للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم]

حسن الرشيدي

«إذا انتظرنا إلى أن يتحقق التهديد فسننتظر طويلاً» .

هذا قول بوش أمام البرلمان الألماني يستعجل إطلاق ما أسماه باستراتيجية

الضربات الوقائية، وهي استراتيجية جديدة تحاول الولايات المتحدة أن تتبناها

لتحقق بها مزيداً من التوسع والهيمنة في العالم.

هذه النزعة ازدادت ضراوة مع وصول بوش الابن للإدارة، ولكنها بدأت

تتبلور مع نهاية الحرب الباردة عندما راحت تتفشى طروحات الهيمنة المكشوفة

والاعتماد على القوة المتفوقة كواحدة من أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية،

ولم يخف الرئيس بوش وطاقمه في الإدارة منذ البداية نزوعه إلى احتضان هذا

التوجه، بل انتماءه لهذا الخندق حين سارع لرفع لواء التفرد والتفوق باعتبارهما

حقاً وامتيازاً خاصين بالولايات المتحدة لكونها القوة العظمى الوحيدة على الساحة

الدولية، وتجلى ذلك في رفض واشنطن الانضمام لعديد من الاتفاقيات الدولية، أو

الانسحاب من عدد منها.

ولذلك فإن فهم هذه التغيرات في السلوك الأمريكي في العالم والتغيرات التي

تطرأ على استراتيجيات توجيه الدفة العالمية مهم لاستيعاب الحقائق والأحداث

السياسية استيعاباً شاملاً عميقاً ومعرفة إلى أي الاتجاهات تتمدد.

ولعل التهديدات الأمريكية بضرب العراق هي خير تطبيق لتلك الاستراتيجية

الجديدة؛ ولذلك يلزم المتابع لما سيجري في العراق بل ما يتم التخطيط له بالنسبة

لهذه المنطقة في العالم الإلمام بهذه الاستراتيجية.

ولإدراك أبعاد هذه الاستراتيجية لا بد من اتباع منهج تحليلي يضع في حسبانه

عدة محاور:

أولاً: معنى الاستراتيجية.

ثانياً: الاستراتيجيات الأمريكية قبل بروز الاستراتيجية الجديدة لمعرفة مدى

التطور في الفكر الاستراتيجي الأمريكي.

ثالثاً: معنى استراتيجية الضربات الوقائية، ومتى بدأت الإدارة الأمريكية في

تبنيها، والظروف المصاحبة لانطلاقها، وأثرها على الموقف الدولي.

* الاستراتيجية:

وإذا كانت الاستراتيجية تتمثل في التعرّف على أفضل طريقة لبلوغ الهدف

والتوصّل إلى أنجع طريق يؤدي إليه في أحسن الظروف الممكنة من خلال استغلال

نقاط القوة والتغلّب على مناطق الضعف فإنّها أيضاً تتطلّب القيام بخيارات حول

أقوى الأفكار التي ستمثل المحور الأساسي للجهود التي ستخضع إليها الأهداف

والوسائل والأولويات.

بينما يجري تعريف الاستراتيجية في أدبيات كثيرة على أنها فن توظيف

عناصر القوة للأمة أو الأمم لتحقيق أهداف الأمة أو التحالف في السلم والحرب،

وهو أيضاً فن القيادة العسكرية في ساحة المعركة، ومن هنا نجد الربط بين

الاستراتيجية وقوة الدفاع.

وفي تعريف لمركز الدراسات الاستراتيجية ومقره جنيف ينظر للاستراتيجية

على أنها نظرة عمل لتصميم وبناء حاضر يتيح إنجاز أهداف في المستقبل؛ بمعنى

أنها تستوعب مستقبلها فتشرع إليه من حاضرها؛ فهي عملية إيجاد معطيات للواقع

وهنا بالذات تظهر الحاجة إلى التحليل والتأمل وملاحقة الظواهر وإخضاعها للربط

المتفاعل وليس الربط المجزأ والآلي.

ولذلك فإن الاستراتيجية تعنى بحقيقتين جديدتين هما: الأهداف المتوخاة،

والقدرة.

* استراتيجية الصراع:

وهي تعني أيضاً أن أفضل تصرف يقوم به طرف مشارك في صراع ما كان

مبنياً على تصرفات الطرف الآخر؛ فهي تركز على أن تصرفات طرف إنما يبنيها

على توقعاته وتنبؤاته لما ستكون عليه تصرفات الطرف الآخر، وبناء على تلك

التنبؤات يصوغ استراتيجيته ويحدد تصرفاته ويتخذ قراراته من أجل التأثير في

تصرفات وقرارات الخصم؛ فجوهر الاستراتيجية إذن يقوم على التأثير في قرارات

الخصم وخياراته؛ وتحقيق ذلك إنما يتم بالتأثير في توقعاته لما ستكون عليه

قراراتنا أي قرارات الطرف الأول؛ وذلك بمواجهته بدليل مقنع بأن سلوكنا سيقرر

في ضوء سلوكه؛ وعناصر الاستراتيجية بناء على ذلك التعريف هي فهم المسألة

موضوع الصراع وتحديد أطرافها ومحاولة إدراك مصالح كل طرف.

* الاستراتيجيات الأمريكية قبل الحرب الباردة:

وبناء على تلك التعريفات السابقة فقد كانت الاستراتيجية الأميركية قبل عام

١٩٤٧م لا تستند إلى أسس ثابتة، وكانت مزيجاً من الخطط العسكرية التي دافعت

عن فكرة إقامة دولة فيدرالية تلم الولايات المشكِّلة لها تحت جناح دستور وهيكل،

ودخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية خلواً من أية استراتيجيات سوى الانضمام إلى

ركب الدول الكبيرة، فاشتركت في الأحلاف التي قامت ضد المعسكر النازي آنذاك؛

فمبادئ مثل القدر المرموق أو المصلحة الذاتية المستنيرة، ومبدأ منرو وخطاب

مسيرة الراية ومبدأ الحرب العادلة فهذه المسميات أقرب إلى فكر متعمق في الوجدان

الأمريكي كميراث عن الآباء المؤسسين أكثر من اعتباره فكراً استراتيجياً مؤسسياً

سياسياً.

* الاستراتيجيات الأمريكية في الحرب الباردة:

ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة في وضع

الانفراد بالهيمنة على العالم كهدف نهائي تسعى إليه، ومن خلاله توجه

استراتيجياتها الدولية، فقدم جورج كينان عام ١٩٤٧م أولى هذه الاستراتيجيات التي

تركزت على نظرية الاحتواء.

وأهم أسس هذه الاستراتيجية كانت مواجهة ما وصفه صانعو السياسة

الأميركية بالتهديد الذي كان الاتحاد السوفييتي العامل الأهم والعدو الأخطر بالنسبة

لراسمي أسس هذه الاستراتيجية.

وقد سادت استراتيجية الاحتواء في السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية،

وعدت الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية في حقبة الحرب الباردة، وقد تعاملت هذه

الاستراتيجية مع العالم في حقبة ثنائية الأقطاب: الولايات المتحدة وحلفائها ضد

الاتحاد السوفييتي وحلفائه، وكانت تهدف لمنع الاتحاد السوفييتي من توسيع مدى

تأثيره ليس فقط في نطاق الولايات المتحدة وحلفائها، وإنما أيضاً في نطاق الدول

غير الحليفة معها أيضاً، ولدعم هذه الاستراتيجية أوكلت الولايات المتحدة للقوات

العسكرية وقف التوسع الشيوعي في كوريا وفيتنام، وتحت هذه الاستراتيجية

واجهت الولايات المتحدة قيادات التمرد الشيوعي في عدد من دول العالم المتطورة،

كما دعمت المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الجيش السوفييتي الذي احتل أفغانستان

في الثمانينيات، ونجد في تعريف السياسيين الأميركيين لهذه النظرية أن السياسة

الخارجية ارتبطت بالاستراتيجية الأميركية في تحقيق هدف واحد هو القضاء على

المد الشيوعي، ولكن المد الشيوعي بحد ذاته كان هدفاً فرعياً؛ لأن الهدف الحقيقي

للاستراتيجية الأمريكية كان الحفاظ على مصالحها في بقاع العالم المختلفة، وليس

غريباً أن نجد صناع السياسة الأميركية يضعون على جدران مكاتبهم خرائط تضم

أكثر من أربعين بلداً تمثل المصالح الأميركية مثلما تمثل ما أسمته الولايات بمناطق

الديون القومية بمعنى المناطق التي التزمت تجاهها أمريكا بالدفاع عنها دفاعاً عن

مصالحها هي.

سعى الرؤساء الأميركيون وفق هذه الاستراتيجية إلى إيجاد تحالفات

استراتيجية لضمان تحقيق المصالح الأمريكية بعيداً عن سياسة الحروب وسباقات

التسلح، وسعت الولايات المتحدة منذ الخمسينيات لوضع سياسة قومية متماسكة،

تماشياً مع مبدأ ترومان إلى توضيح استراتيجية الاحتواء والاعتراف بالحرب الباردة

كوضع من أوضاع العلاقات الدولية، وقام أيزنهاور بتحديد تلك الاستراتيجية،

واعترفت الإدارة الأميركية منذ كيندي حتى جونسون بالاستراتيجية الاندفاعية التي

هدفت للتوازن النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهو مبدأ نيكسون

الذي تابع الرئيس فورد الالتزام به في التفاوض مع الخصوم المحتملين، وطرح

مبدأ الشراكة مع الأصدقاء والحلفاء.

ثاني هذه الاستراتيجيات التي وظفتها الولايات المتحدة في حربها الباردة كانت

استراتيجية الردع التي سادت لفترة طويلة منطق الفعل السياسي الأميركي؛ وعليها

بنيت الترسانة الضخمة التي جاءت نتيجة للحرب الباردة وسباق التسلح النووي.

واستراتيجية الردع تعتمد على منطق الرد بهجوم مدمر على فعل عسكري

نووي يهدف للتدمير، ووفق ويدي وولت الخبير الاستراتيجي الأمريكي فإن

استراتيجية الردع هي ركوب الموجة إذ يقول: عندما تواجه تهديداً خارجياً كبيراً

فإن الدول إما أن توازن موقفها أو تركب الموجة، ويعني بركوب الموجة الانحياز

إلى مصدر الخطر.

وهناك مصطلح آخر يندرج تحت مفهوم الردع هو الإكراه، ويعرفه بول

هاث وبروس راسيت بأنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي

القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب الدولة الأولى.

أما الإكراه فيعرفه جاك ليفي بأنه استخدام التهديدات لحث الخصم على فعل

شيء، أو التوقف عن فعل شيء، وليس الامتناع عن فعل شيء لم يقم به بعد،

وهو بذلك يدرج مفهوم الإكراه داخل استراتيجية الاحتواء.

طورت أمريكا فكرة استخدام الاستراتيجية العسكرية للتدمير الذي قد يصيبها

جراء معارض أو معاد لهذه الأهداف، وافترضت قدرةً لإحداث إصابات ودمار

صناعي ترد على أي هجوم نووي استراتيجي، وهي فكرة نشأت في الستينيات،

وأخذت فيما بعد صيغة الردع أو استراتيجية الردع التي سادت المنطق الاستراتيجي

الأميركي لعقود مضت وستبقى سائدة لعقود قادمة.

ولا يعني حديثنا عن هذه الاستراتيجيات بأنها كانت في أيام الحرب الباردة

أنها أصبحت الآن بعد انتهاء الحرب الباردة في طي النسيان، ولكنها لا زالت في

خدمة المصالح بالإضافة إلى الاستراتيجية الجديدة وهي الضربات الوقائية.

* النظرية الأمريكية الجديدة في المنطقة (الضربات الوقائية) :

ثمة تعريفات عدة لمفهوم الضربات الوقائية أو الحروب الاستباقية تبعاً للدولة

التي تستخدمها في إطار سياساتها العامة.

والثابت أن الضربات الوقائية ليست جديدة في الفكر الاستراتيجي العالمي،

ولها تطبيقاتها القديمة والحديثة على السواء، والعدوان الإسرائيلي على ثلاث دول

عربية في يونيو ١٩٦٧م فسر إسرائيلياً بأنه ضربة وقائية لإجهاض المخططات

العربية في إنهاء وجود الدولة العبرية.

كما أن ما يحدث حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة على يد قوات

الاحتلال، أياً كان الاسم الذي تحمله، كالسور الواقي أو الطريق الحازم أو

الاغتيالات المنهجية أو عمليات الإحباط المسبق، كلها تعبر عن استراتيجية

الضرب والعدوان المسبق على الخصم بهدف إنهاكه والسيطرة على حركته التامة.

وفي أثناء الأزمة التي هددت بحرب نووية بين الهند وباكستان في الفترة

الماضية تعالت أصوات هندية كثيرة باتباع أسلوب الضربات الوقائية ضد ما

يعتبرونه معسكرات للإرهاب الكشميري، وتغيير الوقائع على الأرض حتى لا

تستفيد منها باكستان أو القوى المتحالفة معها.

ولكن في الولايات المتحدة يحدد مفهوم الضربة الوقائية بأنه ذلك النوع من

النشاطات العسكرية الهادفة إلى تحديد وتحييد أو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي

يمتلكها الآخرون قبل ان يتمكنوا من استخدامها.

ويصف الأميركيون أنصار هذا المفهوم الحرب التي يبشّر بها هذا التعبير

بأنها دفاع وقائي أو ردع متمدد لكن خصومه يقولون إنه مجرد نسخة جديدة من

ديبلوماسية البوارج الحربية.

وتقول كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي في تعريفها لهذه

الاستراتيجية الجديدة هي استباق فعل التدمير الذي يمكن أن يقوم به عدو ضدك.

وفي موسوعة نيوستاندرد الأميركية يحال التعبير إلى بند حق امتلاك

الأراضي بوضع اليد في التاريخ الأميركي وهو ما يرد أيضاً في قاموس المورد

لمنير بعلبكي، حيث يعني حق الشفعة أي حق الأولوية في الشراء أو الاستيلاء

على شيء واحتلاله قبل الآخرين.

* متى بدأت صياغة هذه الاستراتيجية الجديدة؟

قبل عام من الآن أطلق برنامج الأمن العالمي الذي أنشأ ضمن مركز الدراسات

الاستراتيجية في واشنطن، حيث ركزت مجموعتان من الدراسات والأبحاث على

السبل الكفيلة بتحقيق ضمانات ضد التهديد عبر الحدود الذي أكد عليه مراراً الرئيس

الأميركي جورج بوش منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض.

وضعت هذه الدراسات ما سمي بالاستراتيجية الجديدة التي لم نسمع عنها إلا

بعد اندلاع ما يسمى حرب الإرهاب رغم أن هذه الدراسات أنجزت قبل أحداث

سبتمبر، واستندت أهداف هذه الاستراتيجية بشكل رئيسي إلى ما جاء في تقرير

جورج تينيت رئيس المخابرات الأميركية السابق لسنة ٢٠٠٠م؛ حيث حدد بشكل

رئيسي مصادر القلق الأميركي الذي مثله مفهوم فضفاض له اليوم وعنوان كبير هو

الإرهاب؛ فالدراسات حددت مصادر الخطر ضد أميركا بالإرهاب، انتشار أسلحة

الدمار الشامل، تراجع دعم الحلفاء، وتطور القدرات القتالية لدى دول كثيرة ومنها

من تطمح لدخول النادي النووي، وكما نرى هي ليست جديدة قدر كونها أخرجت

من جعبة الجمهوريين لبناء سياسة لمن ليس لديه سياسة واضحة.

وقالت صحيفة واشنطن بوست في ١٠/٦/٢٠٠٢م، إن إدارة الرئيس

الأميركي جورج بوش تصيغ سياسة عسكرية رسمية تتبنى مبدأ الضربات الوقائية

ضد من تصفهم بالإرهابيين والدول المعادية لواشنطن التي تملك أسلحة دمار شامل.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين بارزين في الإدارة قولهم إن المبدأ الاستراتيجي

الجديد يبعد كثيراً عن سياسة حقبة الحرب الباردة التي قامت على الردع والاحتواء

وسيكون جزءاً من أول استراتيجية للأمن القومي تضعها إدارة بوش التي من

المتوقع أن تنشر تفاصيلها في وثيقة خلال الخريف المقبل.

وقال أحد المسؤولين في تصريحات للصحيفة إن الوثيقة الرسمية ستضيف

ولأول مرة تعبيرات الوقائي والتدخل الدفاعي كخيارات رسمية لضرب دول معادية

أو جماعات تبدو عازمة على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين يضعون الخطوط الرئيسية للاستراتيجية

الجديدة قولهم: إن الولايات المتحدة اضطرت للذهاب إلى أبعد من الردع بعد

هجمات ١١ سبتمبر نظراً للمخاطر التي تشكلها الجماعات الإرهابية والدول المعادية

التي تؤيدها، وقال مسؤول رفيع إن طبيعة العدو تغيرت، وطبيعة المخاطر تغيرت؛

ولذلك يجب أن يختلف الرد.

وكان الرئيس بوش قد طرح فكرة الضربة الوقائية أمام البرلمان الألماني في

مايو أيار الماضي، ثم تحدث عنها بشكل موسع عندما تحدث عن التوجه

الاستراتيجي الأميركي في خطاب ألقاه بالأكاديمية العسكرية الأمريكية أول شهر

يونية بمناسبة تخرج دفعة من طلبتها، قائلاً إن قادة المستقبل العسكريين الأمريكيين

يجب أن يكونوا مستعدين لتوجيه ضربات وقائية في الحرب على الإرهاب وللتعامل

مع تحذيرات غير مسبوقة من إمكانية حدوث هجمات كيماوية أو بيولوجية أو نووية

من الإرهابيين والطغاة، وإذا ما انتظرنا حتى يتحول التهديد إلى أمر واقع،

فسنكون قد انتظرنا طويلاً؛ إذ علينا أن نحول المعركة إلى الخصم، نشوش عليه

خططه ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تبزغ.

وشهد البنتاجون في شهر يونيه ٢٠٠٢م مناقشات مطولة حول مبدأ جديد

للسياسة الخارجية واستراتيجية الولايات المتحدة في العالم يبنى على تصور أن

العدو الجديد هو الإرهاب الذي ضرب في نيويورك وواشنطن في سبتمبر ٢٠٠١م

بديلاً عن العدو القديم الاتحاد السوفييتي السابق والذي بنيت السياسة الخارجية طوال

سنوات الصراع والمواجهة معه.

أما المبدأ الجديد الذي تجري مناقشته داخل الهياكل السياسية الأمريكية فيقوم

أساساً على ضرب العدو الجديد بما يسمى الضربات الوقائية والتدخل الدفاعي، ولما

كان العدو وهو الإرهاب ليس دولاً أو كيانات قائمة على أرض لها عنوان معروف

فهو يوسع من دائرة الأهداف التي يرمي إلى توجيه ضرباته الوقائية وتدخله الدفاعي

ضدها لتشمل ما يقرر أنه دول ترعى الإرهاب وتحوز أسلحة نووية وكيميائية

وبيولوجية.

وهو بذلك لا يضع على الجانب الآخر من خط المواجهة الذي يريد أن يقيمه

أطرافاً معادية للولايات المتحدة، ولم يحدث أن قامت بأعمال إرهابية ضدها أو حتى

تربطها أي صلة بمنظمات الإرهاب التي هاجمت نيويورك وواشنطن، لكنه يدرج

على هذا الجانب من خط المواجهة كل من يقدر أنهم يمكن ولو فرضاً أن يشكلوا

مستقبلاً تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، فيستهدفهم بما يسميه الضربات

الوقائية أي أن تتم قبل أن يكون قد حدث من جانبهم تهديد فعلي للأمن الأمريكي.

وهذا المبدأ قد يمثل تطويراً أو ربما تأكيداً للفكرة التي سبق أن شرحها أمام

الكونجرس في فبراير الماضي جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية عن

العدو المحتمل أي الجهات والمنظمات التي لم يظهر عليها اتجاهات للقيام بأعمال

إرهابية أو عدائية للولايات المتحدة؛ لكن قد يحدث في المستقبل أن تؤثر فيها سلباً

إجراءات أو سياسات أمريكية مما يحول توجهاتها لاحقاً ضد الولايات المتحدة.

ولما كان هذا المبدأ له آثاره الخطيرة، وأنه يصطنع أعداء من قبيل التقدير

وليس اليقين على أساس أن هناك عدواً مؤكداً فإن المناقشات في البنتاجون ما زالت

تجري بين مؤيدين ومعارضين لهذه الاستراتيجية.

وأوضح وزير الخارجية الأميركي باول في لقاء مع مجموعة من الصحفيين

الاستراتيجية الجديدة لإدارة بوش القائمة على توجيه ضربات وقائية على إرهابيين

ومنظمات إرهابية ودول معادية للولايات المتحدة، ربما تشمل ضغوطاً مالية

واقتصادية وسياسية، لكنه شدد على أن القوة إذا استخدمت فإنها ستكون حاسمة،

كما أكد على أهمية إقناع العالم بضرورة اللجوء إلى القوة بتقديم المعلومات اللازمة.

وأشار باول في ذلك اللقاء إلى الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي

العراقي في عام ١٩٨١م، كمثال للاستراتيجية الوقائية.

وقال رامسفيلد في ١٩/٦: ليس صحيحاً أن البنتاغون بات على وشك توجيه

ضربات وقائية؛ معترفاً بالمقابل أن مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض يقومان

بإعادة صياغة الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة. وأضاف: «يمكنكم أن

تسموا ذلك دفاعاً، وهو ما أقوم به، أو وقاية، مضيفاً في الوقت نفسه أن

للأمريكيين الحق في الذهاب لضرب مصدر الإرهابيين مثل القاعدة حين يعلمون

أنهم يتآمرون لقتل مدنيين أبرياء، ولهذا السبب اتخذت الولايات المتحدة القرار

الصائب بشنّ حملة عسكرية ضد دولة متورطة بالإرهاب وتهدد الأمن الأمريكي

وهي أفغانستان» .

ومن ضمن عناصر هذه الاستراتيجية الجديدة قضية إقامة الدرع الدفاعية

الصاروخية التي كانت وما زالت الهاجس الذي يؤرق بوش ويعده إنجازه الذي يجب

ان يتم قبل رحيله، وما زاد سوى أن أمريكا نجحت في إيجاد مسوِّغ لإقامته بعد أن

رفض العالم ذلك وأضافت إليه عنصر الرعب من احتمالات كثيرة قد تحدث وقد لا

تحدث.

وفي شهر يونية (حزيران) الماضي أقر الكونغرس الأميركي هذه

الاستراتيجية، ويرمي بها تأمين تغطية مسبقة لأي عملية عسكرية أميركية خارج

الولايات المتحدة بحجة تأمين وقاية مسبقة للمصالح الأميركية، وعدم تعريض

الولايات المتحدة لخطر وقوع هجمات مماثلة لتلك التي وقعت في ١١ سبتمبر

الماضي.

وقال عضوان جمهوريان بارزان في مجلس الشيوخ الأمريكي إن الرئيس

جورج بوش باستطاعته تسويغ توجيه ضربة إجهاضية إلى العراق، وهو ما فسّره

المراقبون بأنه موقف يمثل اختلافاً عن الدعوات المتزايدة من كثير من المشرعين

الأمريكيين مؤخراً بمن فيهم أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه بوش.

وقال ريتشارد لوجار وفريد تومبسون عضوا مجلس الشيوخ إن بوش لديه

بالفعل أسباباً كافية للعمل ضد الرئيس العراقي صدام حسين، واستعان العضوان في

تأكيد رأيهما بأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي التي تعرضت لها

الولايات المتحدة.

وأوضح لوجار عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إنديانا أنها أسلحة للدمار

الشامل في يد طاغية يمكن أن يستخدمها.

وكان ديك آرمي رئيس الأغلبية من الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي

قد أثار عاصفة عندما انشقّ عن صف بوش بقوله إن الولايات المتحدة ليس من

شأنها شن هجوم على العراق دون سبب كافٍ، وقد انضم كارل لفين عضو مجلس

الشيوخ عن الحزب الديمقراطي ورئيس لجنة القوات المسلحة فيه إلى آرمي

باعتراضه على شنّ هجوم على العراق بغير مسوغ وبقوله لمحطة إن. بي. سي

التلفزيونية إن صدام لا يشكل خطراً كبيراً على الولايات المتحدة.

لكن لوجار الذي يحتل مكاناً بارزاً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ

قال إن بوش بوسعه إيجاد المسوغ لضرب العراق على الرغم من أن الإدارة

الأمريكية لم تتوصل إلى هذا بعد، وأضاف في مقابلة مع محطة سي. بي. إس

التلفزيونية يتعين على الرئيس أن يتخذ حجة في هذه الحالة بالتحديد بأن انتظار

حدوث استفزاز يُعدّ بمثابة دعوة لكارثة هائلة، مشيراً إلى أن هناك معلومات كافية

عن القدرات الكيماوية والبيولوجية للعراق بما يسوغ إطاحة طاغية بوسعه استخدامها

.. قبل أن تستخدم.. وتخميني أن هذا هو السبب الذي ستستند إليه الحرب في نهاية

الأمر.

وقالت كاي بيلي هتشنسون وهي من الأعضاء الجمهوريين أيضاً بمجلس

الشيوخ إن بوش أوضح بما يكفي أننا لا نستطيع انتظار أن يطلق صدام سلاحاً

للدمار الشامل على أحد جيرانه أو على قوات أمريكية.. علينا توجيه ضربة وقائية،

مضيفة لمحطة سي. إن. إن التلفزيونية: هذا إجراء يمثل سابقة للولايات

المتحدة في أن تشنّ هجوماً بهدف الدفاع.

وقال تومبسون عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تنيسي وعضو لجنة

المخابرات بالمجلس: إن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على الإرهاب

والتي شنها بوش رداً على الهجمات التي وقعت في نيويورك وواشنطن، وأسفرت

عن مقتل ثلاثة آلاف شخص تتضمن منع مثل تلك الهجمات قبل وقوعها، وأضاف

لمحطة فوكس التلفزيونية: يتعين أن يكون جزء مما نفعله هجومياً، وعندما نعلم أن

هناك شخصاً مثل صدام الذي أظهر قدرته في الماضي على استخدام أي شيء في

حوزته.. نحن نعلم أن لديه أسلحة بيولوجية، ونعلم أن لديه أسلحة كيماوية ونعلم

بغير شك أنه يعمل لتطوير أسلحة نووية.. بعد أن تتوافر لدينا معلومات بأن لديه

القدرة خاصة النووية؛ فعلينا مسؤولية التعامل مع هذا بصورة جدية، ويبدو لي أنه

سيكون علينا في نهاية الأمر أن ندخل العراق، ونفعل شيئاً بهذا الشأن.

وهكذا فوجئ العالم بأن المؤسسة السياسية الأمريكية بشقيها التنفيذي

والتشريعي أصبحت تنظر بمقياس استراتيجي واحد يتمثل في الضربات الوقائية.

ولكن ما الذي حمل أمريكا على اتخاذ تلك الاستراتيجية الجديدة؟

منذ انتهاء الحرب الباردة سادت توقعات كثيرة بأن يدخل الأمن سياق العولمة

بعد العولمة الاقتصادية والتقنية والعولمة في بعدها العسكري والسياسي، وسبب هذا

الاعتقاد أنه لا يوجد نظام اقتصادي محلي أو عالمي يمكن أن يعمل دون حماية قوة

عسكرية وقوة سياسية تقوده ومناخ آمن؛ لذا فإن طرح العنصر الأمني أو ما يعرف

بالضربات الوقائية أصبح ضرورة ليكتمل مشروع العولمة مع أدواته الأخرى

السياسية والعسكرية، التكنولوجية والمعلوماتية، الاقتصادية، والاتصالات.

وجاءت أحداث ١١ سبتمبر واحتشدت جميع الدول تقريباً في العالم لمساندة

أمريكا، ولكن بتراجع التأييد للولايات المتحدة بعد أن خفتت الدعوات للانتقام الذي

قادته الأخيرة ضد ما أسمته بالإرهاب، وحيث أفرزت الحرب ضد الإرهاب في

مرحلتها الأولى آثاراً سياسية خطيرة انعكست على واقع النظام الدولي مخلفة خيبات

أمل على جانبي هذه الحرب، سواء كانت في الجانب الأميركي أم في الجانب

الدولي المقابل.

ويبدو واضحاً أن الأمريكيين لم يحققوا الشيء الكبير الذي شمله إعلانهم هذه

الحرب، فلا هم استطاعوا القضاء على تنظيم القاعدة، ولا هم استطاعوا فرض

الاستقرار في القلب الآسيوي المشتعل والذي كان في الثمانينيات ساحة صراع بينهم

وبين السوفييت ونعني هنا أفغانستان.

ولذلك سعى جورج بوش الرئيس الأميركي بإطلاق ما أسماه بسياسة جديدة

واستراتيجية عسكرية تستند إلى تحرك عسكري وقائي بهدف منع أي تهديد

بالإرهاب أو تدمير الدول الأعداء لأميركا وسياساتها.

وفي حملة دعائية كبيرة هدفت لحرف الانتباه عن القضية الفلسطينية وإعادة

التركيز على حرب أميركا ضد العراق والدول التي أسمتها الولايات المتحدة بالمارقة

تم التسويق لهذه الاستراتيجية الجديدة، ونسبت إلى جورج بوش الرئيس الأميركي

الذي أشار في أكثر من مرة إلى أنه يريد وضع نظام أمني جديد يتناسب مع مكانة

الولايات المتحدة الجديدة وعالمها الجديد بمتغيراته التي تفترض وجود من يهدد الأمة

الأميركية كما يقول بوش.

* أثر هذه الاستراتيجية على الموقف الدولي:

أخطر ما في هذه الاستراتيجية الجديدة أنها استبدلت مفهوم التسوية بمفهوم

القوة، ومفهوم العدالة بمفهوم الحصار، وأباحت لنفسها تدمير الآخر بحجة أنه

يشكل خطراً قد يكون واقعاً وقد لا يكون.

ويمكن للإدارة الأميركية الحالية، أو أي إدارة لاحقة، أن تتذرع بهذه

الاستراتيجية لتوجيه ضربة وقائية ضد أي دولة بحجة أنها تقوم بالتحضير لهجمات

ضد الولايات المتحدة، أو أنها تقوم باحتضان أو إيواء أو تمويل منظمات إرهابية،

أو لمجرد أنها مدرجة على لائحة الإرهاب الاميركي.

وانطلاقاً من استراتيجية الضربات الوقائية، أصبح بمقدور الرئيس الأميركي

توجيه ضربات عسكرية ضد ما تسميه واشنطن بمحور الشر متى يحلو له الأمر،

كما أصبح بمقدور أرييل شارون أن يتحين الفرصة السانحة للمشاركة في

استراتيجية الضربات الوقائية والإفادة منها بهدف توجيه ضربات خاصة به ضد

لبنان وسوريا بغطاء أميركي، وبحجة التهديدات التي تشكلها المنظمات الفلسطينية

ضد أمن إسرائيل.

كما أن هذا المبدأ يعكس تراجعاً عن إحدى أولويات السياسة الخارجية

للولايات المتحدة التي كانت قد استقرت في عهد الرئيس جورج بوش الأب بعد

نهاية الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفييتي عام ١٩٨٩م وتبلورت أكثر في

عهد خلفه كلينتون، وهي اعتبار الاستقرار الإقليمي مصلحة حيوية ومصلحة أمن

قومي للولايات المتحدة، وأن هذا يتحقق عن طريق حل الأزمات والنزاعات

الإقليمية بينما من شأن تطبيق هذا المبدأ زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتراجع

أولوية حل النزاعات والأزمات؛ لأنه مبدأ يخلق أزمات جديدة من خلال ما يسمى

بالضربات الوقائية، والتدخل الدفاعي، أي أن الاستقرار الإقليمي يتحول من

أولوية عاجلة، إلى هدف مؤجل.

لقد شكل هذا التحول الذي عبر عنه الرئيس بوش تطور مهماً وخطيراً في

الآن ذاته؛ فهو في جانب يعكس حجم التغيير الذي أصاب الفكر الاستراتيجي

الأمريكي بعد هجوم ١١ سبتمبر الدامي، وفي جانب آخر يوضح المدى الذي باتت

الولايات المتحدة مقبلة عليه في علاقاتها الخارجية.

ونتج عن ذلك قبل ذلك منذ أسابيع قليلة ذلك التسريب المتعمد لخبر توقيع

الرئيس بوش أمراً رئاسياً يتيح لوكالة المخابرات الأمريكية العمل في العراق من

أجل إسقاط نظام الحكم فيه، حتى لو وصل الأمر إلى اغتيال الرئيس صدام نفسه.

ومثل هذه الأساليب التدخلية ليست أمراً جديداً في السياسة الأمريكية من

الناحية التاريخية؛ فقد كانت موجودة من قبل، واستخدمت في حالات شهيرة مثل

حالة إيران زمن الرئيس مصدق، وفي تشيلي نهاية السبعينيات، وحالات أخرى

في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

بيد أن الولايات المتحدة نفسها تخلت عنها طواعية في ولاية الرئيس فورد

الذي أصدر أمراً رئاسياً منع الاستخبارات الأمريكية من التدخل لتغيير نظم الحكم

في الدول الأخرى أو اغتيال الزعماء، أو غير ذلك من الأساليب الخفية.

هذه النقلة ستجبر المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأميركية على تنفيذ

تبدلات واسعة في تركيبتهما وسياساتهما وذلك على مستويين:

الأول: مستوى المفاهيم حيث سيتطلب الأمر تغيير العقلية العسكرية

الأميركية التي تعتبر الهجمات المفاجئة عملية غير مشرّفة.

والثاني: مستوى العتاد؛ لأن الهجمات الوقائية تحتاج إلى أنواع جديدة من

الأسلحة لجعل القوات الأمريكية أكثر مرونة في الحركة وأكثر قدرة على الفتك

السريع.

وبدأ البنتاغون بالفعل وضع الدراسات حول كيفية شن حروب من دون إنذار

مسبق تتجاوز بكثير مفهوم الغارات الجوية السريعة، وتعطي دوراً كبيراً للقوات

الخاصة الأمريكية وحتى للمارينز والوحدات البرية.

وعلى رغم أن المبدأ يضع استخدام الأسلحة النووية في آخر سلم أولوياته،

إلا أنه لا يستبعدها تماماً بصفتها فكرة لا يمكن التفكير بها؛ إذ يمكن للقوات

الأميركية كخيار أخير أن تستعمل أسلحة نووية تكتيكية محدودة القوة الحرارية

لضرب مخابئ ومستودعات الأسلحة البيولوجية والصاروخية.

والأهم من هذا وذاك أن الاستراتيجية الجديدة ستلغي مفهوم شن حربين

إقليميتين في وقت واحد على نمط حرب الخليج الثانية لمصلحة مفهوم أوسع بكثير:

القدرة على الحركة العسكرية في ٦٠ دولة في آن وإن كان ذلك بمستويات منخفضة

الوتيرة.

وهذا لا يعني فقط العراق الذي سيكون حتماً الهدف الأول لها أيضاً، ولا

احتمال استهداف أهداف أخرى في بعض الدول العربية التي تمتلك برامج أسلحة

دمار شامل، بل أولاً وأساساً عن احتمال حدوث تطابق كامل بين التوجهات

الاستراتيجية الأميركية الجديدة، والتوجهات الإسرائيلية القديمة المتعلقة بمبدأ

الهجوم الوقائي. وهذا التطابق قد يحدث لسببين:

الأول: أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تستند منذ ٥٠ عاماً، ولا تزال، إلى

فكرة الحرب الاستباقية أو الوقائية، وهي طوّرت من أجل هذا الغرض سلسلة

طويلة من قواعد العمل، وأنماط الأسلحة، وغرف التخطيط التي يمكن أن تفيد منها

للغاية المؤسسة العسكرية الأميركية.

والثاني: أن معظم الحروب الوقائية الأميركية الجديدة ستحدث على الغالب

على امتداد الرقعة الجغرافية الشرق أوسطية؛ وهنا سيكون دور إسرائيل كبيراً،

إما في شكل حروب وقائية تقوم بها هي نفسها لمصلحة واشنطن، وإما في صيغة

حروب، عسكرية أو استخبارية مشتركة مع الولايات المتحدة.

وهكذا نرى الفروق بين الاستراتيجيات الأمريكية قبل ١١ سبتمبر وما بعده،

فاستراتيجية الاحتواء كانت تقوم على أساس التعايش مع الخطر النووي للاتحاد

السوفييتي السابق والعمل على منع توسيع دائرته.

أما استراتيجية الردع فكانت تتركز في ترتيب الدفاعات الأمريكية للتأكيد على

الرد الأمريكي الساحق المدمر، ومن ثم منع الخصم من الإقدام على أي عمل معاد.

أما استراتيجية الضربات أو الهجمات الوقائية فهي تعطي الولايات المتحدة

حق العدوان تحت زعم أو غطاء الدفاع عن النفس.

ولكن ما موقف المسلمين إزاء هذه الاستراتيجيات التي يجري نسجها في العلن

وليس في الخفاء؟ وما هي استراتيجيتهم الوقائية لمواجهة الضربات الوقائية

الأمريكية؟ ... لا شك أن هذا هو التحدي الأخطر؛ فماذا أعددنا له؟