[التأثير الهامشي ٢ ـ ٢]
د. عبد الكريم بكار
تحدثت في المقال السابق عن فكرة جوهرية، هي أنَّ تأثير العوامل والأسباب الخارجية في حياة الأمة يظلّ هامشياً ومحدوداً ما لم يتحوّل العامل الخارجي إلى عامل داخلي، أو يولّد عوامل داخلية، وذكرت مثالاً على ذلك (الفقر) بوصفه مشكلاً كبيراً يعاني منه عدد كبير من المسلمين، ووعدت بتقديم مثال ثانٍِ على ذلك؛ من أجل توضيح هذه
الفكرة.
والمثال الثاني الذي سأقدمه اليوم ـ بحول الله وطوله ـ يدور حول (الاستعمار) وسيطرة العدو الخارجي. والحقيقة أن هذا المثال يفيدنا في شرح الفكرة فائدة كبرى، وذلك بسبب اعتقاد كثير من الناس أنَّ الاستعمار هو عامل خارجي وعدوان أجنبي سافر، لا يحتمل أي تحليل أو فهم مغاير. وأود شرح هذا المثال عبر المفردات التالية:
١ ـ من المهمّ أن نُدرك أنَّ البشر يتنازعون البقاء على هذه الأرض بصورة جليَّة حيناً وبصورة خفية حيناً آخر، كما أنَّ لهم مصالح متعارضة وطموحات جامحة، منها المشروع وغير المشروع.
٢ ـ حين يتطلع البشر إلى تحقيق مآربهم والوصول إلى أطماعهم، فإنهم يأملون في بلوغ ذلك بأقل قدر ممكن من الخسائر والجهود والتكاليف؛ فالإنسان كائن اقتصادي من الطراز الرفيع.
٣ ـ حين تحاول دولةٌ استعمارَ دولة أخرى، فإنها تقوم بحسابات دقيقة للربح والخسارة، فإذا كانت التوقعات تشير إلى خسارة فادحة في الأرواح والأموال، وإلى منافع قليلة، فإنها تحجم عن ذلك، وإذا ارتكب زعماؤها حماقة في ذلك، فإنهم يواجهون بعد مدة بين شعوبهم من يقف في وجوههم، فيحاولون التراجع وتصحيح الخطأ.
٤ ـ هذا يعني أن القوى الاستعمارية الغاشمة تبحث باستمرار عن الدول الهشة والشعوب الرخوة من أجل غزوها والنجاح في السيطرة عليها، أي أن ضعف المستعمَرين هو الذي يغري المستعمِرين بالعدوان والتسلط والاجتياح، وهذا ما سمّاه مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ (القابلية للاستعمار) . هذا يعني أن على كل الأمم المستعمَرة والمغلوبة على أمرها أن تفكر في الأسباب الداخلية التي شجعت الآخرين على العدوان عليها، وأن توجِّه التهمة إلى نفسها؛ حيث إن من الثابت أن الاستعمار أشبه بالجراثيم التي تغزو الجروح المفتوحة، وبمثابة السوس الذي ينخر الأسنان، وأنه يقوم بعمل اصطفائي واضح؛ فالأجزاء التي لا يصل إليها السِّواك أو فرشاة الأسنان، هي التي تصاب بالتسوُّس.
٥ ـ الناس لا يحبون التفكير بهذه الطريقة؛ لأنهم لا يريدون تحمُّل أي قسط من مسؤولية استعمار بلادهم، إنهم يتحدثون فقط عن العدوان والمعتدين من أجل تحميلهم كل المصائب التي نزلت بساحتهم، وهذا اللون من التفكير غير قويم؛ فالواقع يشهد بأن لدينا دولاً عربية لم تطأها قدم مستعمر، كما أنَّ لدينا دولاً عربية أيضاً استعمرها الأجنبي ما يزيد على قرن من الزمان، والعجيب أن الدول التي استُعمرت أكثر تقدماً وازدهاراً، وأفضل اقتصاداً من الدول التي لم تُستعمَر!
وهذا كله يعني أن ويلات الشعوب ومآسيها، لا تعود دائماً إلى تخريب المستعمرين؛ فهناك القصور الذاتي والتحلل الداخلي، وهناك المستعمِرون المحليون!
٦ ـ كثير من الشعوب يُستَعمر، لا لأنَّه ليس قادراً على المقاومة؛ فشيء من الاستبسال وردّ كيد العدو ممكن دائماً؛ ولكن لأنه يعيش في حالة من القهر والذل والاستبداد وسلب الحقوق، أو في حالة من الفقر والبؤس واليأس، وهذا يجعل الناس لا يشعرون بأنَّ الاستعمار سوف يسلبهم شيئاً عزيزاً، أو ينغِّص عليهم عيشاً هانئاً، وقد قال أحدهم معبراً عن هذا المعنى: «لماذا أدافع عن وطن لم يؤمِّنِّي من خوف، ولم يطعمني من جوع؟» ! بل إن بعض الشعوب المقهورة من أبناء جلدتها تغبط بعض الشعوب المستعمَرة؛ لأن لدى المستعمِر من الرحمة والتحضر ما لم يجدوه عند بني قومهم! هذا كله يعني أن الأمم تفقد روح المقاومة بسبب سوء أوضاعها الداخلية، أي أنَّ قوة المستعمِر لا تكون وحدها كافية لإتمام عملية الاستعمار.
٧ ـ يحاول المستعمر دائماً أن يدجِّن الحسَّ الوطني لدى الذين يقوم باستعمارهم، وذلك من خلال إعطاء فئة منهم امتيازات وسُلطات كبيرة، ومن خلال استخدام فئة أخرى عملاء وجواسيس وأعواناً له على باقي أبناء الشعب، ومع الأيام ترتبط مصالحهم بمصالح المستعمِر، ويصبحون راغبين في بقائه. وقد لاحظ أحد الباحثين هذا حين ذكر أن نفوذ المستعمِر يزيد في العادة بعد خروجه من البلاد المستعمَرة، حيث تذهب جذوة المقاومة، ويأتي دور النفوذ الروحي والثقافي، وهذا واضح؛ فأبناء الشعوب التي استُعمرت من قِبَل الفرنسيين ما زالوا مرتبطين بفرنسا إلى اليوم، فهم يتعلمون لغتها بوصفها لغة ثانية، ويرسلون البعثات إليها، ويقضون إجازاتهم السنوية فيها، ويستوردون منها كثيراً من احتياجاتهم.
٨ ـ يؤكد القرآن الكريم على نحو لا لبس فيه، على محورية العوامل الداخلية وهامشية العوامل الخارجية في عدد من الآيات الكريمة، منها قول الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: ١٦٥] .
وقوله ـ سبحانه ـ: {إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: ١٢٠] .
إنَّ الانحراف والظلم والبغي والفساد الإداري والكسل والفوضى والأنانية وسوء فهم الواقع ... هي الجنود الغازية التي تدمر المجتمعات من داخلها، وإن إصلاح أوضاعنا الداخلية، هو الذي يقلِّل من فرص هيمنة الأمم القومية علينا؛ ولا يصح لعاقل أن يتجاهل هذه الحقائق.
(٢ - ٢)