للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

مصر في القرن الواحد والعشرين

(قراءة أصولي)

(٢ من ٣)

بقلم: عبد الرحمن الكناني

بعد تمهيد ببيان أهمية طَرْق مثل هذه الموضوعات من قِبَل الإسلاميين؛

لإبداء وجهة نظرهم فيما يطرحه العلمانيون، وتنويه بأن ذلك ينبغي ألا يكون من

موقع الهزيمة النفسية: عرض الكاتب في الحلقة السابقة تلخيصاً للدراسة المستقبلية

التي طرحها الدكتور أسامة الباز، ثم أبدى بعض الملحوظات العامة على الدراسة،

وبدأ في توضيح بعض الملحوظات التفصيلية، التي كان منها: مكانة الإنسان،

وتحريره أم الوصاية عليه، وحقيقة الطفرات السياسية.. ويواصل الكاتب ما بدأه

من هذه الملحوظات.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

الملحوظة الرابعة: الموقف من الصحوة الإسلامية:

يفسر الأستاذ السيد ياسين أسباب ظهور الصحوة الإسلامية بفشل الفلسفات

والأيديولوجيات الوضعية (المنافسة للدين) مثل الليبرالية والاشتراكية في الإجابة

عن الأسئلة الكبرى لمعنى الحياة وجوهرها، ثم تنافس هذه الفلسفات

والأيديولوجيات فيما بينها، وليس بينها وبين الدين، (مما جعل الشباب يعود

للدين في صورة موجات من التدين الشعبي، ثم في صورة حركات إسلامية منظمة، انقلب بعضها ليصبح حركات إرهابية صريحة لا تخفي مخططاتها) ، بينما

يرصد الدكتور حسن حنفي أسباب بروز (الإحياء الديني) ، فيرى أن (هزيمة

١٩٦٧م كانت أول وأهم هذه الأسباب، ثم تأتي سياسات الانفتاح وما أعقبها من

غلاء وبطالة، وزيادة التفاوت بين من يملكون ومن لا يملكون، فضلاً عن ازدياد

الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وأخيراً يتحدث الباحث عن التوجه إلى الصلح مع

إسرائيل والتعاون مع الغرب والولايات المتحدة) .

ونلاحظ أن التفسيرات في مجملها تلمح إلى عدم أجدرية الدين برجوع الشباب

إليه، ولكننا نلفت نظر المتأمل إلى أن تنافس الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية

والصراع بينها وحده.. ليس كفيلاً وحتميّاً برجوع الشباب إلى الدين، كما أن هذا

الصراع لم يتجاوز دائرة (النخبة الثقافية) ، ولم يكن للجماهير التي (أصابتها

موجات التدين الشعبي) احتكاك بهذا الصراع، أما هزيمة ١٩٦٧م: فليست سبباً

منطقيّاً لبروز هذه الصحوة؛ فقد كانت الصحوة ممتدة من قبل هذا التاريخ، وإن

أخذت بعداً آخر في عمقها واتساعها بعد ١٩٦٧م ليس بسبب الهزيمة نفسها في

رأيي ولكن بسبب ظهور فرصة التحرك الدعوي التي أُتيحت نتيجة ضعف النظام

وانكساره بعد الهزيمة.. وأما التفسير (الاشتراكي) بالعوامل الاقتصادية والتقارب

مع الغرب، فرغم تناقضه مع ما يدعيه آخرون من إنجازات اقتصادية واجتماعية

وسياسية حققت بعد (ثورة ١٩٥٢م) ، إلا أنه أيضاً لا يفسر لنا امتداد الصحوة شرقاً

وغرباً، في أقطار لا تعاني من ضائقة اقتصادية، بل تعيش في رغد ورخاء، وفي

أقطار ما زالت تعلن العداء (للإمبريالية الغربية) ، وتصر على أن فلسطين (من

البحر إلى النهر، ومن الجنوب إلى الجنوب) .

وحسب الرؤية الأصولية التي نظنها إسلامية صحيحة فإن انتشار الصحوة

راجع إلى أن الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هي ملاذ الأفراد

الطبيعي عندما يعودون إلى أنفسهم وتتاح لهم فرصة التذكير والتعريف بهذا الدين،

وأن الإسلام هو قَدَر هذه الأمة وهويتها التي لا تستطيع بدونه أن يكون لها تميز

أممي بين البشر، وُجِدت الصحوة رغم محاولات الصد والمنع والكيد التي تبذل

للحيلولة دونها، وهذا ما يحيِّر العلمانيين.

وعن الصراع بين التيارات الإسلامية والعلمانيين:

يرى الأستاذ/ السيد ياسين أن (الصراع الثقافي: بين العلمانيين وهم

أنصار فصل الدين عن الدولة وبين من يزعمون أهليتهم للحديث باسم الإسلام،

ويرفعون شعار (الإسلام هو الحل) .

وهؤلاء لن يتاح لهم أن يحصلوا على أغلبية مقاعد مجلس الشعب في أي

انتخابات حرة ونزيهة؛ لأنهم وهذه حقيقة أساسية لا يمتلكون أي مشروع محدد

سوى شعارهم العام الذي يفتقر إلى التحديد، ويعاني فقراً شديداً في المضمون

الفكري) .

ونلاحظ أن المعاني التي تحتويها هذه الفقرة هي محتوى أنشودة علمانية لا

يمل المناوئون للتيار الإسلامي في أكثر من قطر من ترديدها، وتدور حول (فقد

البرنامج) ، ولكننا نلفت الانتباه إلى:

أولاً: التنافس على مقاعد مجلس الشعب ليس صراعاً ثقافيّاً، والفوز بهذه

المقاعد لا يمثل انتصاراً لثقافة على أخرى، بل يمثل مهارة في الإدراة باستخدام

الأساليب المشروعة وغير المشروعة، التي أشرنا إلى جانب منها سابقاً: كاستغلال

النفوذ، والابتزاز السياسي، والتمويل السخي، إضافة إلى الاعتبارات المناطقية

والعائلية، هذا إذا ضربنا صفحاً عن اتهامات التزوير على نطاق كبير.

ثانياً: إذا كان هؤلاء الذين يزعمون أهليتهم للحديث باسم الإسلام غير

مؤثرين، ولا يملكون برنامجاً، ولن تتاح لهم فرصة نجاح.. فلماذا الخوف منهم،

ومطاردتهم، وملاحقتهم، ومنعهم من ممارسة أي نشاط ثقافي أو اجتماعي أو

سياسي؟ ، ثم: أليس العلمانيون يزعمون أيضاً أهليتهم للحديث باسم الإسلام، فما

الفرق المؤثر بينهم وبين الإسلاميين عند (المفكرين) وعند الجماهير، إلا الإحساس

بصدق التوجه؟ .

ثالثاً: الدندنة حول (البرنامج) على طريقة (الرؤية الإسلامية لحل أزمة

المواصلات) و (الطرح الإسلامي لمعالجة مشكلة الصرف الصحي! !) ... ليست

طريقة صحية في الحوار الفكري والمناوشة السياسية:

- فالصحوة الإسلامية تملك بديلاً حضاريّاً متكاملاً ومتميزاً عن غيره لا ينكره

من خصومها إلا مكابر.

- وهذا البديل الحضاري ليس تصوراً نظريّاً فقط، بل دامت تحت ظله

مجتمعات متنوعة الأعراق واللغات ودول عتيدة لقرون عدة، وإن اختلفت درجة

قربها أو بعدها منه.

- والتيار الإسلامي لم تتح له فرصة العمل الحر حتى يقدم ما عنده، وعندما

أتيحت هذه الفرصة تقدم على منافسيه رغم الحضور العلماني المكثف كما حدث في

الجزائر، وتركيا أخيراً.

- وراية (البرنامج) لا يلوح بها إلا في وجه الإسلاميين، فرغم عدم تمكين

الحركة الإسلامية من العمل السياسي المنظم والمعلن، والحجر عليها بدعوى عدم

وضوح منهجها وفراغ شعاراتها من محتوى فكري محدد، نجد غض الطرف عن

الأحزاب العلمانية وإفساح المجال لها، وذلك رغم (غياب التمايز الواضح بين

برامج الأحزاب السياسية، مما يجعلها لا تمثل بدائل حقيقية في نظر الناخبين،

وغياب الديمقراطية الداخلية في أغلب الأحزاب القائمة.. وعجز الكثير من أحزاب

المعارضة عن القيام بوظيفة التعبير عن المصالح وبلورتها في شكل سياسات

وبرامج حزبية) ، وهذه شهادة الدكتور علي الدين هلال في بحث آخر من الدراسة

التي نحن بصددها، فلماذا الكيل بمكيالين لشيئين متماثلين؟ ! .

- وأخيراً: فينبغي تجاوز الصور والأشكال إلى الحقائق والنتائج، فما هو

نصيب (البرامج) العلمانية التي طقطقت بها الأحزاب أو الدولة من التطبيق الفعلي؟ وماذا جلبت هذه البرامج على الفرد والمجتمع طوال الفترة الماضية، حتى نعي

حجم الخطر الداهم والفوائد الضائعة على التيار الإسلامي والشعب إذا تخلف عنه

(البرنامج) ؟ .

وأما الموقف من التعامل مع التيارات الإسلامية:

فنرى الدكتور علي الدين هلال الذي ينعى على ضعف أداء الأحزاب السياسية

جميعها يفاجئنا بتحديد مشكلة التمثيل السياسي في مصر (في الجماعات التي لجأت

لاستخدام العنف والإرهاب كأداة للعمل السياسي؛ فاستخدام العنف يمثل أداة لقهر

الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها برغم أنفهم) ..

ولكننا نرى في هذا الكلام خلطاً لبعض الأوراق؛ فالجماعات التي تلجأ (لاستخدام

العنف) ترفض المشاركة في العملية السياسية برمتها، وبالتالي: فهي ليست

بحاجة (لقهر الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة) ، إضافة إلى

أن أعمالها في الغالب كانت موجهة إلى ما اعتبروه رموزاً للنظام السياسي العلماني، وليست موجهة إلى المواطنين لتوجيههم في مسارات معينة رغم أنفهم كما ذكر

الدكتور هلال.

كما أن قهر الآراء المخالفة وتوجيه المواطنين في مسارات معينة هو بالضبط

ما يتم من قِبَل الدولة؛ كما رأيناها في قرارات منع الحجاب في المدارس، وفي

الممارسات الانتخابية المشار إليها، وفي السيطرة والتوجيه الإعلامي المكثف، وفي

سن قوانين (بالمقاس) لمواجهة الآراء المخالفة (كقانون الصحافة وتعديله، وقانون

النقابات، وقانون المنظمات الأهلية) .

وواضح أن الرأي مستقر في المشروع المستقبلي على استبعاد التيارات

الإسلامية من المشاركة في الحياة العامة:

فبينما يعيب د. علي الدين هلال على الأحزاب السياسية (ضعف) بنيتها،

فإنه يشكو من (وجود) التيارات الإسلامية التي يسميها التيارات الأيديولوجية

الشمولية هكذا قال: (وتواجه عملية التحول الديمقراطي عقبات عدة، منها:..

ضعف بنية الأحزاب السياسية، ووجود التيارات الأيديولوجية الشمولية) .

ويحدد الدكتور هلال دائرة عريضة من الاتفاق بين الأحزاب، تسمح بالعمل

المشترك، وتضمن استمرار عملية التحول الديمقراطي في مواجهة التيارات

المعادية للديمقراطية.

والدكتور الباز نفسه يلمح إلى حق الحكومة في عدم التعامل الديمقراطي مع

بعض الأفراد الذين لا يؤمنون إيماناً كاملاً بالديمقراطية، والمفهوم: أن الكلام موجه

بصورة أساسية إلى الحركة الإسلامية التي تُتهم بعض فصائلها باستغلال الإطارات

الديمقراطية مع عدم الإيمان بها، يقول الدكتور الباز: (ويتصل بعملية الإصلاح

السياسي: تعميق الممارسة الديمقراطية وترسيخ قواعدها في الحياة اليومية، بحيث

لا تقتصر على خلق التوازن بين الفرد والجماعة وعلى حماية المواطنين وتجمعاتهم

من عسف السلطة، وإنما تكون منهجاً ومسلكاً يتبعه المحكومون بقدر ما يلزم به

الحكام، ويتطرق إلى مختلف جوانب الحياة والمعاملات التي لا يعيش المجتمع

بدونها، فإذا لم يبدأ الفرد بنفسه ويلتزم بالقيم الديمقراطية في كل تعاملاته مع الغير

ومع السلطة وإذا لم يستوعب حقيقة أن الديمقراطية هي قيم وأصول قبل أن تكون

نظاماً وأشكالاً وقوالب دستورية وقانونية صماء: فإنه يكون قد أهدر حقه في مطالبة

الآخرين والمجتمع ككل بالالتزام بالمفهوم الديمقراطي) .

وهذا الكلام فيه انتقائية في التطبيق الديمقراطي غير مبررة وغير منتهية؛ فقد

كنا نفهم أن الديمقراطية حسب اعتقاد أصحابها توجه فكري قبل أن يكون سياسي،

قائم على الاقتناع به قبل أن يكون محققاً لمصلحة ومنتظِراً لمبادلة ومقابلة، وكاشِفاً

عما في نفوس الناس، وهي طريقة أقرب ما تكون إلى (التكفير الديمقراطي!) ،

إضافة إلى أن هذا المنطق يعطي مبرراً للأفراد لعدم (الالتزام الديمقراطي) ما لم

تظهر الحكومة أولاً هذا الالتزام وتتخلص من هذه الانتقائية. هذا أولاً..

وثانياً: أن في هذا الكلام دعوة للاستمرار في مبدأ إعطاء (الديمقراطية على

جرعات) وهو ما يؤكده الدكتور الباز بقوله: (فتح المجال للدخول في إصلاح

سياسي، بعد توافر القدر اللازم من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية) والحجر

على الاتجاهات الحضارية المخالفة للوجهة الرسمية، ووصاية على الشعب.. فمن

الذي أعطى لهم حق الحجر على اتجاه دون آخر إلى درجة أن يتساءل الأستاذ/السيد

ياسين قائلاً: (ما هو دور الإسلام السياسي في المجتمع المصري، هل يستبعد

هذا التيار أم أننا لا نستطيع استبعاده؟) [١] ، فما هي الصلاحية التي تخول لمن

يتحدث بهذا الأسلوب أن يحدد من يسمح له بالبقاء ممن يُحكَم عليه بالفناء؟ .

إنها قوة السلطة وليست دافعية الحق.. ليس إلا.

والعجيب: أن هذا الأسلوب في التعامل هو ما يحذرون لأجله من التيارات

الإسلامية، وهو: أنه لو وصلت فصائل من الحركة الإسلامية إلى السلطة: فإنها

ستنقلب على (العملية الديمقراطية) وتحجر على أي اتجاه غيرها، وتمنع تداول

السلطة، أي إن العلمانيين يمارسون بالفعل ما يُحذِّرون منه بالقول، مع اتهامهم

للآخرين بما لم يفعلوه.

والأعجب من ذلك في أمر الانتقائية تلك: أن الدولة تعترف وتتعامل بدرجات

متفاوتة ببراجماتية وميكيافيلية سياسية مع مسؤولين خارجين من عباءة الحركة

الإسلامية ابتعدوا عنها في الحقيقة أو قربوا، كما في حالة التعامل مع مسؤولين من

أفغانستان والسودان وتركيا، وهذا يدلنا على أن الصحوة أصبحت واقعاً لا يُنكر في

الداخل أو الخارج، مهما حاول بعض العلمانيين تجاهلها أو التعامي عن وجودها.

ولكن: هب أن بعض فصائل الحركة الإسلامية استقر رأيها على العمل من

خلال الإطارات الديمقراطية مع عدم إيمانها بها.. أليس ذلك هو ما يفعله العلمانيون

أنفسهم عندما يُضَمِّنون مضطرين برامجهم الحزبية بند تطبيق الشريعة الإسلامية مع

عدم إيمانهم بها لأن في الدستور المصري مادة تنص على أن دين الدولة الرسمي

هو الإسلام والشريعة الإسلامية هي المصدر (الرئيسي) للتشريع؟ ! .. وما الذي

يضير العلمانيين في هذا المسلك من هذه الفصائل الإسلامية؟ ، أليس الأجدر بهم

أن يعاملوهم كما نعامل نحن (الأصوليين!) من ظهرت عليه علامات النفاق (من

غير أن تصل إلى البينة الشرعية) ، حيث لا نخرجه من دائرة الانتساب إلى

الإسلام إذا لم يتلبس بشرك أو كفر ظاهر؟ ! .

إن هذا الأمر يجرنا إلى مسألة مهمة أغفل العلمانيون طرحها رغم منطقيتها،

وهي: إذا وصل إنسان ما بناءً على حريته في التفكير والاعتقاد إلى قناعة بعدم

الإيمان بالعلمانية التي تروج لها الدولة، وأراد أن يكون مواطناً صالحاً يخدم بلده

بما يعتقد أنه صالح بلده وأهله، فما السبيل له لكي يفعل ذلك إذا سدت أمامه الدولة

طرق التعبير والدعوة، وحجرت عليه أن يمارس حياته بناءً على اعتقاده؟ .. إنه

ليس أمامه إذا لم يكن لديه طاقة على الدعوة إلى الحق والصبر على الأذى إلا:

الانزواء والانسحاب من المجتمع الذي صادر عليه حقه في أن يعيش كما يعتقد

ويدعو إليه، أو ممارسة العنف لفرض آرائه بالقوة على المجتمع الذي قهر إرادته،

أو الدخول في النفاق السياسي والاجتماعي ليوهم نفسه بالاحتفاظ بقناعته ويساير

المجتمع مضطراً ليقيم حياته، أو تغيير قناعته والذوبان والانصهار في ذلك

المجتمع الذي مارس عليه ضغوطه و (إرهابه) لكي يتخلى عن قناعته، ويسير في

ركابه، ويعمل ضمن آليته.

ويبدو أن الفرض الأخير هو ما استقر عليه المشروع المستقبلي، وهذا ما

يشير إليه الأستاذ/ السيد ياسين بقوله: سوف نجد أن أكبر تحدٍّ سيواجه الدولة

والمجتمع معاً هو: كيفية استيعاب حركات الشباب المصري بكافة توجهاته.. وفي

ضوء عجز مؤسسات المجتمع بكافة أنواعها بما فيها الأحزاب السياسية عن أن تقدم

للشباب ما يجعلهم يحققون مكانتهم الاجتماعية، وبالتالي: فإنه يجب علينا أن نبحث

عن وسائل استيعاب الحركة النشيطة والخلاقة للشباب بإدخالهم في وقت مبكر في

دوائر صنع القرار ... فإذا تذكرنا موقف الأستاذ ياسين من (الصراع) بين

العلمانيين ومن (يزعمون) أهليتهم للحديث باسم الإسلام لأدركنا أن (الاستيعاب)

المقصود إذا خوطب شباب الصحوة بهذا الكلام أصلاً ليس المقصود به (الاحتواء)

العملي، بل هو (انصهار) الشباب في الرؤية الفكرية العلمانية ومؤسساتها القائمة،

وهو ما يعبر عنه أيضاً الدكتور الباز بعبارة قد لا يُختلف عليها إلا بتحديد التوجه:

في وقت نحن أشد ما نكون فيه حاجة إلى لم الشمل وتعبئة قوى المجتمع وقدراته

لخدمة الأهداف القومية الكبرى.

وهذا الانصهار والذوبان ليس فقط على مستوى الانخراط العملي للشباب، بل

أيضاً على مستوى القيم التي يحملونها؛ حيث يرى الدكتور حسن حنفي في بحثه

عن (الإحياء الديني) أن (الإسلام المستنير (!) ينبغي أن يلتقي مع الواقع

والتيارات الأخرى، حيث تعيد التيارات السياسية والفكرية صياغة أسسها

ومصادرها، وتبدأ من تراث الناس أنفسهم وبحيث تبدأ الليبرالية من التراث

الإسلامي، ويقوم التيار القومي بتجديد نفسه عن طريق ربط القومية بالإسلام؛ لأنه

أكبر دعامة لهذا التيار، وتقوم الاشتراكية بالارتباط بمفهوم العدالة الاجتماعية في

الإسلام والملكية العامة، وتتخلص من خطابها الماركسي المادي الإلحادي، كما

يتخلص الإسلام المستنير من الإسلام الشكلي الشعائري الذي لا يقدم القضايا

السياسية والاجتماعية وقضايا التحرر في خطابه، ويهتم فقط بالشكل!) .

ويرى الدكتور حنفي أن مفهوم (الإسلام السياسي الحقيقي) (عليه أن يواجه

تحديين:

أولهما: يتمثل في ضرورة انفتاح الإسلام على التعددية وحق الاختلاف،

وعدم جواز تكفير الآخر.

ثانيهما: التخلي عن الشعائرية والشكلية، وخوض ساحة المعارك الوطنية،

مثل قضايا التخلف والتنمية.. إلخ، أما التحدي الخارجي فيتمثل في كيفية تعامل

الإسلام مع نظام عالمي ذي قطب واحد!) .

ويتساءل الأصولي الساذج مثلي: وماذا بقي من الإسلام إذن؟ ! أليست هذه

صورة صارخة لاستخدام الدين خادماً! للتنمية والأيديولوجيات العلمانية؟ ! .

وهل بعد ذلك ذوبان وانصهار؟ نعم.. هناك ذوبان هذا المشروع برمته في

الكونية والعالمية؛ حيث يرى الدكتور الباز أن استراتيجية مصر في التعامل مع

تطورات مفاهيم المجتمع السياسي التي تبشر بتغير كبير في ثقافتنا (تقوم على

مبدأين أساسين:) ... ثانيهما: هو التفاعل المنفتح على التجارب، والثقافات

المرتكزة على فكرة تعايش الحضارات والثقافات والأديان، كما يرى الأستاذ

ياسين أن المجتمع المصري يحتاج لتجديد شامل للثقافة السياسية؛ لأن السلفية

السياسية السائدة سواء كانت إسلامية أو ناصرية أو ماركسية أو حكومية (! !)

ليس لها بالقطع أي مستقبل في القرن القادم، وأخيراً يرى الأستاذ ياسين: (أننا

نحتاج لرؤية استراتيجية للمجتمع المصري، تحقق الانتقال، بطريقة سلمية

وديمقراطية ومتحضرة، إلى عصر الكونية السياسية والاقتصادية والثقافية) .

فالمطلوب ليس انصهاراً داخليّاً (للمتدينين) فقط، بل انصهار وذوبان في

الكونية والعالمية، على حساب القومية والوطنية التي طالما جعلوها بديلاً للهوية

الإسلامية.

فمن الذي يسيطر على هذه الكونية والعالمية ويوجهها؟ وأين هوية الأمة ... و (مشروعها) الذي يقوم على رؤية حضارية خاصة؟ ! .

هل هناك علاقة بين تعايش الحضارات والثقافات والأديان، والانتقال إلى

عصر الكونية، ومواجهة الصحوة الإسلامية؟ ! .. دعوة للتفكّر! ! .


(١) ندوة مصر والقرن الواحد والعشرين، مجلة عالم الكتب ع/٤٧.