[الطرح الشمولي]
د. عبد الكريم بكار
إن المنهج الرباني الأقوم يملِّكنا الرؤية الشاملة لعدد كبير من الأشياء ولكل أساسيات الحياة، إنه يعرّفنا على مركزنا في الوجود، وعلى علاقتنا بالله تعالى، وعلى العلاقة التي يجب أن تسود بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما يعرّفنا على واجباتنا، وعلى الحدود التي يجب أن نتوقف عندها ... وهذا فضل كبير على هذه الأمة في زمان فقد فيه العالم من حولنا الأهداف الكبرى والغاية النهائية.
هذا التصور الشمولي الذي أكرمنا الله به يغرينا بـ (الطرح الشمولي) والمعالجة العامة للأوضاع والمشكلات العامة. وهذا واضح؛ فحين يُعقَد مؤتمر لمعالجة قضية من القضايا، فإن المفترَض هو اقتصار المؤتمرين على معالجة القضية التي اجتمعوا من أجلها، لكن الواقع يقول غير هذا؛ حيث تجد كثيرين منّا يشرِّقون ويغرِّبون، وهم يعرضون مشكلات الأمة التاريخية والسياسية والتربوية والاقتصادية ...
وكثيراً ما يُنسى الموضوع الأصلي لتجد نفسك في نهاية المطاف أمام طرح عامٍّ فيه الكثير من حسن النية والقليل من الموضوعية والتركيز، والنتيجة غالباً ما تكون عبارة عن توصيات عامة وكبيرة، لا يستطيع المؤتمرون تنفيذ شيء منها. وقد تعودنا أيضاً إذا التقينا بعالم أو قائد ... أن نضع بين يديه كل همومنا ومشكلاتنا، فيعطينا أجوبة عامة، لا تقدم، ولا تؤخر ... وهكذا ...
ولعلِّي أدلي بالملاحظات التالية حول هذه المسألة المهمة:
١ ـ لنا مصلحة كبرى في الفصل بين الرؤية الشمولية والطرح الشمولي.
فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في الخلق بوجوب التناول الجزئي والمعالجة المحدودة للأشياء، وهذا ما نفعله في كل شؤوننا الحياتية. ونحن في المجال الإصلاحي والتربوي ... نحتاج إلى وقود روحي وإلى عزيمة وأمل، وهذا لا يتوفر مع الطرح الكلي، وإنما مع الطرح الجزئي الذي نشعر أننا نمتلك أدوات التعامل مع مضامينه ومقترحاته. إن الأفكار الصغيرة والمشروعات المحدودة والإصلاحات الجزئية، تقبل التطبيق؛ لأنها تقبل التصديق. وعلى العكس من هذا شأن الطروحات الكبرى؛ إننا لا نشعر معها بالقدرة على التنفيذ، ومن ثَمَّ فإننا لا نتفاعل مع أصحابها، ولا نشعر أننا مؤهلون للمساهمة فيها، ولهذا فإنها تظل عبارة عن آمال وتطلّعات، تنتقل من جيل إلى جيل على ما هي عليه من التنظير والبعد عن التحقيق.
٢ ـ نحن اليوم بحاجة إلى ملايين المشروعات الصغيرة التي يتبنّاها ويرعاها ويعمل على إنجازها ملايين الأبطال الصغار من فرسان الأمة الذين أخذوا على عاتقهم سدّ الثغرات الصغيرة ودفع العربة خطوة في طريق الألف ميل. إننا سنشعر أننا عملنا شيئاً حقيقياً إذا استعضنا عن الحديث العام والشامل حول الإصلاح التربوي بتأسيس روضة للأطفال، يشعر آباء من يدخلها من الأطفال أنهم عثروا فعلاً على المكان وعلى المحضن التربوي الذي يبحثون عنه، وسنشعر بالإنجاز فعلاً إذا وفرنا الجهد والوقت الذي نبذله في الحديث عن التخلف الصناعي لدى الأمة، وعمدنا إلى إنشاء مصنع ينتج لنا سلعة، نستوردها من الخارج، ويؤمِّن لنا فرص عمل لخمسين من أبناء المسلمين.
أنا مع الرؤية الشاملة، ولست ضد الطموحات الكبرى، لكن بشرط أن نضع أنفسنا على طريق التقدم نحوها، وأن نشعر أننا نخطو فعلاً في ذلك الطريق، وهذا لا يكون من خلال المزيد من الكلام وسَوْق البراهين على أهمية التقدم، وإنما من خلال المشروعات العملية الملموسة.
٣ ـ أعتقد أن الذي يحرضنا على الطرح الشمولي، أو الذي يسهِّل لنا المجازفة والحديث عن التحولات العظمى هو عدم وعينا بتكاليف التنفيذ، وعدم وعينا بما تبديه الأشياء من ممانعة في كل المجالات، وعدم وعينا بالقوى المضادة التي تتأذى من حدوث أي سير في الاتجاه الصحيح.
وربما كان من الحلول الجيدة لهذه الوضعية أن نعمد إلى استخدام الأسئلة الاستقصائية في مواجهة كل مسألة كبرى نريد معالجتها، وسأضرب مثالاً توضيحياً لذلك: إذا أردنا معالجة انتشار الفقر في مدينة من المدن أمكننا أن نحيط هذه الظاهرة المزعجة بالكثير من الأسئلة، لعل من أهمها الآتي:
ـ ما تعريف الفقر؟ وما الذي يحتاج إليه الفرد في تلك المدينة من مال ومتاع وحاجات حتى نقول: إننا وفرنا له الأساسيات وأسباب البقاء؟
ـ ما أسباب انتشار الفقر في تلك المدينة؟ هل شُحُّ الموارد هو السبب؟ أو هناك أسباب أخرى مثل الجهل والكسل؟ أو هو العادات الاجتماعية السيئة مثل إعراض كثير من الشباب عن العمل في بعض الحِرَف والمِهَن اليدوية؟ أو أن هناك أسباباً أخرى غير ذلك؟
ـ ما حجم انتشار ظاهرة الفقر في تلك المدينة؟ هل هي ـ مثلاً ـ ١٠% أو ٢٠ % أو ٥٠ %؟ إن تحديد الحجم شيء مهم حتى نعرف تكاليف العلاج.
ـ ما التكلفة المالية لخفض نسبة الفقر؟
ـ ما الجهات التي ستشرف على المعالجة؟
ـ ما الجهات التي يمكن أن تقدم المساعدة؟
ـ ما البرنامج الزمني لذلك؟
ـ ما العقبات المتوقعة في وجه هذه المعالجة؟
هذه الأسئلة وما شابهها ستوقفنا على حقيقة غير سارة، هي أن ما نملكه من قدرات ناجزة لمعالجة مشكلاتنا المختلفة، قد لا يساوي أكثر من (٥ %) مما هو مطلوب، لكن مع هذا يجب أن نكون مغتبطين؛ لأن معرفة المسافة ما بين ما هو مطلوب وما هو كائن، تشكل إنجازاً كبيراً.
إن كثيراً من العمل سيغنينا عن كثير الكلام، والكثير من الكلام مع قليل من العمل، سيولِّد لدينا الكثير من الأسى والإحباط.
هل لي بعد هذا أن أتوقع أن أرى (٥ %) من قرّاء هذه المجلة الغراء وقد بدؤوا في التفكير الجاد في ممارسة دور (الأبطال الصغار) الذين لا يحسنون تشقيق الكلام، ولكن يعرفون كيف يضيفون إلى حياة الأمة شيئاً مفيداً وجديداً؟
هذا ما أرجوه، وأتطلّع إليه.