للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المجتمع المتمدن]

د. عبد الكريم بكار

مما يلفت انتباه المراقب لشؤون الثقافة لدينا ذلك الإعراض عن الاهتمام بالشأن الاجتماعي، وكل ما فيه معنى الغيرية؛ فوعي الناس غارق في الاهتمام بالشأن الشخصي. وهذا يعود إلى ضعف التربية الاجتماعية لدينا؛ حيث التركيز شبه المطلق على النجاح الشخصي؛ وكأن المثل العربي القديم: «انجُ سعدُ؛ فقد هلك سُعيد» قد بات يشكل المنهج غير المعلن للأنشطة التربوية، والتحركات اليومية، ولا بد لهذا الأمر أن يثير الأسى والأسف لدى المراقب لأوضاع أمة، يقول نبيها -صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (١) .

قد أصبحت كلمة (الأخوة الإسلامية) و (الأخوة في الله) خالية من الجاذبية، وخالية من المضمون أيضاً. أما المطالبة بتحقيق معنى (الإيثار) في حياتنا اليومية؛ فقد صارت تثير الدهشة، وأحياناً الإشفاق.

هذا كله يعني أن إرثنا الحضاري العريق في التعاطف والتراحم والتعاون آخذ في التآكل دون أن تُحدث مبادرات كبرى للحفاظ على ما تبقى منه. قد يكون لغياب الرؤية الثقافية الاستراتيجية دور أساسي في هذا، وقد يكون لضغوطات الواقع، والظروف الصعبة التي نمر بها تأثير في ذهولنا عن العديد من المسائل الكبرى التي علينا أن ننشغل بها، ومنها مسألة التلاحم الأهلي. الإحساس بالفراغ يدفع دائماً في اتجاه البحث عن الامتلاء؛ وهذا ما يحدث اليوم؛ فقد صار من المتداول اليوم مصطلح (المجتمع المدني) ، وهو يعني من حيث المبدأ نسيجاً متشابكاً من العلاقات التي تقوم بين أفراده على أساس من التفاهم والتراضي، وتبادل المصالح والمنافع، والمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات، وتحمُّل المسؤوليات إلى جانب مراقبة الأنشطة العامة، ومحاسبة المقصرين، وملاحقة الفساد والمفسدين. وهذا المفهوم للمجتمع المدني منسوخ من المفهوم الغربي مع شيء من القصور والتشويه.

وقبل أن أبدي بعض الملاحظات على مدلولات هذا المصطلح أودّ أن أوضح أن المجتمعات الإسلامية السابقة على عصور الانحطاط كانت تستمد حيويتها وخيريتها، وصيانة مصالحها من عدد من المصادر المرتكزة على الإيمان بالله ـ تعالى ـ والتشبع بالروح الإسلامي، والمنهج الرباني الأقوم، ومن جملة تلك المصادر: أن الناس كانوا على نحو عامٍّ يعيشون في تجمعات سكانية صغيرة، وكان يغلب عليهم الفقر، أو ما هو قريب منه. إن العيش في تجمعات محدودة كان يسهل عملية التواصل والتآزر إلى حدود لا تخطر اليوم بالبال. وإن الفقر هو دائماً ثقافة شعب، على حين أن الغنى ثقافة صفوة. ومن خلال ثقافة الفقر كان التواسي وكانت المصارحة والمكاشفة؛ فالكل مطَّلع على أحوال الجميع، مما يجعل إمكانية الإصلاح أسهل، ويجعل الشعور بوحدة المصير أعظم. وكان الوقف الإسلامي هو التعبير الدقيق عن إرادة الخير، والشعور بالآخرين، والتعبير الدقيق عن العمل على النَفَس الطويل. وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب نظام الحسبة يعبر بعمق عن التكافل الخُلقي، وعن مشروعية تدخل كل فرد من أفراد المجتمع في الشأن الاجتماعي العام، بما يحقق المصلحة، ويدرأ المفسدة. وهذه المعاني والإجراءات، والأُطُر هي التي كانت تمنح المجتمع الإسلامي الجاذبية، والتماسك والاطمئنان، كما كانت تساعد الناس على تحمُّل أعباء الأخطاء التي كانت ترتكب على صعيد السياسة والاقتصاد. هذا كله قد تراجع في حياتنا؛ مما جعل بعض المثقفين يبحثون عن صيغ وفعاليات جديدة لإنعاش الحياة الاجتماعية والحيلولة بينها وبين مزيد من التدهور. ومع اعتقادنا بحاجة أوضاعنا إلى الكثير من الإصلاح، وحاجتها مِنْ ثَمّ إلى كثير من الأفكار، وكثير من الناشطين، وكثير من الصيغ ... إلا أنني أودّ أن ننتبه إلى ثلاثة أشياء:

١ - إن النقطة الثابتة التي تتمحور حولها كل الأفكار والمؤسسات والأنشطة في المجتمع المدني في الغرب: هي الإنسان كما تصوره الفلسفات الغربية، وكما بلورت حقوقه وحاجاته، وواجباته الخبرة المستخلصة من التجارب هناك. وهي فلسفات لم تنشأ في غياب الدين والوحي فحسب، وإنما نشأت على خلفية العداء لهما.

أما المجتمع المتمدن في الرؤية الإسلامية، فهو مجتمع يقوم على حب الله ورسوله والالتزام بأحكام الشريعة وآدابها، كما يقوم على الرحمة وليس على المنافسة، وعلى التعاون وليس على الاستئثار. ومن هنا فإن المطلوب لمجتمعاتنا ليس مطابقاً لما قد يكون مرضياً لمجتمعاتهم.

٢ - في الغرب حديث طويل عن محورية حقوق الإنسان، ومكانتها في المجتمع المدني، لكن لا نجد أي حديث عن حقوق الله تعالى، أما عندنا فإن أداء المسلم لحقوق الله شرط أساسي في الحكم على تمدنه وتحضره. وحقوق الإنسان نفسها شيء يُفهَم من المنهج الرباني الأقوم.

٣ - الناشطون في مجال العمل على إيجاد المجتمع المدني غارقون في المطالبة لغيرهم بتحقيق بعض الأشياء، وتغيير بعض القوانين، وهم بذلك يهتمون بالجانب السلبي من القضية، ولا نجد لهم تحركاً يذكر على صعيد البناء والتنمية.

إن المجتمع لا يقوم من خلال توفير حرية التعبير وحرية الحركة والاجتماع فحسب، إنه يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير. إن المجتمع حتى يصبح مدنياً أو متمدناً يحتاج إلى ما لا يحصى من المؤسسات الخيرية، والتطوعية، واللاربحية.

الناس يحتاجون إلى مؤسسات وأطر تربوية وتعليمية، وإغاثية ودعوية ترتقي بهم، وتؤهلهم لعيش زمانهم بكفاءة واستقامة. والمجتمعات الإسلامية في ظل الحضارة الإسلامية الزاهية كانت كذلك. والمجتمعات الغربية تقوم أيضاً على عدد ضخم جداً من المبادرات، والمساهمات الأهلية المجانية.

تمدين المجتمع شيء مهم وعاجل، لكن يجب أن يقوم على أسس صحيحة، حتى يتفاعل معه الناس، ويُسهموا في (ورش) بنائه.


(١) أخرجه مسلم.