المسلمون والعالم
النفط يشعل الحرب
فماذا يطفئ ظمأ أمريكا؟ [*]
خالد أبو الفتوح
[email protected]
يبدو أن وزير الحرب الأمريكي دونالد رامسفيلد أحسَّ بوجاهة السؤال الذي
يدور في أذهان كثيرين أثناء الحرب عن مدى أخلاقية الحرب على العراق، فأعلن
على الملأ صبيحة يوم ١٢ مارس / آذار أهداف حرب الحليفين (أمريكا وبريطانيا)
وحواشيهما على العراق، وحددها في النقاط التالية:
١ - إسقاط نظام صدام حسين.
٢ - تحديد وعزل وأخيراً إزالة أسلحة الدمار الشامل.
٣ - البحث وإلقاء القبض وطرد الإرهابيين الذين وجدوا ملاذاً في العراق.
٤ - جمع المعلومات حول الشبكات الإرهابية في العراق وخارج العراق.
٥ - جمع المعلومات حول الشبكات الإرهابية لتجارة أسلحة الدمار الشامل.
٦ - إنهاء العقوبات المفروضة على العراق، وتسليم مساعدات إنسانية على
الفور من الأغذية والأدوية إلى النازحين وإلى العراقيين المحتاجين.
٧ - ضمان أمن حقول النفط والموارد الخاصة بالشعب العراقي.
٨ - مساعدة الشعب العراقي، في إيجاد الشروط من أجل تأمين انتقال سريع
نحو تشكيل حكومة تمثله لا تشكل تهديداً لجيرانه، وتكون مصممة على ضمان
وحدة أراضي هذا البلد.
ولأننا ما زلنا نتذكر أن البنتاجون الذي على رأسه الوزير رامسفيلد كان
صاحب فكرة (مكتب التضليل الإعلامي) التي فُضحت في بداية الحرب على
أفغانستان؛ فإن عقولنا تجد حرجاً بالغاً في تصديق هذه الأهداف المذكورة والتسليم
بعلاتها.. ومن ثم: يمكننا الاجتهاد بفك شفرة هذه الأهداف وإيضاحها في النقاط
التالية:
أولاً: الضغط على الأنظمة في المنطقة للاستجابة الكاملة والصريحة للمطالب
والمصالح الأمريكية في المنطقة، مع التهديد بتغيير الأنظمة التي لا تستجيب لذلك،
وتنفيذ ذلك إن استدعى الأمر، مع ترك جميع الاحتمالات مفتوحة لتغيير الخريطة
السياسية والجغرافية، وإنشاء محاور تحالفية تتناسب مع هذه المصالح، والتلويح
بما حدث لنظام صدام عبرة لمن لا يستجيب.
ثانياً: تقديم المنظومة الأمريكية (النسخة المعدلة لدول المنطقة) في السياسة
والاقتصاد والاجتماع نموذجاً ينبغي تبنِّيه من الحكومات والشعوب بالضغوط والقهر
الأمريكي، ويتمثل هذا النموذج في: ديمقراطية (زائفة) تصل بعملاء أمريكا
الصريحين إلى سدة الحكم والتوجيه، واقتصاد (حر) أكثر ارتباطاً بالفلك
الاقتصادي الأمريكي، وقيم اجتماعية (متحررة) من قيود القيم (المحلية) .
ثالثاً: إنعاش الاقتصاد الأمريكي بمعظم قطاعاته، والسيطرة على الثروة
النفطية، سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة؛ مما يجعل المبادرة بيد أمريكا عالميّاً.
رابعاً: خلع أنياب النظم غير المنضوية في (النادي الأمريكي) التي ربما
تفكر في تهديد أمن (إسرائيل) ، بما يضمن تأمين المجال الحيوي لإسرائيل
ويضمن استمرار تفوقها وهيمنتها على دول المنطقة، ويقطع الطريق على احتمالية
انتقال هذه الأنياب إلى قوى أخرى يصعب التفاهم معها وترويضها كالحركات
الإسلامية.
خامساً: دخول أمريكا طرفاً مباشراً في مواجهة الحركات الإسلامية الجهادية
والسياسية في المنطقة، وقطع الطريق على هذه الحركات إذا نشطت وأرادت
تكوين قواعد وأجيال جديدة تتبنى مفاهيمها وتعمل حركيّاً تحت عباءتها، مع إعطاء
قدر من المرونة للحركات التي تبدي نوعاً من الليونة بما يمنع انفجاراً داخليّاً،
ويعطي أمريكا وأدواتها بريقاً إعلاميّاً في عدم استهدافها الإسلام لذاته.
وهناك هدفان آخران ليس من الكياسة تصريح المسؤولين الأمريكيين بهما،
ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع أي متابع تجاهلهما، ويتمثلان في:
سادساً: استعادة الهيبة الأمريكية المفقودة منذ أحداث سبتمبر؛ باعتبار أن
أمريكا القوة العظمى الأولى في العالم التي تستطيع فعل ما تريد بدون حاجة إلى
أطراف أخرى، وخاصة أن حرب أفغانستان لم تنجح في إعطاء هذه الصورة
لشعوب العالم.
سابعاً: وهو أمر أصبح حديث القاصي والداني والصديق والعدو؛ حتى إنه
يكاد لا يخفى على أي مراقب لاتجاهات وميول الإدارة الأمريكية الحالية، ألا وهو:
تحقيق النبوءات التوراتية التي يؤمن بها التيار الأصولي المسيحي وتلتقي مع
أهداف الصهاينة المتطرفين، والتي تتمثل في إقامة (إسرائيل الكبرى) التي
يتجمع فيها يهود العالم، وبناء الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وخوض
معركة هرمجدون مع (قوى الشر) ؛ توطئة لنزول المسيح - عليه السلام -
وإيمان اليهود به ربّاً حسب عقيدتهم.
هذه الأهداف بهذه الصورة وهذه المباشرة لم يُمْلها سوء ظننا بأمريكا النابع من
تجاربنا المريرة معها ولا عداؤنا لها، ولكن ذلك ما نطقت به ألسنتهم أو بعضهم
على الأقل، وما سطرته وثائقهم، وما أوضحته شواهد أفعالهم، وإذا كان ضيق
المقام لا يسمح لنا باستعراض ذلك كله للتدليل على جميع الأهداف المذكورة؛
فسأكتفي في هذا المقال بالاهتمام بنقطة واحدة وإيضاحها، ألا وهي:
* الاقتصاد والهيمنة على سوق النفط:
** اقتصاد متداع:
«أسوأ تباطؤ عالمي خلال ربع قرن» .. «تباطؤ حاد لم نشهده منذ
الثمانينيات» .. «الكساد الكبير السابع في السنوات الـ ١٢٠ الأخيرة» .. هذه
كانت عناوين بعض التعليقات على أزمة الاقتصاد العالمي التي ظهرت في جريدة
«الفاينانشال تايمز» البريطانية خلال الفترة الماضية، وهي تعد نموذجاً لافتتاحيات
الصحف والمجلات الاقتصادية الكبرى في العالم خلال الشهور الماضية التي شغلها
التحدث عن أزمة الاقتصاد العالمي، وفي القلب منه الاقتصاد الأمريكي.
لا ينكر عاقل قوة الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والتقنية،
والمتأمل يرى أن بين هذه العناصر علاقة تعضيدية واضحة، كما أنها جميعاً ترتكز
على عنصر المال وسلامة الاقتصاد، فالاقتصاد يدعم البحوث التكنولوجية والقوات
العسكرية، وإذا حدث أن اهتز الاقتصاد الأمريكي أو انهار؛ فمن الممكن أن تنهار
الولايات المتحدة وتتفكك وتضمحل كما حدث للاتحاد السوفييتي.
ولا ينكر أحد الهزة التي أحدثتها أحداث ١١ سبتمبر لهذا الاقتصاد، وما
كشفته موجة الانهيارات التي أحدثتها الفضائح المالية للشركات الأمريكية التي قادت
الازدهار في العقد الماضي، وبدأت بـ «إنرون» للطاقة، وتبعتها شركات
أخرى مثل «ورلد كوم» للاتصالات، و «زيروكس» ، ثم شركة «جلوبال
كروسيتنج» للاتصالات والإنترنت، ثم إعلان إفلاس شركتي الطيران العملاقتين
«يونايتد إيرلاينز» و «يو إس إيرويز» ، إضافة إلى انهيار عدد آخر من
الشركات الأصغر.. وقد بلغت الخسائر المقدرة لخمس شركات كبرى فقط من
الشركات التي أعلنت إفلاسها ٤٦٠ مليار دولار.. وهذا ما حطم صورة (الشفافية)
في الاقتصاد الرأسمالي، وهز الثقة في (الأمن الاستثماري) الذي كانت تتغنى
به المنظومة الرأسمالية الغربية.
فهناك أزمة في الاقتصاد الأمريكي لها أسباب عديدة ويشهد عليها أكثر من
شاهد؛ منها: الانهيارات المذكورة سابقاً، ومنها: التردي المستمر في مؤشرات
البورصة الأمريكية؛ والركود المتواصل بسبب عدم وجود رأسمال استثماري؛
وارتفاع نسبة البطالة، وعلى صعيد المنافسة العالمية: تزايد الدين الخارجي
الأمريكي بصورة هائلة، وارتفع عجز الميزان التجاري، أما العجز المالي فقد
تجاوز ١٠٦ مليار دولار، كما أن أمريكا تعاني من تراجع متواصل وتاريخي في
حصتها من إجمالي الناتج العالمي..
فلا يخفى على أحد أن الاقتصاد الأمريكي في حالته الراهنة مضطرب ويشكو
من التباطؤ والانكماش، وكما يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار: «.. قد
بلغ معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأخير من عام
٢٠٠٢م نحو ٠.٧% فقط، وبلغ معدل البطالة نحو ٥.٧% في يناير الماضي، في
حين بلغ العجز في ميزان الحساب الجاري الأمريكي نحو ٤٦٢.٢ مليار دولار في
العام المالي الأمريكي المنتهي في أكتوبر الماضي، وعاد العجز في الموازنة العامة
للدولة بقوة بحيث بلغ نحو ٣.١% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي عام ٢٠٠٢م،
بعد أن كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون قد نجحت في إنهاء
ذلك العجز وحققت فائضاً قياسياً تجاوز ١٧١ مليار دولار عام ٢٠٠٠م.
أما أسعار الأسهم الأمريكية المدرجة في مؤشرات داو جونز، وستاندارد أند
بورز، وناسداك على التوالي؛ فإنها تقل في الوقت الراهن بنسبة ٢٣%، ٢٩%،
٣٤% عن مستوياتها في نهاية عام ٢٠٠١م بسبب الخسائر التي مُنيت بها
الشركات بعد أحداث ١١ سبتمبر ومجمل التداعيات اللاحقة لها، وأيضاً بسبب
انفجار فضائح الفساد في الشركات الأمريكية الكبرى التي هزت الثقة في واحدة من
أهم آليات عمل النظام الرأسمالي في صيغته الراهنة القائمة على قيام المديرين
التنفيذيين بإدارة الشركات لحساب حملة الأسهم تحت رقابة شركات المحاسبة التي
تراقبهم لمصلحة حملة الأسهم، حيث فسد المديرون التنفيذيون وتواطأت معهم بعض
شركات المحاسبة العملاقة ... كما تدهورت أسعار الأسهم على نحو درامي
وانخفضت بنسبة ٦.٢٧% عن أعلى نقطة بلغتها عام ٢٠٠٢م، وهو تدهور يفوق
ما حدث للأسهم الأمريكية من انخفاض بعد أحداث ١١ سبتمبر عندما بلغت نسبة
انخفاض أسعار الأسهم الأمريكية في أدنى مستوى لها خلال عام ٢٠٠١م بعد تلك
الأحداث عن مستوى الأسعار قبلها نحو ١٧.٩% فقط، وتشير بيانات مؤسسة
الاستثمار الأمريكية إلى أن ٨٠ مليون أمريكي تضرروا من فضائح فساد بعض
الشركات وانهيار أسهمها، كما قدرت مورجان ستانلي الخسائر التي لحقت بصغار
المستثمرين من التحايل الذي قامت به خمس شركات أمريكية عملاقة بنحو ٤٦٠
مليار دولار، هذا غير الخسائر التي لحقت بهم وبغيرهم من جراء الاضطراب
الذي أصاب البورصة الأمريكية إجمالاً بسبب فضائح الفساد.
ولا يقلل من هذه الصورة ما شهدته أمريكا من الانتعاش الاقتصادي الاستثنائي
أثناء فترة ولاية الرئيس السابق كلينتون، يقول مجدي صبحي الخبير الاقتصادي
المصري:» إن موجة الانتعاش الطويلة التي مر بها الاقتصاد الأمريكي خلال
التسعينيات وحتى عام ٢٠٠٠م؛ قد أدت باستمرار إلى تعزيز الاتجاهات التفاؤلية،
وهو ما عزز من الصعود شبه المستمر لقيمة الأسهم، وكان البعض قد أشار إلى أن
ما تشهده البورصة هو نوع من اقتصاد الفقاعة، حيث تزيد قيمة الأسهم كثيراً عما
هو ممكن وفقاً لمستوى الأرباح، لكن في ظل حالة الرواج غالباً ما لا يُلتفت إلى
مثل هذه التحذيرات، حتى يتجه الاقتصاد نحو الركود أو الانكماش، عندها تنكشف
الممارسات الخاطئة التي تمت خلال فترة الازدهار «.
وفي رأي الجمهوريين؛ فإن هذا الانتعاش كان نتيجة لسعي كلينتون للمقامرة
وراء موارد جديدة، وأنه لم يخض مواجهات استراتيجية مدروسة بقدر خوضه في
ميادين تفتح له موارد اقتصادية جديدة، وهذه الموارد وإن كانت تصب في مصلحة
الاقتصاد الأمريكي لكنها غير مدروسة وجالبة لأزمات مستقبلية شديدة الخطورة،
وهذا الموقف يؤكد عدم موافقة الجمهوريين على سياسة كلينتون ورغبتهم بالانقلاب
عليها، وهو ما حدث بالفعل بعد وصولهم إلى السلطة.
وهناك توقعات بأداء سيئ للاقتصاد الأمريكي في الأعوام المقبلة، فالنمو
الأمريكي أصبح على حافة الهاوية؛ إذ توقع تقرير لمجلة» الإيكونومست «
البريطانية في شهر يوليو ٢٠٠٢م انخفاض إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى
٢.٥% فقط في الفترة من يوليو إلى ديسمبر ٢٠٠٢م بدلاً من نسبة ٣.٥%
المتوقعة سابقاً، كما يتوقع مراقبون اقتصاديون انخفاض الاستثمارات الأجنبية
المباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن هذه
التوقعات تأتي استناداً للانخفاض الحاد للاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام
٢٠٠١م لتصل إلى ١٢٤ مليار دولار بعد أن كانت قد بلغت ٣٠١ مليار دولار
في عام ٢٠٠٠م.
إذن: ما الحل في رأي هؤلاء الجمهوريين؟ يشير محمد أحمد النابلسي في
مقاله (الاقتصاد الأمريكي يضع العالم على حافة الهاوية) المنشور في» الكفاح
العربي «بتاريخ ٢٨/٣/٢٠٠١م إلى ذلك بقوله: فإذا ما حاولنا قراءة موقف الإدارة
الأمريكية الجديدة على ضوء معطيات وانتقادات المضارب جورج شوروش في
كتابه» أزمة الرأسمالية العالمية «؛ فإن هذه المحاولة تقتضي الاستنارة بمواقف
بوش الأب (الذي لا يزال مؤثراً هو وفريقه بقوة) ، وبالمواقف الجمهورية عموماً،
وهنا نقع على تناقضات عميقة في فهم كل من جمهوريي أمريكا وديمقراطييها
للنظام العالمي الجديد؛ فالجمهوريون يسعون لإرساء توازن واستقرار اقتصادي عبر
تدعيم القدرات الأمريكية؛ إذ يقلصون النفقات بدلاً من البحث عن موارد جديدة
للإنفاق، ويسعون لتأمين مصالح أمريكا بتحالفات مدروسة بدلاً من المغامرات
المحدودة، ويعملون على تدعيم قوة التأثير الأمريكي على مختلف الصعد بدلاً من
إجبار الأصدقاء على تقديم الخدمات، وبذلك فهم يسعون للحصول على حاجاتهم
بالقوة وليس بالطلب.
على هذا الأساس نستطيع قراءة ملاحظات شوروش وترجمتها في سياسة
الإدارة الأمريكية المقبلة على النحو الآتي:
- تطوير القدرات التكنولوجية العسكرية الأمريكية لتكريس زعامة الولايات
المتحدة للنظام العالمي الجديد، بعيداً عن أي مخاوف من أي مصدر أتت.
- يبقى النفط السلعة السياسية - الاستراتيجية الأهم في المستقبل المنظور،
وعلى الإدارة الجديدة تثبيت هيمنتها وسيطرتها على هذه السلعة وعلى أسعارها؛
لأن هذه السيطرة تشكل صمام الأمان الأكيد للاقتصاد الأمريكي؛ لذا: فهي تستأهل
الجهود وتغيير بعض أساسيات السياسة الأمريكية بعيداً عن الأيديولوجيا والأصولية.
** حرب الإنقاذ:
أثناء التحضير لحرب الخليج الثانية في ١٩٩١م كتب توماس فريدمان،
الصحفي المقرب من وزارة الخارجية الأمريكية، قائلاً: اليد الخفية للسوق لا
تستطيع العمل بدون القبضة الخفية.. فماكدونالدز - على سبيل المثال - لا
يستطيع الازدهار بدون مكدونيل دوجلاس (شركة أسلحة أمريكية عملاقة) .
فالجيش الأمريكي هو القبضة الحديدية التي تؤمن العالم للشركات الأمريكية
الكبرى، ومن ثم: نستطيع القول إن حرباً ما كان لا بد منها لإنقاذ الاقتصاد
الأمريكي الآخذ في التدهور كما أسلفنا.. ولكن هل الحرب على العراق هي أفضل
ما يساعد في إنقاذ حالة الاقتصاد من التردي؟
يرى منظرو الحرب على العراق بأن الحروب من الناحية التاريخية خاصة
القصيرة ومحسوبة النتائج كانت تحفيزية، كما أنها أدت إلى التوسّعات الاقتصادية،
إضافة إلى أن التأثيرات الاقتصادية للحروب ليست غامضة، وهناك كثير من
الإشارات التاريخية التي يمكن الاستفادة منها في معرفة هذه المؤشرات؛ ففي
الحرب العالمية الثانية جاءت الانعكاسات الاقتصادية مختلفة كثيراً بين البلاد التي
خرجت منتصرة وتلك التي خرجت منهزمة لصالح الأولى، حيث ساعدت هذه
الحرب على إنهاء حالة الانكفاء التي كانت سائدة وسمحت للولايات المتّحدة
بالخروج من الحرب كمحرّك اقتصادي عالمي، وبعد تجاوز بعض المشكلات كانت
النتيجة التوسّع الهائل في الخمسينيات.
ورغم أن الدخول في الحرب ضد العراق يستلزم نشر قوة لحفظ (السلام)
والأمن في الأراضي العراقية يتراوح قوامها بين ٧٥ - ٢٠٠ ألف جندي، وهذا
من شأنه أن يكلف ما بين ١٥- ٤٠ مليار دولار سنوياً، وإذا أخذنا في الحسبان أن
تقريراً نشره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بالولايات المتحدة يشير إلى أن
تكلفة إعادة إعمار العراق بعد الحرب قد تصل إلى ٤ أضعاف تكلفة العمليات
العسكرية بحيث تصل إلى ٢٠٠ مليار دولار، في حين أن احتلالاً لمدة ٥ أعوام قد
يكلف الولايات المتحدة حوالي ١٢٥ مليار دولار ... فقد تبدو تكلفة هذه المغامرة
لأول وهلة كبيرة؛ حيث من الممكن أن تؤدي على المدى البعيد إلى إضافة مئات
المليارات من الدولارات إلى العجز المالي الفيدرالي الذي يمكن القول إنه خرج عن
السيطرة، إلا أن كل ذلك لا يقاس بالنسبة للمكاسب المنتظرة من الحرب وما بعدها.
كما أن تكاليف هذه الحرب على العراق رغم تحمل أمريكا معظم نفقاتها
بخلاف حرب ١٩٩٢م يمكن تعويضها من عائدات العراق النفطية، فقد كشفت
صحيفة» نيوز داي «الأمريكية الجمعة ١٠/١/٢٠٠٣م أن مسؤولين أميركيين
قدموا اقتراحات للإدارة الأمريكية تدعو لاستخدام عائدات النفط العراقي في تغطية
تكاليف الحرب الأمريكية الوشيكة ضد العراق. ونقلت الصحيفة عن» مايك أنتون «
المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي قوله:» إن البيت
الأبيض وافق على أن تلعب عائدات البترول العراقي دوراً مهماً خلال فترة الوجود
العسكري الأمريكي في العراق «ولكن فقط من أجل مصلحة العراقيين» على حد
قوله، وأوضح أن «عائدات البترول العراقية سيتم استخدامها في حالة الحرب
والتواجد العسكري الأمريكي في العراق، ولكن لن يتم استخدام العائدات كلها في
هذا الشأن» .
وليس من المستبعد أن تلجأ أمريكا وبريطانيا إلى المبالغة في تقدير تكاليف
غزوهما من أجل تحميل العراق تكاليف وهمية لنهب المزيد من ثرواته؛ فمن يلجأ
للعدوان على شعب لا يُستبعد أن يفعل أي شيء.
وعليه: لا تبدو مسألة تمويل الحرب مشكلة، كما أن التكاليف المقدرة للحرب
تتراوح بين ١ - ٢% من إجمالي الاقتصاد القومي الأمريكي البالغ قيمته
١٠ تريليونات دولار، ومثل هذه النسبة لا تبدو مشكلة لدى الإدارة الأمريكية الحالية
بعد أن بلغت تكلفة الحرب الأمريكية في فيتنام ١٢% من الاقتصاد الأمريكي،
وفي الحرب العالمية الثانية ١٥%، وإذا قيست تكلفة الحرب بالموازنة الاتحادية
الحالية البالغة قرابة تريليوني دولار؛ فإن نسبة تكلفتها تتراوح بين ٥ - ١٠%..
أي إنها مغامرة (أو مقامرة) محسوبة، فإذا أضفنا إلى ذلك المكاسب التي يمكن أن
يجنيها الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب؛ فإن العوائد المنتظرة - في مجالات عديدة -
يسيل لهل لعاب أي قرصان دولي! :
* فإذا أخذنا مثلاً قطاع صناعات السلاح؛ فإن حرباً كهذه تعني تشغيل
مصانع السلاح الأمريكية لسنين عديدة، يتم فيها تعويض الجيش الأمريكي عما
استهلكه في الحرب للمحافظة على مخزونه الاستراتيجي من الأسلحة والذخائر، كما
يتم فيها تأسيس الجيش العراقي من جديد وفق عقيدة قتالية جديدة تختلف عن العقيدة
السابقة التي اعتمدت على التسليح الروسي في معظمه، وذلك بالطبع بعد دخول
العراق في النادي الأمريكي، وتشكيل حكومة تدين لأمريكا بالولاء الصريح
والامتنان التام، وأيضاً لا يستبعد طلب بعض الدول تحديث ترسانتها التسليحية بعد
العرض الاستعراضي الذي أداه الجيش الأمريكي في العراق.
وقد ذكرت الأنباء بالفعل أن شركتين من كبريات شركات الأسلحة والأنظمة
الدفاعية الأمريكية، وهما «لوكهيد مارتين» و «رايثيون» ؛ أقرتا أن الوضع
الأمني في العالم في الوقت الراهن أدى إلى انتعاش مبيعاتهما في الربع الأول من
هذا العام، حيث حققت شركة «لوكهيد مارتين» قفزة في مبيعاتها - خاصة
مبيعات الطائرات - بنسبة ٥٧%، وتمكنت الشركة التي تقوم بتصنيع طائرات إف
١٦ وإف ٣٥ من أن تحقق ربحاً في الربع الأول من هذا العام بلغ ٢٥٠ مليون
دولار، وبلغ إجمالي قيمة العقود الجديدة التي وقعتها في الربع الأول من هذا العام
فقط مبلغ ١١.٣ مليار دولار؛ الأمر الذي يرفع إجمالي العقود مع الشركة إلى
٧٤.٦ مليار دولار، أما شركة «رايثيون» التي تتركز أنشطتها على تكنولوجيا
الصواريخ، فقد ارتفعت مبيعاتها بنسبة ١٢%، وكانت الشركة قد عانت في العام
السابق من بعض الصعاب. (موقع BBC ٢٣/٤/٢٠٠٣م) .
* وفي مجال آخر نتحدث ببعض تفصيل عن نشاط سوف ينتعش الاقتصاد
الأمريكي فيه بسبب الحرب على العراق، ألا وهو مجال إعادة الإعمار، فقد
وردت تقارير من العراق - ولا أظن أن الأمر في حاجة إلى تقارير - أوضحت أن
الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق أدت إلى تدمير البنية
الأساسية، ومن ثم فستطال عمليات إعادة الإعمار مرافق مختلف المؤسسات النفطية
والخدمية الحكومية؛ كالصحية والتعليمية والطرق والكهرباء والماء وقطاعات
الاتصالات وغيرها.
وإعادة بناء العراق لن يكون لما قبل هذه الحرب فقط، بل سيكون لاستدراك
ما فاته وإصلاح ما لحق به من خراب كلي أو جزئي بعد ٢٢ سنة من الحروب
والعقوبات، فضلاً عن الخسائر التي وقعت في الحرب الضروس الحالية، وهي
مهمّة (هائلة) تستحق المغامرة؛ حيث تقدر تكلفة إعادة البنية التحتية المطلوبة بما
يزيد على ١٠٠ بليون دولار؛ منها ما هو مطلوب بصورة عاجلة لتفادي أزمة
إنسانية كبرى، كإصلاح الضروري من شبكات الطاقة الكهربائية وأنظمة المياه،
وفيما بعد هناك آلاف الكيلو مترات من الطرق التي سوف يعاد إنشاؤها أو إصلاحها،
وعشرات الجسور، ومئات الكيلو مترات من قنوات الري التي يجب إعادة بنائها
أو يتم إصلاحها، وذلك فضلاً عن آلاف المدارس والمستشفيات والعمارات السكنية
والأبراج الإدارية والمؤسسات العامة، وكذلك: شبكات الاتصالات، ومحطات
الكهرباء وموارد المياه، والمطارات، والسدود، وهذا فضلاً عن إعادة تأهيل
القطاع الصناعي، وإصلاح النظام المصرفي والمالي، وتوريدات الأدوية،
والأجهزة الكهربائية، والسلع الغذائية، ومستلزمات القطاع الزراعي ومنتجاته.
ويذكر في هذا الإطار أن قادة رابطة مطاحن أمريكا الشمالية كانوا قد اجتمعوا
مع مسؤولين من الإدارة الأمريكية لوضع الخطط اللازمة للفوز بعقود ضخمة لتوريد
المواد الغذائية لنحو ٢٢ مليون عراقي في الأسابيع والشهور القليلة التي تعقب
الحرب، حيث كان العراق يعتبر أكبر مستورد للأرز الأمريكي قبل صيف ١٩٩٠م،
فضلاً عن أنه كان ينفق ملايين الدولارات سنوياً لشراء المنتجات الزراعية
الأمريكية، كما أعلن مكتب الزراعة الفيدرالي بكاليفورنيا أن مزارعي أمريكا
يتطلعون للدخول في سوق كان يقدر حجمه في السابق بـ ٨٠٠ مليون دولار سنوياً..
وستحتاج هذه الموارد لمجهودات كبيرة، فقد كانت التقديرات المحسوبة لإعادة
الإعمار تصل إلى ما بين ٢٥ ملياراً و ١٠٠ مليار دولار في حال كون الحرب
قصيرة محدودة؛ رغم أن بعض الخبراء يقترح رقماً أكبر، وعلى الأقل يقدر
خبراء آخرون تكاليف إعادة شبكات الكهرباء لحالتها عام ١٩٩١م بـ ٢٠ مليار
دولار، ويحتاج الإصلاح السريع لصناعة البترول إلى ٥ مليارات دولار.
ومهمة إعادة بناء العراق ستستغرق وقتا طويلاً، وستكون بالنسبة لبعض
الشركات الأمريكية (مغامرة) مربحة جداً، حيث ستكون البلاد بقيادة حكومة تحت
سيطرة أمريكية كما أشرنا؛ الأمر الذي سيعزز (حظوظ) الشركات الأمريكية في
الظفر بعقود أفضل في أحد أكثر البلدان الغنيّة بالموارد في المنطقة، وهذا ما
تواردت به الأنباء لاحقاً؛ فقد قالت صحيفة «وول ستريت جورنال» إن إدارة
الرئيس الأمريكي جورج بوش طلبت من خمس شركات هندسية أميركية على الأقل
- من بينها وحدة تابعة لشركة هاليبيرتن - التقدم بعطاءات لتنفيذ عقود لإعادة
إعمار العراق بعد الحرب، وهي تعاقدات قد تصل قيمتها إلى ٩٠٠ مليون دولار،
وكان ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي يعمل مديراً تنفيذياً لهاليبيرتن في الفترة
بين عامي ١٩٩٥ و ٢٠٠٠م، وذكرت الصحيفة أنه سيطلب من المقاولين أيضاً
إصلاح ١٥% من شبكات الكهرباء، وتجديد آلاف المدارس، وتوفير ٥٥٠ مولداً
كهربائياً بشكل طارئ في غضون شهرين.
وكان من أول الغيث أيضاً ما أعلنته الإدارة الأمريكية يوم الخميس
١٧/٤/٢٠٠٣م من أنها منحت مجموعة «بكتل» الأمريكية للبناء والأشغال
العامة عقداً تناهز قيمته ٦٨٠ مليون دولار للمساعدة على إعادة إعمار العراق.
* ولا شك أن القطاع النفطي يظل هو الركن الأساسي في الاقتصاد العراقي؛
لذا: يجب أن تفحص بدقة المكاسب التي يمكن جنيها من ورائه، ويلاحظ قبل
التطرق لذلك أن القوى الدولية المسيطرة اقتصاديّاً رفضت لأسباب عديدة، سياسية
واقتصادية واستراتيجية وعنصرية، تطبيق شروط منظمة التجارة العالمية على
النفط باعتباره سلعة تجارية، وهذا ما يتيح لها استمرار سيطرتها وتحكمها في هذه
السلعة الاستراتيجية التي تفتقر معظم هذه الدول إلى مادتها الخام.
وتبرز هنا معطيات أخرى توضح أهمية الحرب على العراق لتحقيق مكاسب
اقتصادية نفطية؛ منها: أن حجم الاستثمارات الأمريكية النفطية في منطقة القوقاز
كان قد وصل إلى حدود الـ ٢٠٠ مليار دولار إبان حرب كوسوفا، إلا أن مفاجأة
تعيسة كانت تنتظر هذه الاستثمارات؛ إذ كانت التقديرات الأولية تقول إن احتياطي
القوقاز النفطي يتراوح ما بين ٦٠٠ و٨٠٠ مليار برميل (يرى بعض المحللين أن
هذه المبالغة كانت مقصودة من أمريكا لإسالة لعاب الدول المطلة على مناطق بترول
بحر قزوين وفتح المجال أمام الوجود الأمريكي في المنطقة) ، ثم تبين فيما بعد أن
هذا الاحتياطي لا يتجاوز الـ ٥٠ مليار برميل فقط؛ وهذا ما جعل الولايات
المتحدة تسعى لتعويض خسائر هذه الاستثمارات في مناطق أخرى.
ومنها: أن حقول نفط كثيرة خارج دول منظمة أوبك نضبت أو سوف تنضب
في مدى زمني قريب، بل إن هناك مؤشرات بأن بعض الدول الأعضاء في منظمة
الأوبك ستنضب آبارها النفطية، في المدى المنظور، إضافة إلى أن الاكتشافات
النفطية في المناطق الجديدة إما أنه يعيبها ارتفاع كلفة الاستخراج، أو انخفاض
جودة الخام.
وهنا تأتي أهمية منطقة الشرق الأوسط، حيث تؤكد الدراسات الاقتصادية بأن
٧٠% من احتياطي النفط العالمي موجود في أراضي هذه المنطقة، وعلى رأس
ذلك تأتي مكانة العراق الذي يعبر الخبير الاستراتيجي ورئيس تحرير التقرير
الاقتصادي العربي أحمد السيد النجار في حوار مع جريدة البيان الإماراتية (١٤/٢/
٢٠٠٣م) عما يمثله نفطه بالنسبة لأمريكا وما يمكن أن تجنيه من مكاسب من وراء
حربها ضد العراق، بقوله: يكفي أن نشير هنا إلى ما قاله لورانس ليندساي قبل
عدة أسابيع، وهذا الرجل هو مستشار الرئيس بوش للشؤون الاقتصادية، لقد قال
بأن النفط هو الهدف الرئيسي لمساعي الولايات المتحدة لشن الحرب ضد العراق.
فالولايات المتحدة عبَّرت، وأكثر من مرة، عن أن السعر المناسب لبرميل
النفط هو ما يتراوح بين ١٥ - ١٨ دولاراً للبرميل، وغزوها للعراق واحتلاله أو
تنصيب حكومة عميلة هناك سيعني على الفور أنها ستتمكن من تحقيق ذلك، بل
وربما يغريها الوضع إلى تخفيض السعر إلى ما هو أدنى من ذلك.
وإذا حدث ذلك وانخفض سعر برميل النفط بمقدار ١٠ دولارات ليتراوح حول
مستوى ١٨ دولاراً للبرميل؛ فإن ذلك يعني أن الولايات المتحدة ستكسب من وراء
ذلك نحو ٤٠ مليار دولار في العام، أما إذا انخفض سعر البرميل لمستوى
١٥ دولاراً للبرميل؛ فإن الولايات المتحدة ستكسب نحو ٥٢ مليار دولار في العام،
وهذا المكسب يفوق في عامين كل تكاليف الحرب الأمريكية المقدرة ضد العراق،
والتي تشير بعض التقديرات الجزافية قبل نشوبها إلى أنها ستبلغ نحو ١٠٠ مليار
دولار، وهذا الربح غالباً سيتوزع بين الشركات الأمريكية المستهلكة للنفط؛ على
رأسها المجمع الصناعي العسكري، وشركات النقل والطيران، وبين الجيش
الأمريكي، والمستهلكين الأمريكيين أنفسهم.
وهكذا رأينا أنه بعد انتهاء الحرب وفور سقوط بغداد وظهور ما بدا أنه
استقرار الأمر لأمريكا في العراق أبدت الإدارة الأمريكية رغبتها العاجلة في رفع
العقوبات عن العراق حيث تمثل تلك العقوبات عائقاً قانونيّاً في التصرف الكامل في
ثروات العراق دون انتظار صدور قرار من الأمم المتحدة، ويعني ذلك: إتاحة
الفرصة لأمريكا لبيع نفط العراق بحرية وبالكميات التي ترغب فيها، وقد فاجأت
الولايات المتحدة برغبتها تلك الجانب الأوروبي في مجلس الأمن متمثلاً في فرنسا
وألمانيا، وكذلك حليفتها بريطانيا بجانب روسيا؛ بما يعني أنها تسعى لتستغل
المرحلة الأولى التي ستنفرد فيها بكل شؤون العراق في تحقيق أكبر مكاسب ممكنة
من بيع النفط العراقي وترسية العقود النفطية للجهات التي تريدها، وهذا يعني
تلقائيّاً أن أمريكا ستتحكم بمفردها في مئات المليارات من الدولارات عبر السيطرة
على مصادر النفط العراقية ومصادر المواد الخام.
** ماذا يعني النفط بالنسبة لأمريكا وقادتها؟ :
عندما نتحدث عن أهمية النفط في مثل هذه الظروف؛ فإن العلمي يختلط
بالاقتصادي، والقومي يختلط بالشخصي، تختلط الأبعاد وتتشابك المصالح، ويمكن
القول: إن النفط هو الدم الذي يجري في عروق المدنية المعاصرة، وهو الذهب
الذي يسيل لبريقه لعاب أصحاب النفوذ وجامعي المال.
النفط.. ذلك السائل الأسود الذي يستخرج منه العالم الصناعي المتقدم نحو
٣٦٢ مُنتجاً ضرورياً للحياة المعاصرة، لا يستطيع أن يعيش الغرب المعاصر بدونه،
ولك أن تتخيل كيف لو انقطعت الكهرباء التي تولد معظمها محطات تعمل بالطاقة
النفطية عن المصانع والمؤسسات والشركات والبيوت والشوارع، وأن تتخيل ماذا
لو توقفت السيارات والقطارات والطائرات والسفن العملاقة عن الحركة، لك أن
تتأمل ماذا يعني شتاء أوروبا وأمريكا القارس، وماذا تعني الآلة بالنسبة للإنسان
الذي يعيش هناك؟!
إن رفع أسعار النفط بصورة طفيفة يمكن أن يلقي بملايين العمال إلى الشارع
في أوروبا وشرقي آسيا، ويمكن أن يرفع أسعار مئات، بل آلاف السلع التي
يتعامل فيها الإنسان الذي يعيش نمط هذه المدنية؛ باختصار إنه بقدر ما يتوفر النفط
ويتاح بسهولة بقدر ما تستمر (حياة) هذا الإنسان وتتسهل.
وكما يقول أستاذ الدراسات الاستراتيجية اللواء / دكتور زكريا حسين: فإن
العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تفرضها الدول العربية المنتجة للنفط على
الولايات المتحدة قد يلحق الفوضى بالأوضاع الداخلية الأمريكية، كما يمكن أن
تؤدي عمليات الحظر النفطي الجدية إلى تمزيق أوروبا الغربية واليابان التي يُعَدّ
اعتمادها على البترول في ذلك الوقت أكبر بكثير من اعتماد الولايات المتحدة عليه.
وبهذا النحو؛ فإن قيام الدول المنتجة للنفط بفرض عقوبات حادة ستصيب
المصالح الحيوية بهذه البلدان في مرحلة مبكرة جدّاً، كما ستخنق اليابان ودول حلف
شمال الأطلسي؛ وبالتالي ستعاني المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية
والاجتماعية كثيراً من جراء ذلك بالتبعية.
ذلك ما انتهت إليه جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية
الخارجية التابعة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حول تبعات
السياسة الخارجية على أزمات الطاقة، والذي صدر عن مكتب الطباعة الحكومية
الأمريكية في أبريل عام ١٩٧٤م.
وإذا استعرضنا طرفاً مما ذكره بعض الخبراء والمحللين، كإبراهيم الصحاري
(في كتابه: العراق.. حرب من أجل الهيمنة والنفط) ، والباحث بمركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية بالأهرام أحمد السيد النجار (حوار مع البيان الإماراتية
١٤/٢/٢٠٠٣م) ، وعلي عبود مدير تحرير (الاقتصادية) السورية (البيان
الإماراتية ١٤/٢/٢٠٠٣م) ؛ لأدركنا بصورة أوضح مدى أهمية النفط، وحتمية
السعي والتنافس إلى الهيمنة عليه من قِبَل القوى الغربية وخاصة أمريكا.
فقد رسمت علوم الكيمياء والجيولوجيا والفيزياء خريطة بالغة الدقة لكرتنا
الأرضية، وهذه الخريطة تؤكد أن احتياطي النفط العالمي بحدود ٨٥٠ بليون برميل،
وأن الصناعة النفطية عثرت على ٩٠% من هذا الاحتياطي، وبالتالي فما دامت
الاكتشافات النفطية الجديدة محدودة جداً، فهذا يعني أن العالم يستهلك من الاحتياطي
دون أي تعويض يُذكر، وتثبت الوثائق أن إنتاج النفط العالمي سوف ينخفض خلال
السنوات الخمس المقبلة بما يعادل مليوني برميل يومياً.
ويذهب الخبراء النفطيون في الولايات المتحدة إلى أن حجم الاستهلاك العالمي
في حال النمو الاقتصادي سيكون في الفترة من العام ٢٠٠٠م وحتى العام ٢٠٢٥م
أعلى من كل المراحل السابقة في التاريخ، وهو ما يدفع النفط إلى أن يكون السلعة
الأهم في العالم، وفي هذا السياق توقع «لورد براون» كبير المديرين التنفيذيين
في شركة «بريتيش بتروليوم» (BP) أن يستمر النفط والغاز كمصدر أول
للطاقة في السنوات الـ ٣٥ المقبلة على الأقل، مع الأخذ في الاعتبار فشل
محاولات الاستعاضة عن النفط ببدائل من مصادر الطاقة الأخرى في المدى
المنظور.
أما بالنسبة لأمريكا خاصة، فقد بات واضحاً في الفترة الأخيرة أن ظنون
كبريات معامل التحاليل الجيولوجية الخاصة بتقديرات الثروة النفطية الأمريكية
خانتها الدقة، واصطدمت شركات البترول العالمية الأمريكية والأوروبية بحقائق
محبطة لها، حيث أكدت أن توقعات أمريكا بوجود احتياطي بترولي في باطن
أراضيها يكفى لمدة ٣٠٠ سنة لم تكن في محلها، وبات واضحاً أن احتياطيات النفط
الأمريكي نفسها وهي لا تتجاوز ٢١ مليار برميل في الوقت الراهن (أي ٢% فقط
من الاحتياطيات العالمية المؤكدة) آخذة في النفاذ بسرعة، وذلك في حين يبلغ
الاستهلاك الأمريكي الصافي نحو ١٧ مليون برميل يومياً؛ مما يعني أن كل
الاحتياطيات الأمريكية من النفط يمكن أن تنفد خلال ما يقل عن ثلاثة أعوام ونصف
العام فقط لو اعتمدت الولايات المتحدة على نفطها كلياً، لكنها تعتمد بالأساس على
استيراد النفط حتى لا تنفد تلك الاحتياطيات.
وقد بلغت الواردات النفطية الصافية للولايات المتحدة نحو ١٠.٨ ملايين
برميل يومياً في المتوسط في عام ٢٠٠١م، في حين يدور حجم الإنتاج الأمريكي
من النفط حول مستوى ٦ ملايين برميل يومياً، وإذا استمر هذا المستوى من
الإنتاج؛ فإن الاحتياطيات الأمريكية سوف تنتهي بعد ما يقل عن عشرة أعوام
لتصبح بذلك معتمدة على استيراد النفط بشكل كامل، وجدير بالذكر أن مشروع
بوش للتنقيب في ألاسكا لا يواجه فقط معارضة أنصار البيئة، بل يلقى أيضاً
معارضة من الحزب الجمهوري نفسه.
ولهذا كانت أمريكا أكبر مستورد للنفط في العالم؛ وبحسب بيانات «مركز
الدراسات السياسية والدولية» في واشنطن؛ فإن الولايات المتحدة كانت تستورد
في عام ١٩٧٣م حوالي ٣٦% فقط من احتياجاتها من الطاقة، وفي عام ٢٠٠٠م
استوردت حوالي ٥٧% من حاجاتها من الطاقة؛ أي إنها اعتمدت على احتياطاتها
في تغطية ٤٣% فقط من استهلاكها، ومؤخراً شكلت وارداتها حسب البيانات
الأمريكية عن النصف الأول من عام ٢٠٠١م نحو ٦٣.٢% من إجمالي الواردات
الدولية من النفط.
ويلاحظ أن واشنطن اعتمدت على منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في
تغطية ٤٦% من وارداتها؛ منها ٣ ملايين برميل من الدول العربية، واعتمدت
على دول منطقة الخليج في تغطية ما يقارب ٢٢% من وارداتها النفطية، وهو ما
يشير إلى الأهمية المتعاظمة لهذه المنطقة مضافة إلى بحر قزوين الغني بالنفط في
استراتيجية الهيمنة الأمريكية في القرن الجاري.
ويقدر بعض الخبراء أن حرباً اقتصادية التي يُعَدّ الحظر النفطي أبرز صورها
يمكن أن تهدد معظم المجتمعات المدنية بنفس الدرجة التي تهددها بها (الأسلحة
النووية) ، وأنه إذا حدث نقص خطير من الطاقة نتيجة لعقوبات اقتصادية تفرضها
دول غير صديقة فإن على الولايات المتحدة استغلال ثلاثة بدائل أخرى:
أولها: استخدام المخزون الاستراتيجي الأمريكي لتعويض النفط، وهو لا
يكفي إلا أسابيع معدودة إذا توقفت جميع الواردات.
والبديل الثاني: يتمثل في زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط، وهذا البديل لا
يحقق سوى زيادة مباشرة ضئيلة لا تكفي كل المتطلبات من الطاقة.
أما البديل الثالث: فهو خفض معدلات الاستهلاك؛ الأمر الذي يمكن أن
يعرض نمط الحياة الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية للخطر.
وعموماً، ففي الأحوال (العادية) في حال استمر الطلب العالمي على النفط
في الارتفاع وعجزت أمريكا عن اكتشاف احتياطيات محلية أخرى للنفط أو تدبير
مصادر أخرى للطاقة؛ فمن المتوقع أن يؤدي النقص في العرض إلى خفض
وضعية الولايات المتحدة إلى مستوى بلد نام من حيث معدل النمو الاقتصادي
السنوي، ولهذا كان من الأهمية بمكان بالنسبة لأمريكا ضمان الحصول على النفط
وبأسعار رخيصة، وهذا ما يرصده أحمد السيد النجار، الباحث بمركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية بالأهرام، بقوله: «.. وفي الوقت الراهن؛ فإن زيادة
سعر البرميل من النفط بدولار واحد يعني زيادة المدفوعات الأمريكية على الواردات
النفطية الصافية بمقدار ٤ مليارات دولار سنوياً. أما إذا نفد الاحتياطي الأمريكي
فإنه، وبفرض ثبات حجم الاستهلاك الأمريكي من النفط؛ فإن ارتفاع سعر البرميل
بمقدار دولار واحد سيعني زيادة المدفوعات الأمريكية على الواردات النفطية بأكثر
من ستة مليارات دولار في العام، وإذا أضفنا إلى ذلك أن بريطانيا على سبيل
المثال ستتحول إلى دولة مستوردة للنفط بشكل كامل قبل نهاية العقد الأول من القرن
الحالي لأدركنا لماذا الموقف البريطاني المؤيد للولايات المتحدة على هذا النحو» .
وقد استدعت هذه الأزمة المحدقة إعادة النظر في الدور الذي تلعبه الطاقة في
صنع السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يتركز الهدف الأمريكي الراهن على
الجمع بين وفرة المعروض ورخصه، وهو ما يؤكده إعلان الرئيس بوش القائل:
«إن طريقة الحياة الأمريكية (التي تعتمد على وفرة الطاقة ورخصها) ليست
موضع مفاوضات» .
وفي تقرير السياسة القومية للطاقة الصادر عن البيت الأبيض في شهر مايو
عام ٢٠٠١م، والذي وُصف بـ (تقرير تشيني) نسبة إلى نائب الرئيس الأمريكي
الذي تولى الإشراف على صياغته بعد تكليفه من الرئيس بمهمة رئاسة لجنة عمل
من أجل الطاقة، تم تأكيد مخاطر استمرار اعتماد الولايات المتحدة على استيراد
النفط، والأبرز في هذا التقرير تركيزه على ضرورة ضمان أمن استيراد دائم للنفط
من الشرق الأوسط.
فإذا كانت التقارير تشير إلى أن النفط سينضب في الولايات المتحدة خلال ١٠
سنوات، ومن معظم الدول المنتجة للنفط خلال نصف قرن، وأن آخر نقطة منه
في العالم ستكون في العراق؛ فإن أهمية النفط العراقي تكون في البؤرة؛ مما جعله
يحتل أهمية قصوى في استراتيجية الإدارة الأمريكية، ولهذا ليس أمام الولايات
المتحدة بمنطق الهيمنة والتسلط إلا أن تضع يدها مباشرة على ما تبقى من
الاحتياطي النفطي العالمي لاستثماره لمصلحة اقتصادها بالدرجة الأولى، وأن يكون
لها تواجد في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
* هذا على المستوى القومي الأمريكي، أما على المستوى الشخصي لأركان
الإدارة الأمريكية الحالية؛ فإنه لم تشهد إدارة أمريكية من قبل تجمع مثل هذا العدد
من أصحاب المصالح النفطية وذوي العلاقات السابقة والحالية مع كبريات شركات
النفط؛ مثلما شهدته هذه الإدارة: فالرئيس بوش نفسه ينحدر من إحدى العائلات
الكبيرة في ولاية تكساس المشتغلة في استثمارات النفط وتجارته، ووالده جورج
بوش الأب يعمل الآن في شركة نفط عالمية لها استثماراتها النفطية الضخمة في
العالم أجمع (مجموعة كارلايل Group Carlysle) ، ومندوبها الحالي في القارة
الأوروبية هو جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق.
أما الرئيس الحالي جورج بوش الابن فقد سبق له أن ترأس شركة تعنى
بشؤون النفط، كما عمل موظفاً كبيراً في شركة «بترول ارويوستوبوش
إكسبلوريشن» من سنة ١٩٧٨م إلى سنة ١٩٨٤م، وكان مديراً في شركة بترول
«هاركين إينرجي كوربوريشن» للنفط بولاية تكساس منذ سنة ١٩٨٦م إلى سنة
١٩٩٠م حيث باع أسهمه فيها، قبل أسابيع من إعلان خسائر الشركة وتدهور
أسعار أسهمها بشكل كبير؛ الأمر الذي استدعى قيام لجنة البورصة الأمريكية
بالتحقيق فيما إذا كان قد استفاد من معلومات سرية حصل عليها بسبب موقع والده
كرئيس للبلاد، وقد عانى جورج بوش الابن شخصياً من أزمة نفط نهاية
الثمانينيات، حيث كان أحد أثرياء النفط المهددين بالإفلاس جراء تلك الأزمة، ولجأ
في حينه إلى إدمان الكحول في محاولة لتخطي حالة الإحباط التي كان يعيشها،
وهنالك أنباء عن تعاطيه المخدرات في تلك الفترة، وغني عن الذكر أيضاً أن حملة
بوش الابن للرئاسة تلقت دعماً واسعاً من شركات النفط والشركات التابعة لها
وصلت تبرعاتها إلى حوالي مليوني دولار، ومن أبرز المساهمات ما تلقته من
شركة إنرون ENRON التي شهدت أكبر الفضائح المالية في تاريخ أمريكا،
وارتبط كبار المسؤولين فيها بعلاقات شخصية وودية مع الرئيس بوش الابن..
والشاهد أن الرئيس جورج بوش لديه قائمته النفطية الخاصة.
أما نائب الرئيس ديك تشيني (صاحب تقرير تشيني) فقد كان يترأس مجلس
إدارة إحدى أكبر الشركات العملاقة المعنية بشؤون الطاقة (هاليبرتون
Haliburton) من سنة ١٩٩٥م إلى سنة ٢٠٠٠م أي حتى قبيل تسلمه منصبه
الحالي في الإدارة الأمريكية، كما أن هناك شبهات بتورطه في فضيحة فساد
وتلاعب في حسابات هذه الشركة أثناء رئاسته لها، وحتى المجموعة الرئاسية التي
كانت مكلفة بتقصي جرائم فساد ومخالفات الشركات أصبحت محل شبهة، ولشدة
امتنان هذه الشركة لتشيني فقد أهدته أربعة وثلاثين مليون دولار بعد أن ضمن لها
عقداً مع الحكومة العراقية لاستصلاح المنشآت النفطية العراقية بعد توقيع العراق
اتفاقه مع الأمم المتحدة (اتفاق النفط مقابل الغذاء) في منتصف التسعينيات،
والمعروف عنه أنه له مصالحه النفطية في العالم العربي، وسبق أن نُقل عنه قوله
عن الرئيس العراقي صدام حسين: إنه يجلس على ١٠% من احتياطي البترول في
العالم، ولديه ثروة هائلة، وترك يعمل على هواه، ونعتقد أنه سيحصل على القنبلة
النووية في المستقبل.
إضافة إلى أن المستشارة الحالية للأمن القومي كوندوليزا رايس كانت عضواً
في مجلس إدارة شركة شيفرون Chevron النفطية الأمريكية الشهيرة من سنة
١٩٩١م إلى سنة ٢٠٠٠م أيضاً حتى قبيل تسلمها منصبها الحالي في الإدارة
الأمريكية، ولشدة امتنان هذه الشركة للسيدة رايس فقد أسمت إحدى ناقلاتها العملاقة
للنفط باسمها Condoleeza.
كما أن وزير التجارة «دون إيفنز» الصديق والمقرب من الرئيس بوش
ترأس شركة «توم براون انك» المتخصصة بالنفط والغاز ومركزها في ولاية
كولورادو بالإضافة إلى عضويته في شركة SHARP/TMBR للتنقيب على
النفط.
أما وزيرة الداخلية غيل نورثون التي عارض مجيئها للوزارة منظمات حماية
البيئة بسبب مواقفها وارتباطاتها السابقة بشركات النفط؛ فقد وجهت لها الاتهامات
على علاقاتها بشركة دلتا بتروليوم وشركة (PAMOCO) .
فضلاً عن هذا فإنه ووفقاً لبيانات «مركز السلامة العامة» الأمريكي في عام
٢٠٠٢م؛ فإن هناك نحو ١٠٠ من المسؤولين في الإدارة الحالية للبيت الأبيض
يضعون استثماراتهم والتي تبلغ ١٤٤.٦ مليون دولار في قطاع الطاقة، وهو ما
يدفعهم للضغط من أجل أن تفوز شركات الطاقة الأمريكية بنصيب الأسد من النفط
العراقي لضمان الحفاظ على استثماراتهم، وليس أدل على ذلك من تشديد المسؤولين
الأمريكيين على ضرورة أن تحافظ المعارضة العراقية على مصالح الشركات
الأمريكية في مرحلة ما بعد صدَّام.
** العراق.. بقرة النفط الحلوب:
بعد احتلال بغداد وتركها مباحة للصوص (لأهداف في نفس أمريكا) كان من
الملفت أن الوزارة الوحيدة التي نجت من النهب والحرق على يد المجرمين
واللصوص هي وزارة النفط العراقية؛ حيث رابطت أمامها خمسون دبابة أمريكية
وعشرات العربات المصفحة، إضافة إلى انتشار مكثف للجنود الأمريكان على
سطحها ونوافذها مع اتخاذهم أوضاعاً قتالية، ومنعهم لأي شخص (مشبوه) من
الاقتراب منها (طبعاً للحفاظ على هذه الثروة دون غيرها أمانة للشعب العراقي) ،
فما سر هذا الحرص الأمريكي الفريد؟ وماذا يمثل نفط العراق لهؤلاء الغزاة؟
تشير التقارير إلى أن احتياطيات العراق النفطية المؤكدة تبلغ ١١٥ مليار
برميل؛ أي نحو ١١% من الاحتياطيات العالمية، وهذه التقديرات ليست وليدة
الساعة، بل إن أمريكا تعرفها منذ سنوات؛ ففي حديث نشرته صحيفة الرياض يوم
١١/٣/٢٠٠٣م مع مؤسس ومدير مركز «بيبلوس» للدراسات والأبحاث، الباحث
في الفكر الجيوستراتيجي الدكتور نبيل خليفة، قال: «ثمة مؤتمر عقد في
نيويورك منذ زهاء عشرة أعوام أكدت فيه الأبحاث أن مخزون النفط في العراق
[المؤكد وغير المؤكد] يوازي المخزون في المملكة العربية السعودية، وليس كما هو
رائج من أن العراق يمثل ثاني رصيد بترولي بعد المملكة التي يبلغ الاحتياطي فيها
٢٦١ مليار ونصف برميل ... هذه الإمكانيات البترولية التي كشفتها بعض
الدراسات تؤكد أن احتياطي العراق يصل إلى ٢٦٠ مليار برميل، وبالتالي ثمة
ثروات بترولية تريد أن تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية» .
ويضيف الدكتور جواد بشارة (صحيفة الزمان اللندنية في ٢/١٠/٢٠٠٢م)
بعداً آخر، وهو أن في العراق مصادر نفطية غير مستغلة بسبب سنوات الحرب
الطويلة التي عاشها العراق منذ عام ١٩٨٠م، ويقول: «.. إن جميع أصحاب
الشركات النفطية العالمية يعرفون أهمية الذهب الأسود العراقي منذ زمن بعيد، ولا
يغير من الأمر شيئاً اكتشاف آبار وحقول نفط جديدة في آسيا الوسطى وفي بحر
قزوين، وذلك لسبب بسيط وهو أن كلفة استخراج وإنتاج برميل النفط من بحر
قزوين تكلف ٧ دولارات أو ٨ دولارات بينما كلفة برميل النفط العراقي الأجود منه
لا تتجاوز ٧٠ سنتاً، كما يقول خبير نفطي عالمي [مقارنة بنحو ٣ - ٥ دولارات
للبرميل في كل من السعودية والكويت وإيران، وحوالي ٥ - ٨ دولارات
للبرميل في الإمارات، وما بين ٨ - ١٠ دولارات للبرميل في المكسيك
وفنزويلا] » .
وبالإضافة إلى تلك الميزات المطلقة للنفط العراقي، هناك الربحية الهائلة في
الاستثمار في هذا القطاع، وخاصة أن حقول النفط العراقية تعتبر من أغزر الحقول
في العالم وأكثرها قرباً من سطح الأرض؛ مما يوفر نفقات ضخمة في عمليات
التنقيب والاستخراج، وتفيد الدراسات الدولية أن معدل إنتاج البئر في العراق
يتراوح ما بين ١٠ إلى ١١ ألف برميل يومياً، بينما متوسط إنتاج آبار النفط في
دول أوبك الأخرى لا يزيد عن ٤ - ٨ آلاف برميل يومياً ...
كما أن كل الأجزاء الشرقية من العراق ما زالت بكراً وغير مستعملة ولا
مستغلة، وحسب المعهد الفرنسي للبترول؛ فإن باطن هذه الأجزاء قد يحتوي على
٢٠٠ مليار برميل من الخام.
ووحدها الشركات البترولية الأجنبية قادرة على تجنيد وتجميع البلايين من
الدولارات لبعث الإنتاج، للاستيلاء على نفط العراق الذي تعد تكلفة استخراجه
وإنتاجه من أقل المعدلات عالمياً؛ لذلك لن تفتر همة الشركات النفطية وأطماعها في
النفط العراقي.
فقبل الحظر كانت كل الشركات العملاقة تتفاوض مع النظام العراقي، وسبق
لشركة النفط الفرنسية «توتال» أن حجزت لنفسها حق استغلال وتطوير حقول
نفط «مجنون» القريبة من البصرة، وهي الأهم، وتصل تقديرات ما تحتويه من
احتياط بين ١٠ إلى ٣٠ مليار برميل، بينما حجزت شركة «فينا ألف» الفرنسية
حق استغلال حقول «بن عمر» .
ولم تكن الشركات الأمريكية ترضى بالخروج من هذه (الغنيمة) خالية
الوفاض، فقد أكدت جريدة الـ «وول ستريت جورنال» في مقال نشرته بتاريخ
٣٠ يناير ٢٠٠٣م كما يذكر إبراهيم الصحاري في كتابه أن لجاناً قانونية من
البنتاجون والخارجية الأمريكية تعكف على دراسة الجوانب القانونية المتعلقة بكيفية
تعامل قوة الاحتلال العسكري مع الثروة النفطية للبلد المحتل، ويتم مراجعة
السوابق التاريخية في تجارب ووثائق القانون الدولي ومن ضمنها معاهدة عام
١٩٠٧م لمؤتمر «هيغ» الذي تناول الضوابط لكيفية وإدارة قوة الاحتلال للثروات
الطبيعية في البلد المحتل مثل الغابات والمناجم وآبار النفط، وتؤكد بنود المعاهدة
على ضرورة بقاء الثروات الطبيعية لشعب الدولة التي يتم احتلالها وعدم إلحاق
أضرار مستديمة فيها.
ولكن في الوقت نفسه تترك البنود المجال لاجتهادات وتفسيرات قانونية
مطاطة حول ما إذا كان يمكن لسلطة الاحتلال أن تتصرف بعائدات هذه الثروات
للإنفاق على تكلفة احتلالها بالإضافة إلى إفادة الشعب الخاضع للاحتلال.
وهذا يوضح سر استعجال أمريكا لإعادة العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء -
الذي وضعه مجلس الأمن بالقرار رقم ٩٨٦ - في ظل احتلالها القائم، فهي تريد
استخدامه غطاءً قانونيّاً للعمليات الاقتصادية التي سوف تجريها أثناء الاحتلال،
وأيضاً يوضح سعيها الحثيث لرفع العقوبات التي كانت مفروضة على العراق التي
تراها الآن مكبلة لها قانونياً، وذلك لتتمكن في ظل هذه الأوضاع المتشابكة، والتي
لها اليد العليا فيها، أن تحسم مسار استغلال ثروات العراق لصالحها.
ويُذكر هنا أيضاً أنه مع النهم الأمريكي لحلب بقرة النفط العراقية تبدو خطورة
نشوء احتمالية دخول السوق البترولية في متلازمة زيادة الإنتاج لسد تكاليف الحرب
وإعادة الإعمار بعد الحرب وخفض الأسعار بسبب الزيادة المطردة في الإنتاج،
حيث يتوقع الخبراء أنه إذا نجح العراق في زيادة إنتاجه خلال فترة قصيرة؛ فإن
مؤشر «وست تكساس» للبترول الخام سينخفض إلى متوسط عشرين دولاراً،
وهو ما يعني أن سعر برميل البترول العراقي الخام قد يصل إلى ١٨ دولاراً؛ أي
ما يبلغ ما بين ١٤ و ١٦ مليار دولار سنوياً فقط، وبموجب برنامج النفط مقابل
الغذاء، فإنه حتى لو خصصت جميع العائدات لبرنامج النفط مقابل الغذاء، ولو
توقف تصدير البترول من خارج الأمم المتحدة، ولو تم تدبير عائدات أخرى من
أجل إعادة البناء.. فإن العراق سيحتاج لزيادة إنتاجه بصورة كبيرة.
نقطة أخرى بخصوص الرغبة الأمريكية في الاستفراد بغنيمة البترول
العراقية: وهي إلحاح أمريكا على الدول الدائنة للعراق بإسقاط هذه الديون، والسر
في ذلك: هو الرغبة الأمريكية أيضاً بالاستفراد بالغنيمة العراقية، فحسب موقع
CNN فإن: تقارير دولية أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية قدرت قيمة
الديون والتعويضات المستحقة على الحكومة العراقية بحوالي ٣٨٣ مليار دولار
أمريكي، منها تعويضات لأضرار ناجمة عن حرب الخليج قيمتها ١٩٩ مليار دولار.
كما يشار إلى أن هناك ١٧٢ مليار دولار هي عبارة عن مبالغ مستحقة
لحكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، و ١٢٧ مليار هي عبارة عن دين خارجي؛
منها ٤٧ مليار دولار مستحقة كفوائد، بالإضافة إلى ٥٧ مليار دولار هي قيمة عقود
جارية في مجال الطاقة والاتصالات وغالبيتها مستحقة لروسيا.
أمريكا تريد أن تحلب بقرة النفط العراقية حتى الهزال، ولا ترغب أن يكون
لها شريك في ذلك، ومن أجل ذلك أشعلت حرباً أو حروباً، ودمرت البلاد وقتلت
العباد.. فماذا ومَنْ يطفئ ظمأها للنفط والهيمنة وفرض قيمها ورؤيتها على الآخرين؟
ليس ببعيد أن نرى الإجابة على أرض الواقع..
(*) ورد هذا المقال قبل أكثر من شهرين، وحالت الظروف دون نشره فور وصوله - البيان -.