مجال العقل البشري
وحاجة البشر إلى الرسالة
د. سليمان العايد
غالت البشرية في نظرتها للعقل، ولاسيما بعد أن فتح الله للعقل مجالات
رحبة في علوم الفضاء والذرة، واكتشفوا سراً من أسرار الكون التي كان يجهلها
وظنت أن بإمكانها أن تستغني عما جاء به الأنبياء، فطرحوا الشرائع السماوية
جانباً، وسنوا لأنفسهم الأنظمة، وشرعوا لحياتهم القوانين، وأحلوا ما اشتهته
أنفسهم، وحرموا ما اشمأزت منه نفوسهم، استناداً على ما تمليه عقولهم القاصرة
وخيالاتهم الممرورة، فحاربوا الدين السماوي بحجة تحرير العقل من قيوده وإفساح
المجال له ليقوم بواجبه، من وضع الأنظمة وسن القوانين، ولم يسبق هؤلاء في
مقالتهم إلا طائفة وثنية في بلاد الهند تدعى البراهمة، وهم من عُبّاد البقر.
والعقل في التصور الإسلامي له وضع يليق به، لا يرتفع ليكون إلهاً، ولا
يمتهن ليكون صاحبه كسائر الحيوانات، إذ من المسلم أن العقل له قدرة في معرفة
ما يصلحه وما يضره، وقدرة في معرفة الحسن من القبيح معرفة فطرية، ولكن
هذه المعرفة وهذا الإدراك من العقل أمامه إشارات تجعله لا يقدر على تسيير الحياة
وحده دون وحي، ومن هذه:
١- معرفة الغيب الذي أخفاه الله عن خلقه على حقيقته، كمعرفة صفات الله،
والملائكة والجن والنار والجنة، وما أعده الله لعباده من الثواب والعقاب، ونحو
ذلك من الأمور التي لا تقع تحت الحس.
٢- إدراكات العقل مجملة لا مفصلة، فقد يدرك أن هذا الفعل حسن مثل
العدل، ويدرك أن هذا الفعل قبيح مثل الجور، وقد يعجز عن تحديد عمل من
الأعمال: هل هو عدل أو جور؟
٣- أن العقول قد لا تقدر على معرفة الحسن من القبح، وخاصة إذا تَضّمْن
الفعل مصلحة ومفسدة، أو كان ظاهره الفساد وباطنه المصلحة.
قال ابن تيمية: «الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته ولم يجيئوا بما
تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول» [مجموع
فتاوى شيخ الإسلام ٢/٣١٢] .
٤- اختلاف العقول الإنسانية ومستوى إدراكها، فقد يستحسن عقل مالا
يستحسنه آخر، ويستقبح عقل مالا يستقبحه آخر، مما يوقعها في متناقض الآراء،
ويحيل هذه الآراء فرضيات لا حقائق مقطوعاً بها.
٥- العوامل التي تؤثر في إدراك العقل البشري تبذر بذور الشك في صحة ما
تنتهي إليه العقول.
دور العقل البشري:
ولنا بعد هذا أن نتساءل عن عمل العقل، وعما يمكن أن يقدمه للبشر؟
إن عمل العقل هو التفكر في مخلوقات الله. واستخراج كنوز الأرض
وخيراتها، بما يتوصل إليه من علوم في الطبيعة، وأما الأمور التي لا تقع تحته
فليس له أن يبحثها، كالأمور التي وراء الطبيعة، كما أن ليس له أن يستعبد العقول
الإنسانية الأخرى، وعليه أن يذعن للوحي ويخضع له، ويجتهد في فهمه وتدبره،
واستنباط ما لم يصرح الوحي به، ويخفى على بعض العقول، مع التواضع لله،
والتسليم لوحيه، وعدم إنكار ما يستوعبه العقل، أو تكذيبه.
وقد آن الأوان لنشرع في تفصيل أوجه حاجة البشرية إلى الرسالة السماوية
فنقول:
لا يمكن إنكار فضل العقل في إدراك الحسن والقبح، ولكن هل يكفي إدراكه
لتحمل تبعة التكليف والمسؤولية، وهل يكفي لاستحقاق الثواب أو العقاب، وهل
يغني العقل عن الرسالات السماوية؟
هذه أسئلة دار حولها جدل قديم يحسن بنا أن نلم بخلاصة وافية عنه، فنقول:
قد ثبت في الصحيح عن عياض ابن حمار، عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا
بقايا من أهل الكتاب» والمقت هو البغض بل هو أشد البغض.
وبجانب هذا المقت نجد أن الله لا يعذب إلا ببعث رسول، قال تعالى: [ومَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] وقال: [ولَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا
رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى] [طه ١٣٤] ،
[ومَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ومَا كُنَّا
مُهْلِكِي القُرَى إلاَّ وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] [القصص ١٥٩] ، وقال قبلها: [ولَوْلا أَن
تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ
ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] [القصص ١٤٧] ، وقال: [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ] .
فالعذاب مرتب في الآيات على بعث الرسل، وقيام الحجة بهذا البعث، وإن
كان مقتضى تعذيب الأمم موجوداً، لأن الله مقتهم، وبين استحقاقهم للعذاب، ولكن
الله سبحانه رؤوف بعباده يحب العذر منهم، ويقبله، لما ورد في الصحيحين عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل، من أجل ذاك أرسل الرسل، وأنزل الكتب» ، وفي رواية: «من أجل ذلك بعث
الرسل مبشرين ومنذرين، وما من أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح
نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن» .
وقد اختلف الناس هل يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها بالعقل أم لا؟ وهل
يرتب على ذلك ثواب وعقاب أم لا؟
ويمكن حصر هذه الأقوال في ثلاثة مذاهب:
أولها: مذهب القائلين بأن ذلك لا يعرف إلا بالشرع وحده دون العقل، وهذا
قول الجهم بن صفوان وإخوانه، وقول أبي الحسن الأشعري واتباعه كالقاضي أبي
بكر بن الطيب، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبى يعلى، وأبى المعالي وأبي
الوفاء بن عقيل، وغيرهم.
وثانيها: أن العقل قد يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها، والذي يخالف ما
يتوصل إليه العقل يستحق عذاب الآخرة بمجرد مخالفته للعقل، وإليه ذهب المعتزلة
والحنفية، وأبو الخطاب محفوظ بن أحمد.
وثالثها: أن العقل قد يعلم حسن الأقوال والأفعال وقبحها، ولا تقوم به الحجة
وحده، ولا يستحق العذاب من خالفه إلا بعد إقامة الحجة عليه بإرسال الرسل -
صلى الله عليهم وسلم-، ويقول هؤلاء: لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسول كما دل
عليه الكتاب والسنة. لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها،
ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه، وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم
رسولاً، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح كما تقدم:
«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وإن
ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم. قلت: إذاً يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة،
قال: إني مبتليك ومبتلٍ بك، ومنزل عليك في كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً
ويقظان، فابعث جنداً أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنفق أُنفق
عليك»
وقال: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما
أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي
رواية: «على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة
بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة -رضي الله
عنه -: (اقرأوا إن شئتم: [فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] قيل: يا رسول ...
الله أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) .
ومع مقت الله لهم، فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولاً،
وهذا يدل على إبطال قول من قال: إنهم لم يكونوا مسيئين، ولا مرتكبين لقبيح،
حتى جاء السمع. وقول من قال: إنهم كانوا معذبين بدون السمع، إما لقيام الحجة
بالعقل كما يقوله من يقوله من القدرية، وإما لمحض المشيئة كما يقوله الجبرية.
والأصول التي جاء بها الأنبياء - ولا سبيل للعقل وحده إلى إدراكها حق
الإدراك- هي:
١- ما جاءوا به من إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أخبار الرسل مع
الأمم وغيرها.
٢- الشرائع المفصلة بالأمر والنهي وبالإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
٣- الثواب والعقاب، ويوم القيامة، وحياة الدار الأخرى.
وليس المقصود أن يميز الإنسان بين ما ينفعه وما يضره بالحس، فإنه واقع
للحيوانات، إذ يستطيع الحمار والجمل التمييز بين التراب والشعير، فيأكل الثاني
ويدع الأول، وإنما المقصود التمييز بين النتائج المترتبة على الفعل في المعاش
والمعاد، وما يحصل بسببها من ثواب وعقاب، وهذا لا يهتدي إليه إلا بالرسالة، (ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن
أعظم نعم الله على عباده وأشرف مننه عليهم: أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم
كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل
أشر حالاً منها) .
وخلق الله البشرية ودينها دين الفطرة، دين التوحيد، الدين الذي ارتضاه الله
لها، [ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] ، [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] ، وقال: [وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ
أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ] [الأعراف١٧٢-١٧٣] ، وقال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ
المُشْرِكِينَ * مِنَ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]
[الروم ٣٠-٣٢] .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله: «إني خلقت عبادي
فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم» .
فكانت البشرية أول أمرها مؤمنة بربها، موحدة له، ثم طرأ الشرك عليها،
فأرسل الله الرسل يعيدونهم إلى الفطرة، ويردونهم إلى جادة الصواب، ويذودونهم
عن حياض الشرك، قال تعالى: [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] .
وكانت الرسل تقوم بالبشارة والنذارة، وتقيم الحجة على الخلق، وتبين لهم
منهج الله وشرعته، ذلك أن الله خلق البشر وطلب عبادتهم له، وشرع لهم ديناً
أبلغه إليهم بواسطة رسله من الملائكة والناس، [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً
وَمِنَ النَّاسِ] ، واختارهم من أفضل البشر، [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ،
وطلب منهم دعوة الناس إلى دين الله، ولم يدع البشر لأنفسهم يضعون المناهج،
ويشرعون الشرائع، ويقررون المعتقدات، ويفسرون العوالم، لأن هذا من التكليف
بما لا يطاق، [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] ، [لا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إلاَّ وسْعَهَا] ،
ودعا المؤمنون ربهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم، [رَبَّنَا ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا ... بِهِ] فقال الله: (قد فعلتُ) .
وأنَّى للإنسان أن يضع لنفسه تصورات صحيحة عن الله وما يجب له، وعن
الكون، والملائكة والجن والحياة الآخرة.. ولو ترك البشر وشأنهم يجتهدون في
وضع هذه التصورات لسمعنا بالمضحكات، وقد سمعنا بعض تصورات الفلاسفة
الساذجة التي تدل على ضحالة في الفكر، وقلة في الإدراك، وكيف لعقل لم يؤت
من العلم إلا قليلاً كيف له أن يحيط بكل شيء علماً؟ ، وكيف لعقل قد خلق لأمر أن
يبدع في مجال ليس له؟ .
ومن ناحية الشرائع: لو وكَّل البشر إلى أنفسهم يضعون المناهج، ويشرعون
الشرائع، ويسنون القوانين والأنظمة، فإن عملهم هذا لا يمكن أن يسلم من الهوى
البشري، والضعف الإنساني، وقصور العلم والإدراك، علاوة على ما يقوم عليه
من الشرك، وتعدد الآلهة، وخضوع الإنسان لأخيه الإنسان، وتشريع بعض البشر
لبعض، وما يقوم عليه من تصورات قاصرة عن الإنسان ذاته، وعما حوله من
عوالم، وما يكتنفه من أسرار، وما يلحقه من حياة، قد لا تراعى في وضع مثل
هذه الأنظمة والشرائع والتصورات.
لهذه الأسباب جميعاً وجب على البشر اتباع منهج يضعه رب العالمين يتعبدهم
به، ويحققون بلزومه رضاه، وينجون من عذابه ومقته، ويفوزون بجناته الوارفة، مع ما يتحقق لهم في الحياة الدنيا من عودة بهم إلى دين الفطرة التي فطر الله
الناس عليها، دين الإسلام، إسلام الوجه لله وإفراده بالألوهية، وتحقيق العبادة له
دون سواه وبذلك يتحدد اتجاه الإنسان، ويسلك طريقه الذي أريد له، فالإنسان حين
يخضع لغير الله، ويتعبد بغير دينه ومنهج غير منهجه إنما يمزق نفسه بهذا العمل،
قال تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ] [الزمر ٢٩] .
فالإنسان حين يبعد عن الله يمزق نفسه التي تخضع لله في جوانب كثيرة ليس
للإنسان فيها أدنى تحكم، إذ لا يستطيع أن يحدد أجله وحياته، وأبويه وجيله،
وصورته الخلقية، ومواهبه الفردية، ولا يستطيع أن يتحكم بالدورة الدموية وسائر
وظائف الأعضاء.
ويلقى الأمرين حين يخرج عن فطرته، ويقهر نفسه على أشياء ليست مجبولة
عليها، فيعيش حياته باضطراب وقلق، قال تعالى: [وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ
مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ] .
وقال تعالى: [كَذَّبَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ *
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]
[الزمر: ٢٥، ٢٦] .
فتتصارع الدوافع والجواذب داخل النفس البشرية، تحاول أن توفق بين
الفطرة والنزعات الطارئة، وتحاول أن توفق بين الرغبات المختلفة، رغبات
الآلهة والأهواء والنفس، [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ
القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ] [يوسف٣٩، ٤٠] .
ويعيش الإنسان نتيجة هذا الصراع في اضطراب وقلق، ولا تكاد قدمه تثبت
معه على حال، ولا يكاد بصره يستقر على نظر، ولا تطمئن نفسه إلى قرار، ولا
تسكن روحه إلى شيء، ولا يرفع هذا كله إلا العودة إلى منهج الله ليصلح هذه
النفس، ويربيها على أقوم منهج [أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي
سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [الملك: ٢٢] .
[فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى * ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وقَدْ كُنتُ
بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ
أَسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وأَبْقَى] [طه ١٢٣-١٢٧] .