عندما يستبدل الإسلاميون بوصلتهم العقائدية بأخرى سياسية، فإن الاتجاهات والمواقف تتبدل على الفور، ليصبح الصديق عدواً والعدو صديقاً، وهذا الأمر لا يتضح في مكان كما يتضح في السودان.
في نهاية التسعينيات وعندما بدأت الإشاعات والأقاويل تتسرب عن الخلاف بين الرئيس السوداني عمر البشير والزعيم الإسلامي حسن الترابي، كان الطرفان يحرصان على الظهور معاً أمام وسائل الإعلام للتأكيد على عمق الروابط الأخوية، وفي لقطات طريفة كانا يرقصان سوياً بالعصي على الطريقة السودانية، وهو ما اعتبره وقتها بعض المراقبين ذوي النظرات القاتمة مؤشراً على معارك «تحطيب» أو كسر عظام قادمة.
كان العدو الأول لجناحي الإنقاذ المنفصلين هو الحركة الشعبية التي يتزعمها جون جارانج، وكانت الحرب لا تزال مستعرة، لكن في سنوات قليلة تلاشت العداوة وتبدلت البوصلة، وأصبح جون جارانج نائباً للرئيس، والترابي غائباً في السجن، ومن المفارقات التزامن المعبر بين خروج الترابي من سجنه قبل شهر وخروج النائب الثاني علي عثمان طه من منزله في الخرطوم تاركاً إياه مؤقتاً على سبيل الضيافة للنائب الثاني جون جارانج.
وعلى الجانب الآخر لم يتوانَ الدكتور الترابي بعد خروجه عن شن هجمة شرسة على المؤتمر الوطني الحاكم رافضاً حصوله على نسبة ٥٢% من الحقائب الوزارية، بينما أقر في نفس الوقت أحقية حزب جارانج بنسبة ٣٠%، وقال صراحة:«لا أنتقد تمثيل الجنوب فهم يستحقون؛ لأنهم حُرِموا لفترة طويلة» أما رفاقه الإسلاميون فلا يستحقون.
وما بين عشية وضحاها أصبح جارانج محور التحالفات والأحداث في الخرطوم، وبمجرد أدائه لليمين الدستورية اشتعلت حرب الفتاوى والمصالح بين مختلف الأطراف، ما بين مؤيد للانضمام إلى حزب جارانج باعتباره ممثلاً للسودانيين كافة، وما بين محرِّم للانتماء إلى حزب علماني انفصالي يقوده النصارى.
وفي داخل المؤتمر الوطني لم يكن اتفاق السلام عامل استقرار، بل كان محفزاً للاستقطاب وإعادة ترتيب المواقف؛ فالبقاء على نهج الإنقاذ القديم كان يعني التقوقع سياسياً ودفع الأعضاء المترقبين كي يتحولوا إلى المؤتمر الشعبي للشماليين أو الحركة الشعبية للجنوبيين، كما أن الانفتاح على كافة الأطياف لن يرضي كافة الأطراف، وحتى الآن ليس واضحاً من سيتحول إلى عالم الظلال، ومن سيحظى بجزء من الكعكة التي انتفخت لاستيعاب ٦٤ وزيراً، نصفهم على الأقل بلا وزارة.
يبقى أن المَعْلَم الأكثر وضوحاً هو المهمة المقدسة لجون جارانج وهي: إزالة الأطلال السياسية الإسلامية في السودان، والمهلة المتاحة: ست سنوات حتى انتهاء الفترة الانتقالية التي يستطيع بعدها أن يؤسس مطمئناً دولته في الجنوب، بعد أن يكون قد نقل اتجاهات البوصلة الأربع إلى الشمال المسلم.