبي والسنوسي على صحيح مسلم، وكل هذه الكتب طُبعت بدون

تحقيق، ومن ثم يعتبر النص الموجود فيها فيه أخطاء، هذه الأخطاء وإن كانت لا

تمنع من الإفادة، ولكن لو أنها صُوبت ووثّقت أيضاً بالنقل لأحيت مثل هذه الكتب

من جديد.

البيان: كثير من المخطوطات ما زال رهن السرقات الحضارية قابع في

مكتبات الغرب كيف السبيل للإفادة من هذه الكنوز؟

- من أجل خطوة على هذا الطريق المبارك نوصي بعمل فهارس لما هو

موجود في هذه المكتبات من مخطوطات.. من السهل فهرسة ما هو داخل العالم

العربي، وقد قطعت فيه أشواطاً طيبة، وإن كانت المكتبة الأزهرية مثلاً تحوي

آلاف المخطوطات التي لم تنشر لها فهارس حتى الآن، لكن المشكلة أكبر في

فهرسة ما هو في المكتبات العامة خارج العالم العربي في ألمانيا وفي فرنسا، وفي

بريطانيا وفي أسبانيا، وفي إيطاليا وأيضاً تركيا، وفي الدول الإسلامية في آسيا

الوسطى وغيرها.

هذه المخطوطات لها فهارس في مجلدات بيد أن المعلومات التي كتبت عن كل

مخطوط مكتوبة باللغات الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو اللاتينية ما عدا اسم

الكتاب فقط فهو بالحروف العربية، حبذا لو أن بعض جهات الوقف التي تمول العلم

والثقافة تأخذ على عاتقها ترجمة هذه الفهارس؛ لأنها ستكون مفتاحاً لإحياء كثير من

الكتب.

وكذلك أيضاً الفهارس التركية جزء منها باللغة اللاتينية وجزء آخر باللغة

التركية، وعملوا مشروعاً هم الآن لحصر المخطوطات التركية خارج استانبول،

فأخرجوا منه حوالي عشر مجلدات اطلعت عليها على نفس الطريقة أي أنهم يكتبون

اسم الكتاب فقط بالعربي وبقية المعلومات واسم المؤلف وكذا وكذا كله بالتركي،

أيضاً الجمهوريات الروسية التي استقلت لديها تراث حديثي بعضه إما مفهرس خطأ،

وبعضه مفهرس بلغة الدولة التي فيها، ولذا يصعب على من يقرأ فهارسهم من

العرب أن يستخرج منها ما يريد بنفسه، وخاصة أن كل المكتبات التي ذكرتها فيها

ما يفهرس تحت مجهول المؤلف أو كتاب مجهول الاسم، ومثل هذا لو عُرِّب

الفهرس فيمكن من قراءة النموذج الموجود معرفة الكتاب.

الخطوة الثانية تأتي بعد جمع هذه المخطوطات تأتي شكلاً من أشكال التعاون،

والذي أسجله أن البلاد الأوروبية في هذا المجال متعاونة، ومما أذكره أن القائمين

على مكتبة الملك فهد في الرياض صوروا مكتبة برنستون في أمريكا أو الكثير منها،

وفيها من النسخ الخطية من الكتب التي لم أكن أعرف أنها موجودة حتى اطلعت

على هذا الفهرس، لكن لم تفهرس كل محتويات المكتبة، هم أصدروا حتى الآن

جزءاً منها باللغة الأجنبية، ومن الكتب المخطوطة التي نرجو أن نصل إليها تكملة

صحيح ابن خزيمة، أيضاً تفسير السيوطي المسند الذي اختصر منه الدر المنثور،

وقد ذكر أنه في بعض مكتبات ألمانيا، وهذا لو عثر عليه فسيكون طبعاً إحياء لكتب

كثيرة مفقودة من التفسير المسند مثل تفسير ابن المنذر وتفسير عبد بن حميد وتفسير

ابن أبي حاتم الرازي الذي لم يوجد منه إلا ثلثا الكتاب والثلث الأخير جمعوه من

الكتب، تفسير ابن المنذر لم يوجد منه إلا قطعة في ألمانيا كانت إلى السنة الماضية

مخطوطة لم تطبع، وطبعه بعض الإخوة الآن في السعودية بعدما حصل على هذه

القطعة من ألمانيا وهي النسخة الوحيدة التي كانت موجودة.

ثم تأتي مرحلة ثالثة وهي تقديمه للباحثين بضوابط علمية معينة، وكذلك

بطباعته بواسطة لجان علمية محكَّمة هذا في غاية الجودة.

والآن توفر لنا وسائل التقنية الحديثة مثل الحاسوب بإمكانياته المذهلة في حفظ

وتبويب واسترجاع مثل هذا التراث والبحث فيه، بطريقة سهلة وسريعة يمكن لها

أن تسعفنا كثيراً في نشر كثير من هذه الكتب أو على الأقل حفظها من الضياع.

البيان: هل بإمكان المشتغلين بعلم الرجال والتواريخ أن يؤسسوا لهم

مدرسة لكتابة تأريخ القرون المتأخرة بعيداً عن التأثر بالغزو الفكري وتزييف

الغرب مع استيعاب ظروف العصر؟

- لا شك في إمكان ذلك بعون الله تعالى؛ لكن أنا لا أريد أن تكون للمعاصرين

فقط؛ لأننا نعلم جميعاً أن تاريخ المحدّثين القديم فيه مراحل لم تدوَّن، ولها من خلال

المخطوطات والسماعات التي عليها ما يمكن أن يخرج منه تاريخ؛ فمثلاً السماعات

التي على مسند الإمام أحمد نسخة المكتبة الظاهرية إذا وجد من أهل العلم من

يستخرج هذا السماع ويوجد شيخ وتلميذ.. وشيخ وتلميذ.. وشيخ وتلميذ،

يستطيع أن يسد ثغرة من أسانيد الكتب ليست لدينا الآن، يعني السماعات التي

على مخطوطات نسخة الظاهرية من مسند أحمد لو اشتغل بها مختص وفرغها

إلى شيوخ وتلاميذ فإنها تخرج كتاب تراجم ليس متأخراً معاصراً، ولكن من الحلقات

التاريخية المفقودة في تاريخ المحدثين السابقين؛ فحبذا لو أن هذه الأسمعة اتجهت

إليها نظرة الباحثين وأخرجت منها تراجم لأسانيد متأخرة نحن لا نقف عليها مثل

أسانيد البيهقي، أسانيد الحاكم، أسانيد البغوي صاحب شرح السنة المتوفى سنة

٥٠٦هـ، أسانيد الضياء المقدسي المتوفى سنة ٦٠٠هـ والتي أخرج بها المختارة

للضياء المقدسي، لو أن هذه الأسمعة درست فسيوجد ما يسد هذه الثغرة.

أما المعاصرون فأنا أرى أنه يهتم بتسجيل تاريخهم من أي مصدر من

المعلومات يصل إلينا حتى لو كان من الصحف اليومية؛ لأنها لن تكذب في إماتة

واحد قبل أن يموت، ثم التحليل والاستفادة تكون بقدر كفاءة من سيحلل، وأيضاً

نزاهته؛ لأننا نحتاج في المعاصرين إلى هذين العنصرين: الكفاءة في التسجيل

التاريخي، والنزاهة؛ وهو ميزان الجرح والتعديل؛ فإذا توافر الاثنان في

المعاصرين فلا شك أنه سيكون أنفع للمسلمين كثيراً.

البيان: ما هي مجالات علوم الحديث التي ترون أنها لم تستوف بعد حقها

من البحث وترغبون في زيادة جهود البحث باستفراغ الوسع في خدمتها؟

- علوم الحديث التي ينقصها الآن الجانب التطبيقي الذي يجعل المصطلحات

الموجودة في كتب المصطلح مطابقة لواقع كتب الحديث الأصلية. فمثلاً: نحن

عندنا تعريف للمنكر، وعندنا تعريف للشاذ لا يتجاوز المثالُ حديثاً أو حديثين، نحن

نحتاج إلى أمثلة تطبيقية كثيرة على هذا، قد يقال: كتب الرجال جمعت المناكير

مثل ابن عدي في الكامل والإمام الذهبي في كتابه الميزان. نعم! لكن هذا

الجمع محتاج إلى تنقية أخرى؛ لأن مما يذكره مثلاً ابن عدي في مرويات

الشخص من ليس منكراً، ومنه من هو منكر، فنحتاج إلى تمييزهم التطبيقي

بدلاً من أن يعتبر القارئ أن كل ما يذكر في ترجمة الراوي فهو من مناكيره.

أيضاً الحديث الشاذ مثلاً ليس لدينا في كتب المصطلح عليه إلا مثال أو

مثالان.. مع أنه يوجد في كتب العلل أو كتب الرواية ما يمكن تطبيق هذا القيد

عليه، كذلك بالنسبة لفقه الحديث نحن محتاجون أن نبوب على الموضوعات

المعاصرة.

أنا أعرف أن بعض الجهات الخيرية الآن تعمل على جمع وتبويب مثل

الاقتصاد الإسلامي وأدلته من خلال مرويات السنة ومن عمل الصحابة والتابعين،

ولا شك أننا بحاجة إليه وخاصة أن الاقتصاد الإسلامي الآن يحارَب.

كذلك مما نحن نحتاجه الجانب التربوي أو تأصيل علم التربية من أدلة

السنة؛ فيا حبذا لو جمعت فيها المتون التي تخدم هذا الجانب وعرضت بأسلوب

جيد، وأيضاً نفس النصوص توثق بحيث لا نبني على الشيء الهش أساساً كبيراً.

البيان: في الختام: نتطلَّع إلى بعض الدرر ترصعون بها هذا الحديث

الشيق وتوجهون بها أبناءكم المشتغلين بعلوم السنة؟

- أهم ما أنصحهم به قبل كل شيء هو إخلاص النية، وكما هو مقرر أنه لن

يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والأوائل من علماء الحديث الدارسين

كان لديهم جانب الاحتساب؛ فلا ينبغي أن يرتبط العمل بالسنة وخدمتها بالأمور

المادية؛ فإن كان دون مقابل فهو الأجر الكامل بإذن الله، وإن احتاج أخذ على قدر

حاجته، لكن في المقابل كما ذكرنا أن خير من يعان على طلب العلم هو من يطلب

حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك مع وجود الحسبة فلا بد أن يكافأ هذا

المحتسب بأن يجد ما يحفظ له كرامته وماء وجهه ولا يحوجه لأن يكون مطية لأي

فكر منحرف نتيجة لضيق ذات اليد؛ فبالمال يزكو العلم.

وفي المقابل ننصح أهل العلم بعد إحسان النية والاحتساب بأن يكونوا دائماً

على صلة بالعلم، ولا يعرفوا الكلمة الأخيرة؛ لأنه إذا ظن الرجل أنه علم فقد

جهل، وأن يكون هناك أيضاً اعتدال في الأخذ واعتدال في العطاء، وهذا ما نسأل

الله عز وجل أن يصلحنا به، وأن ينفعنا به، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه

الكريم، وأن يصلح لهذه الأمة آخرها بهدايتها إلى ما صلح به أولها؛ إنه على كل

شيء قدير.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شكر الله لكم فضيلةَ الدكتور.