قضايا ثقافية
حصون الأمة..
هل باتت مهددة بمخططات الاختراق والتطبيع؟
عاطف الجولاني [*]
في ظل المتغيرات والتحولات الخطيرة التي يشهدها العالم، ومنطقتنا على
وجه الخصوص: هل باتت حصون الأمة مهددة بالانهيار وآيلة للسقوط أمام الهجمة
الشرسة التي تتعرض لها وتستهدف وجودها وعقيدتها وهويتها الحضارية والثقافية؟
وهل بات الطريق سالكاً والأبواب مشرعة على مصراعيها أمام نجاح حملات
التطبيع والاختراق الصهيوني؟ وهل فقدت الأمة عوامل صمودها وقدرتها على
مواجهة المؤامرات والتصدي لمخططات الغزو التي تستهدفها؟
أم أن الذين يراهنون على ضعف الأمة وانهيار عوامل مناعتها في مواجهة
التحديات الخطيرة التي تتعرض لها، يبالغون في الترويج لهذا الضعف، وينطلقون
من نفسية الهزيمة والانكسار والاستسلام لموازين القوى المختلة، ويغفلون عن
عوامل قوة تمتلكها الأمة تؤهلها للصمود وصدّ الهجمة الصهيونية والغربية، كما
نجحت في مواجهة حملات سابقة لا تقلّ ضراوة عن الحملة الحالية؟
وباختصار: ما هو مستقبل مشروع التطبيع والاختراق الصهيوني في ظل
المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة وتحتاج إلى قراءة فاحصة متمعنة بعيدة
عن السطحية وعقلية التهوين أو التضخيم؟
* العراق.. فرصة متاحة:
وعند رصد المتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية
يمكن الوقوف عند جملة من المتغيرات السياسية المساعدة لنجاح وتسويغ مخططات
التطبيع والاختراق، وأخرى معاكسة ومعوقة تعمل في الاتجاه المضاد.
ولعل التطور الأبرز الذي أثار التخوفات من أن مسيرة التطبيع والاختراق
مرشحة للاندفاع وتحقيق نقلات نوعية باتجاه تحقيق أهدافها في مناح مختلفة:
سياسية وثقافية وأمنية وتربوية، ما أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية من حرب لا
هوادة فيها ضد ما أسمته بـ «الإرهاب» الذي كان شعاراً خادعاً ومضللاً لحرب
حقيقية ضد الإسلام الفاعل والمؤثر، وما تبع ذلك من تصريحات علنية لمسؤولين
أمريكيين عن خطط لإعادة رسم خريطة المنطقة جغرافياً وسياسياً وثقافياً بما ينسجم
مع الرؤية الأمريكية ويحقق أهدافها وتوجهاتها، ومباشرة خطوات عملية في اتجاه
تنفيذ هذه الخطط، بدأت في أفغانستان وانتقلت إلى العراق، وكانت ستخطو
خطوات لاحقة لو تيسّر لهذا المخطط أن يسير وفق الخطط المرسومة.
ومنذ اللحظات الأولى لسقوط بغداد واحتلال القوات (الأنجلو - أمريكية)
للعراق، بدا واضحاً أن ثمة رغبة أمريكية صهيونية جامحة لاستثمار تداعيات
الحدث وما يمكن أن يخلّفه من صدمة وحالة إحباط وانهيار نفسي على مستوى الأمة،
لتمرير وتسريع مشروع التطبيع ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة، مستفيدين
من تجربة حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١م التي تم استثمارها في عقد مؤتمر مدريد
وإطلاق عملية التسوية وفرض اتفاقية أوسلو ومعاهدة وادي عربة.
وتزايدت المخاوف بصورة أكبر من إمكانية نجاح خطط التطبيع الصهيوني
بعد الإعلان عن جملة من الاختراقات الصهيونية للعراق بدأت منذ الأيام الأولى
لوضع الحرب أوزارها؛ حيث أرسل الصهاينة وفوداً تجارية وسياحية إلى العراق،
كما تم إرسال عشرات ضباط «الموساد» الصهيوني بصورة سرية للقيام بمهام
استخبارية، كما تم افتتاح مركز دراسات في بغداد مرتبط بدوائر صهيونية.
وأعلنت الإدارة الأمريكية عن خطط لمشاركة (إسرائيلية) فاعلة في مشاريع إعادة
إعمار العراق من خلال شركات مشتركة إسرائيلية وعربية.
كما شهدت الشهور التي تلت احتلال بغداد لقاءات واتصالات بين أوساط
سياسية صهيونية وأعضاء في مجلس الحكم العراقي الانتقالي، لا سيما جلال
طالباني وأحمد الجلبي المعروفين بعلاقاتهما الحميمة مع الكيان الصهيوني.
لكن ذلك كله لم يكن مقنعاً للإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني الذي يسعى
لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع العراق الجديد، وجرى الحديث عن جهود
محمومة تبذلها الإدارة الأمريكية المعينة في العراق مع مجلس الحكم العراقي باتجاه
إعلان اعتراف عراقي رسمي بـ «دولة إسرائيل» وإقامة علاقات تطبيعية كاملة
معها. ومع أن بعض أعضاء مجلس الحكم العراقي حاولوا التقليل من شأن ما
تسرب من معلومات بهذا الخصوص؛ فإن وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية ما
زالت تؤكد أن هذه القضية تحظى بأولوية خاصة.
* باكستان هدف آخر للتطبيع:
وكانت زيارة الرئيس الباكستاني برويز مشرف لواشنطن قبل أسابيع فرصة
مواتية لدفع إسلام آباد لإنهاء حالة القطيعة المعلنة مع الكيان الصهيوني والتوجه
لإقامة علاقات سياسية مع تل أبيب. واشنطن التي أخذت على نفسها أن تلعب دور
العرّاب لتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع العالم العربي والإسلامي، مارست ضغوطاً
شديدة على مشرِّف دفعته للتصريح من واشنطن بأن على الشعب الباكستاني أن يعيد
النظر في العلاقات المقطوعة رسمياً مع (إسرائيل) ، انطلاقاً من تقدير المصلحة
الباكستانية. وعاد ليكرر تصريحاته بعد عودته إلى إسلام آباد، لكنها ووجهت هناك
برفض شديد من مختلف الأوساط السياسية والشعبية، وهو ما دفعه إلى التراجع
خطوة إلى الوراء خشية تصاعد ردود فعل شعبية أكثر حدّة. وإلى جانب العراق
وباكستان، حقق الكيان الصهيوني اختراقاً سياسياً مهماً تمثل في الزيارة التي قام بها
وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم مؤخراً إلى العاصمة المغربية الدار
البيضاء، في خطوة عبّرت عن تدشين مرحلة جديدة من العلاقات التطبيعية مع
المغرب. والمثير في الأمر أن توقيت الزيارة جاء في ظل تصاعد الهجمة
الصهيونية المسعورة ضد الشعب الفلسطيني والتي شملت أعمال قتل وتصفية
للقيادات وهدم للمنازل واجتياح للمدن وإهلاك للنسل والحرث.
* شعبياً.. الأمر مختلف:
ويمكن لأي راصد سياسي أن يقف عند العديد من خطوات التطبيع والتقارب
الإضافية بين بعض الدول العربية والإسلامية والكيان الصهيوني تمت في الآونة
الأخيرة، تدل بوضوح على أن المخطط الصهيوني لاختراق المنطقة لم يتوقف
لحظة واحدة، مدعوماً بإسناد أمريكي ضاغط على هذا الطرف العربي والإسلامي
أو ذاك.
لكن أي محلل سياسي يمعن النظر في قراءة المشهد السياسي فيما يتعلق بمسار
عملية التطبيع بين الكيان الصهيوني والدول العربية والإسلامية، لن يجد عناء في
اكتشاف أن التقدم الحاصل في هذه العملية يقتصر على الحالة الرسمية التي باتت
أكثر استعداداً وترويضاً للتجاوب مع المطالب والإملاءات الأمريكية بسبب حالة شبه
الانهيار الكامل التي يشهدها النظام الرسمي العربي ومؤسساته للعمل المشترك التي
تحولت إلى مجرد هياكل صورية بلا مضمون أو فاعلية.
أما على الصعيد الشعبي فإن الحالة تبدو مغايرة تماماً لهذا الواقع؛ حيث تزايد
العداء الشعبي بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة للكيان الصهيوني.
ويمكن القول، دون تردد، إن ثمة حالة فصام نكد بين الموقفين الشعبي والرسمي
إزاء الكيان الصهيوني والتطبيع معه. والمؤشرات تدل على أن حالة العداء
والرفض الشعبي لهذا الكيان مرشحة لتتعزز بصورة متزايدة. ويمكن الوقوف عند
عدد من العوامل الهامة التي لعبت دوراً مؤثراً في تعميق حالة العداء والرفض:
أولاً: انتفاضة الأقصى المباركة وما حظيت به من تعاطف وتفاعل واسعين
في الشارع العربي والإسلامي، لا سيما في ظل البطولات الرائعة التي سطّرها
الشعب الفلسطيني، وتعامل العدو الصهيوني بصورة وحشية مع المقاومة
الفلسطينية، واستباحته لدماء الفلسطينيين وحرماتهم. وهو ما كرّس حالة عداء
شديدة في الشارع العربي والإسلامي ضد الكيان الصهيوني شكلت حاجزاً وسداً منيعاً
أمام جهود التطبيع مع القطاعات الشعبية. بل إن كثيراً من المطبِّعين أعلنوا
تراجعهم عن خطيئتهم، وأعلنوا التوبة عما اقترفوه من جريمة بحق أنفسهم وأمتهم.
ثانياً: تفجير إدارة الصقور في واشنطن لحالة من الصراع الديني الحضاري
مع الأمة الإسلامية، وتبنيها بصورة مكشوفة لنظرية «صموئيل هنتنغتون» حول
صدام الحضارات ولأطروحات «فوكوياما» ، وانطلاقهم من هذه العقلية العدائية
في تعاملهم مع العالم الإسلامي الذي بدؤوا يروجون أنه مصدر الخطر الأكبر على
الحضارة الغربية، ومن ثم لا بدّ من شنّ حرب وقائية استباقية لضرب مصادر
الخطر في مهدها.
ولم تقتصر هجمتهم الشرسة على شنّ حرب عسكرية ضد بعض الدول
العربية والإسلامية، وإطلاقهم التهديدات ضد عدد آخر من هذه الدول، بل
تجاوزت ذلك لتشمل مناهج التعليم ومؤسسات التوجيه في مختلف الدول العربية
والإسلامية، بحجة أنها تشكل محاضن لتغذية حالة العداء ضد الغرب.
وقد أدّت سياسة صقور واشنطن ضد الأمة إلى شعورها بأنها مستهدفة في
دينها وهويتها وأخص خصوصياتها، وهو ما ولَّد حالة من الإحساس بالخطر الداهم
وضرورة التصدي لهذه الهجمة المعادية.
وقد أسهم هذا الإحساس في تعميق مشاعر العداء، ليس ضد الكيان الصهيوني
فحسب، بل تجاوزها إلى معاداة حلفائه الدوليين؛ حيث أظهرت نتائج استطلاع
مركز «بيو» الأمريكي الذي أجراه في أكثر من أربعين دولة من دول العالم،
تزايد مشاعر الغضب والكراهية تجاه أمريكا وسياساتها ضد المنطقة العربية والعالم.
وكانت المفارقة الكبيرة أن أشد حالتي عداء شعبي تجاه السياسات الأمريكية، كما
أظهرها الاستطلاع، كانت في الأردن أولاً ومصر ثانياً، وهما الدولتان اللتان
تقيمان مع العدو الصهيوني معاهدات سلام. ودشنت حالة الكراهية هذه حملة
مقاطعة واسعة في العالم العربي والإسلامي، ليس ضد المنتجات الصهيونية فحسب،
بل ضد المنتجات الأمريكية أيضاً.
ثالثاً: مع أن الكيان الصهيوني يسعى للاستفادة من احتلال العراق في دفع
مشروع اختراقه للأمة إلى الأمام، لكن ما يغفله الكثيرون، أن افتضاح أمر
محاولات الاختراق هذه كان له انعكاسات سلبية كبيرة على مستقبل التطبيع في
العراق؛ حيث تسببت في ردة فعل قوية في الشارع العراقي الذي يشهد حالة غضب
متزايدة إزاء الاختراقات الصهيونية، إلى درجة أحرجت أعضاء مجلس الحكم
العراقي الذين بدؤوا يحرصون علنياً على النأي بأنفسهم عن أي ممارسات تطبيعية،
كما دفعتهم إلى إصدار تصريحات متحفظة إزاء إقامة علاقات سياسية رسمية مع
الكيان الصهيوني.
وخلاصة القول: إن مسار التطبيع على الصعيد الرسمي العربي والإسلامي
قد يكون مهيأً لمزيد من الاختراقات في الفترة القادمة بفعل الضغوط والإغراءات
الأمريكية، لكن الحالة الشعبية ما زالت - ولله الحمد والمنّة - محصنة عصية على
التطبيع. لكن ذلك يحتاج من كل الحريصين على عقيدة الأمة وهويتها بذل مزيد
من الجهود المضادة. فإذا كان أهل الباطل ينشطون في خدمة باطلهم، فإن أهل
الحق أوْلى بأن ينشطوا في الدفاع عن حقهم. وعليهم أن يثقوا بأن إمكانية مواجهة
الحملة التي تتعرض لها الأمة هذه الأيام، يمكن مواجهتها وتحقيق انتصارات مهمة
فيها، إن هم أحسنوا استغلال عوامل قوتهم ونقاط ضعف خصمهم.
[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد:
١٧)
(*) رئيس تحرير جريدة السبيل الأردنية.