للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مذكرات قارئ

[شكوى من الذاكرة]

بقلم: محمد بن حامد الأحمري

كلنا في الهم شرق، كلمة يقولها لك زميلك عندما تشتكي إليه من ضعف

الذاكرة، وتبدد المعلومات، وتفلت القرآن والحديث، ونسيان أسماء الأصدقاء،

وضياع المواعيد، وأمور العامة إذا نسوا تهون، ولكن مصيبة المثقفين بذاكراتهم

كبيرة، وكنت أظن أن لا سبيل لي إلى العلم والمعرفة لضعف في الذاكرة، وكنت

أحسب نفسي ولم أزل منهم، وأقول عليك بمغادرة قاعة المعرفة والقراءة، فهذه

لقوم ليسوا مثلك، إنها لأولئك الذين يحفظون فلا ينسون، وتعرض عليهم الأمور

فلا تغادر أذهانهم، ثم كانت لي جولات في ميدان القراءة فوجدت علماء نجباء

تفوت عليهم الاستدلالات في كتب مكتوبة ومواقف مشهودة، ينسون ما لا أعذرهم

آنذاك بنسيانه ثم قرأت في تراجم الرجال ما شجع الضعف وهزه للعمل وعدم اليأس، فذاك الفذ الكبير لم يحفظ القرآن، وذاك العالم النحرير ضعيف في حفظه،

وطعنوا في أبي حنيفة فتألمت له وفرحت لنفسي، ومع السنين كانت الذاكرة تضعف

وشواهد الخلل تتزايد، حتى لكأنه الشخص يفرح بها أيما فرح، يقول زكي نجيب

محمود [*] في (الكوميديا الأرضية) : ( ... ما أشقاني بهذه الذاكرة الضعيفة العاجزة

التي توشك أن تبدد لي كل ما قد وعيت وخبرت في أعوامي السوالف، فلا تبقي لي

من ذلك شيئاً، وإني لأعلم من ذاكرتي هذا الضعف الشديد، وهذا الإسراف في

تبديد الودائع، حتى لتراني أتحوط لها بكل ما يشير به علماء النفس من وسائل،

فأشدد الروابط بين أجزاء الشيء المحفوظ، وأضع تحته الخطوط، وأوضحه في

هوامش الكتب برموز وعلامات وملخصات، لكن هيهات للغربال أن يحفظ في

جوفه ماء، تراني أقرأ الكتاب، فلا تمضي أيام قليلة بعد الفراغ منه حتى يذهب

عني، وتذهب كل آثاره، فلا عنوانه هناك ولا اسم كاتبه، ولاشيء من مكنونه،

فالرأس بعده خلاء خواء كما كان قبله، فلا زيادة به إن لم يكن نقصان) [١] .

وبعد أن أطال في الشكوى تذكر القصة التي قرأها كما يقول، قبل ثلاثين

عاماً، فإذا به يذكرها ويكتب تفصيلاتها، وعجبت لجوره على ذاكرته مع أنها

كانت له وفية رغم تباعد السنين.

وقد قرأت من قبل لعدد من العلماء والمشاهير وكبار الفلاسفة شكواهم المرة

من ذاكراتهم.

وحصيلة هذه التجارب: أن الحفظ نسبي، وكلّ يشعر بمقدار نقصه كلما زاد

سهمه من القدرة على الحفظ والتذكر، أما الكثير ممن يعانون ضعفاً أكبر فإنهم غالباً

لا يشعرون بالمشكلة التي يعانونها، وعلى النقيض أولئك الذين يقنعون أنفسهم

بضعف القدرة على الحفظ، ويدمرون قدراتهم بإشعار أنفسهم أن لا مجال لتطوير

القدرة على الحفظ، فهؤلاء ربما كان لهم نصيب من القدرة لو قدروا وحافظوا

ودربوا ذاكراتهم.

ومما أزيدك هنا بيانه أن مما علق بذاكرة كاتب هذه السطور من وسائل التذكر، وهي كثيرة:

أن تكرر النص المطلوب حفظه وترجع له مرات في غير وقت الحفظ الأول، وأن تجعل للنص رايات شاهرات ككلمة غريبة تضع عليها علامة وتبرز تلك

القضية أو اسم شخض أو مكان، وهذه العلامات تدلك على مسالك النص. ويذكّر

المهتمون بهذا العلم إن كان به علماً أن تتصور النص أو القائل أو الأشخاص وتجسم

هذه المعلومات، ثم يربط بينها بشيء، كما يقولون لو كنت تريد شراء عدة

أغراض مثلاً: بصل، طماطم، سكر، حليب فما عليك إلا أن تتصور ابنك في

فمه رضاعة، وبيده اليمنى طماطم، واليسرى بصل، وقد نثر كيس السكر،

تركب هذه الصورة في الذاكرة ثم تذهب، ولا أظن أنك لو تعودت هذه الطريقة أنك

سوف تنسى.

وينصحون أيضاً باستخدام النص المراد حفظه سواء أكانت كلمة في لغة جديدة

تتعلمها، أو حديث مهم تحب حفظه؛ فالاستخدام للنص يعين على الحفظ.

وبعد سياق كل هذه الإرشادات والنصائح تذكر أن كاتب هذه الأسطر لولا أنه

يعاني من سوء الحفظ ومشكلة الذاكرة لما كتب هذا.


(*) ما نقله الكاتب عن د زكي نجيب محمود مما تشترك فيه القرائح، ولا يحمل شيئاً من أطروحات الدكتور الفلسفية والعلمانية، وقد سبق للمجلة أن تناولت أفكار الدكتور المذكور بالنقد، انظر: العددين (٦٩) ، (٧٠) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.
(١) الكوميديا الأرضية ص ٨٧.