للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في ضوء الشريعة الإسلام (٢ ـ ٢)]

د. ناصح بن ناصح المرزوقي البقمي

مدخل:

بيَّن الكاتب في الحلقة الأولى حقيقة العولمة؛ ذلك المصطلح الغامض، وأوضح معانيها المختلفة، وهل المراد أحدها؟ أم أنها هي هي مجتمعة؟ وما أهدافها وآثارها؟

وتحدّث عن سياسات منظمات العولمة الاقتصادية ومحاورها، متناولاً سياسات معالجة

ü المطلب الثالث: سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات:

ميزان المدفوعات هو بيان إحصائي تسجل فيه معاملات الدولة المالية بين المقيمين فيها والمقيمين في غيرها من دول العالم لفترة زمنية معينة تُقدَّر عادةً بسنة.

وينقسم ميزان المدفوعات إلى قسمين رئيسين:

١ ـ الحساب الجاري: ويبين صادرات الدولة ووارداتها من السلع والخدمات، ويشمل ما يلي:

أـ الميزان التجاري: ويبين الصادرات والواردات السلعية، ويسمى حساب التجارة المنظورة.

ب ـ حساب الخدمات: ويبين الخدمات المختلفة من وإلى البلد، كالشحن والسياحة والخدمات المصرفية، ويسمى حساب التجارة غير المنظورة.

ج ـ حساب التحويلات: ويبين تحويلات العاملين، وعوائد الاستثمار، من وإلى البلد.

٢ ـ حساب رأس المال: ويبين تحركات رؤوس الأموال من الدولة وإليها، ويشمل ما يلي:

أـ الاستثمارات والقروض من وإلى البلد.

ب ـ احتياطات الدولة من وسائل الدفع التي تسوى بها التزامات الدولة مع الدول الأخر، مثل: الذهب، والعملات الصعبة، وحقوق السحب الخاصة، من وإلى البلد أيضاً.

وأهم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية المقترحة لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات هي: تخفيض قيمة العملة الوطنية، وتحرير الاستيراد من القيود وفتح الأسواق، وإلغاء الرَّقابة على سوق الصَّرف الأجنبي. وفيما يلي عرض لها بإيجاز:

أولاً: تخفيض قيمة العملة المحلية:

يمكن تعريف قيمة العملة بأنها «مقدار الأشياء عامة التي يمكن مبادلتها بوحدة النقود» .

ويطالب خبراء الصندوق بتخفيض قيمة العملة الوطنية، بدعوى أن الدول النامية تضع لعملاتها أسعاراً مبالغاً فيها، حيث يكون السعر الرسمي للعملة أكبر بكثير من السعر الحقيقي الذي يتحدد بالعلاقة بين متوسط الأسعار الداخلية ومتوسط الأسعار الخارجية لو ترك تحديد السعر للعرض والطلب.

وحجة خبراء الصندوق أن تخفيض قيمة العملة المحلية سيجعل قيمة الوحدة النقدية من العملة المحلية مساوية لعدد أقل من وحدات النقد الأجنبي، فتصبح أسعار صادرات البلد بالنقد الأجنبي رخيصة، مما يزيد من الطلب الخارجي عليها، كما يؤدي إلى زيادة دخول منتجي السلع المصدرة بالنقد المحلي مما يشجعهم على زيادة إنتاجهم، فتزيد بذلك صادرات البلد من ناحية الكمية والقيمة، مما يحسن وضع السيولة النقدية من النقد الأجنبي ويمكِّن البلد من الوفاء بالتزاماته الخارجية. ومن ناحية أخرى فإن تخفيض قيمة العملة المحلية، يعني أن ثمن العملات الأجنبية مقوّمة بالنقد المحلي يصبح مرتفعاً، مما يجعل أسعار الواردات من السلع الأجنبية مرتفعة مقوّمة بالأسعار المحلية، وهذا يقلِّل من الطلب المحلي عليها، فتكون النتيجة النهائية لقرار تخفيض العملة المحلية هي زيادة الصادرات وانخفاض الواردات، مما يعني تضييق الفجوة أو العجز في الميزان التجاري، ومن ثم الحساب الجاري، فيتحسن وضع ميزان المدفوعات.

وهذه النقطة ـ أعني: تخفيض سعر العملة ـ غالباً ما تكون حجر عثرة في وجه المناقشات والمفاوضات بين بعثة الصندوق وحكومة البلد المعني؛ لما لها من خطر كبير على الاقتصاد.

ثانياً: إلغاء الرَّقابة على سوق الصَّرف الأجنبي:

سوق الصَّرف الأجنبي أو سوق النقود كما عرفها البنك الدولي هي: سوق تتداول فيها أوراق مالية قصيرة الأجل، مثل: أذونات الخزانة وهي أدوات الدين قصيرة الأجل التي تصدرها الحكومة من أجل سدِّ العجز في موازنتها، كما تشمل العملات العالمية كالدولار والجنيه الإسترليني. وتفرض الدول النامية رقابة على الصَّرف الأجنبي لما يلي:

١ ـ للاستفادة من العملات الصعبة في دفع فاتورة الاستيراد، وقضاء الديون الخارجية.

٢ ـ تحسين وضع ميزان المدفوعات بالحدِّ من الواردات وبخاصة الواردات الاستهلاكية الكمالية.

٣ ـ حماية الصناعة المحلية وبرامج التنمية المحلية.

٤ ـ المحافظة على استقرار أسعار الصرف، ومنع المضاربة على العملة.

وقد فرضت الدول النامية نظاماً رقابياً على سوق الصرف واشترطت موافقة سلطات الرقابة في الدولة على المعاملات الاقتصادية والمالية مع الدول الأخر، متَّبعة الوسائل التالية:

١ ـ بيع العملات الأجنبية جميعها لسلطات الرقابة، كما يشترى منها المتطلبات من الصَّرف الأجنبي. ويسمح أحياناً لبعض المعاملات أن تجري في السوق الحرة، لكنها معاملات قليلة.

٢ ـ جعل سعر صرف العملة المحلية الرسمي مثبتاً، إلا في حالات المعاملات التي تجري في قطاع السوق الحرة إن وجدت، ويكون السعر الرسمي للعملة المحلية عادة أعلى من سعر السوق.

٣ ـ إلزام المصدّرين ومن يحصلون على عملات أجنبية أو سندات أو أسهم مقوّمة بعملات أجنبية عند بيعها على البنك المركزي بالسعر الرسمي للعملة المحلية.

٤ ـ لا تحوّل رؤوس الأموال المودعة بالمصارف إلا بعد استئذان الجهات المختصة. وتضع الدولة حدوداً للأموال التي يسمح للأفراد حملها معهم عند خروجهم من الدولة، كما تحدد الأموال التي يسمح للأفراد إدخالها معهم.

٥ ـ تدفع الدولة مالاً للمصدّر للمحافظة على سعر الصرف الرسمي دون تغيير، وأما المستورد فيدفع رسماً إلى الدولة للحصول على العملات الأجنبية بالأسعار الرسمية.

٦ ـ الأخذ بسعر الصَّرف المتعدد، ويقصد به تحديد مستويين أو أكثر لأسعار الصرف، يتلاءم كل منهما مع طبيعة النشاط الذي يستعمل فيه. ويهدف هذا النظام إلى تشجيع بعض الأنشطة الاقتصادية والحدّ من أنشطة أخر. فمثلاً: بينما يُفرض سعر صرف مرتفع للعملة لتقليل استيراد الكماليات، يفرض سعر صرف منخفض لتشجيع استيراد المواد الخام والسلع الرأسمالية والغذائية.

ويوصي خبراء الصندوق والبنك بإلغاء الرقابة على الصرف الأجنبي أو تقليصها إلى أدنى الحدود، بحيث يكون تحويل الأموال من وإلى البلد دون قيود؛ مع إيجاد سوق حرة للنقد الأجنبي؛ مما يحقق المزايا التالية:

١ ـ تمويل عجز الموازنة العامة للحكومة بأدوات السوق المفتوحة، دون اللجوء إلى زيادة العرض النقدي الذي يؤدي إلى التضخم.

٢ ـ ممارسة السياسة النقدية من خلال السوق المفتوحة.

٣ ـ تهيئة مرجعية لمعدلات الفائدة.

٤ ـ تهيئة مصادر أموال بالنسبة إلى الشركات والبنوك، وإمكانية إصدار أوراق تجارية قصيرة الأجل.

ثالثاً: تحرير الاستيراد من القيود وفتح الأسواق:

تطالب منظمات العولمة الاقتصادية بتحرير الاستيراد من القيود وخصوصاً بالنسبة إلى القطاع الخاص؛ لأن تلك القيود تعرقل التجارة وتعيق انسيابها على حدِّ زعم خبراء تلك المنظمات. وأهمّ ما تطالب به هذه المنظمات بالنسبة إلى تلك القيود هو إلغاء القيود الكمية، وتخفيض الرسوم الجمركية، وفتح الأسواق. وفيما يلي استعراض لها بإيجاز:

١ ـ إلغاء قيود الاستيراد الكمية:

تفرض الدول النامية قيوداً كمية على الواردات من أجل حماية الصناعة المحلية وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، ومن هذه القيود الكمية ما يلي:

أـ الطلب من المستوردين الحصول على تراخيص لاستيراد السلع.

ب ـ تقييد الاستيراد بكمية معينة وهو ما يسمى بنظام الحصص.

ج ـ منع استيراد بعض السلع منعاً باتاً.

د ـ منع استيراد بعض السلع من مناطق معينة.

وتطالب منظمات العولمة الاقتصادية بإلغاء هذه القيود، وغيرها من القيود المعرقلة للتجارة الدولية.

٢ ـ تخفيض الرسوم الجمركية:

الرسوم الجمركية هي الأموال التي تفرض على السلع المستوردة وتُحصَّل عند دخول تلك السلع إلى موانئ الدولة المستورِدة، فهي رسوم منتقاة تفرض على المبيعات من السلع الأجنبية، وتشبه إلى حدٍّ ما ضرائب الإنتاج التي تقدَّم الحديث عليها. وقد تفرض هذه الرسوم على بعض السلع الصادرة للاحتفاظ بها داخل البلد لحاجة الناس إليها.

ويهدف فرض الرسوم الجمركية إلى تحقيق ما يلي:

أـ حماية الصناعات المحلية وبخاصة حديثة النشأة من المنافسة الخارجية في السوق الداخلي، حيث إن رسوم الواردات تصبح عنصراً من عناصر قيمة السلعة المستوردة فتصبح قيمتها مرتفعة، مما يجعل المستهلك يتحوَّل إلى السلع المحلية مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج المحلي.

ب ـ الحدّ من الاستهلاك وبخاصة استهلاك السلع الكمالية والترفية التي يكون معظمها مستورداً، مما يوفر العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد السلع الضرورية الاستهلاكية منها والرأسمالية.

ج ـ تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات. فإن فرض الرسوم الجمركية على الواردات يكون أداة مهمة في تقييد حجم الواردات؛ مما يخفف من العجز في ميزان المدفوعات، ومن ثم يخفف من استنزاف الموارد الاقتصادية.

د ـ تحقيق موارد للدولة ربما تصل في بعض الدول النامية إلى ثلث موارد الموازنة العامة.

ووجهة نظر خبراء الصندوق بشأن قيود الاستيراد، أن البلدان النامية في محافظتها على نسب جمركية مرتفعة، واتِّباعها لنظام الحصص، بهدف حماية بعض المنتجات في السوق الداخلية من المنافسة الخارجية، تكون قد شجعت الإنتاج في القطاعات غير المربحة التي لا يتوافر للبلد فيها مزايا نسبية. فهذه القطاعات المحمية تحصل على موارد كان يمكن أن تكون ذات فائدة أكبر لو وجهت إلى قطاعات التصدير. إضافة إلى ذلك، فإن القطاعات المشار إليها، تنتج منتجات للسوق الداخلية بأسعار أعلى، يمكن الحصول عليها بأسعار أقل بالاستيراد.

ويتطلب تحرير الاستيراد من القيود ـ في نظر خبراء الصندوق ـ الأخذ بالإجراءات التالية:

أـ توحيد هيكل الرسوم الجمركية وتسهيله، وترشيد منح الإعفاءات الضريبية، وجعل الرسوم على عدد محدد من السلع.

ب ـ فرض حدٍّ أدنى من الرسوم الجمركية على الواردات اللازمة لتنشيط إنتاجية قطاع التصدير، إضافة إلى التخلِّي عن نظام حصص الاستيراد، والتحول التدريجي إلى نظام التراخيص الحرّ، لتخفيف قيود الاستيراد.

ج ـ عدم المبالغة في الرسوم الجمركية على المحاصيل والمنتجات الزراعية الأجنبية.

د ـ عدم المبالغة في سعر الصرف.

٣ ـ فتح الأسواق:

هذا المبدأ هدفت إلى تحقيقه سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وشجعت الدول على الاتجاه نحوه. وعندما أنشئت منظمة التجارة العالمية اهتمت بهذا المبدأ أو الهدف اهتماماً كبيراً، وجعلته محور مبادئها التجارية، على نحو يتكامل وسياسات المنظمتين السابقتين ولا يعارضهما. ويمكن إجمال أهم مبادئ المنظمة وقواعدها في هذا المجال على النحو التالي:

أـ مبدأ الشفافية:

ويقصد به: نشر المعلومات المتعلقة بالاتفاقيات، والقوانين، واللوائح الوطنية، والممارسات الشائعة التي قد تضرّ بالتجارة الدولية. كما تعني الشفافية أيضاً الالتزام بكون الرسوم الجمركية هي الوسيلة الوحيدة للحماية وتقييد الواردات من الدول الأخر، دون اللجوء إلى نظام الحصص الكمية.

فهذا المبدأ يطالب بأهمية اتِّباع البلدان الأعضاء سياسات تجارية تحررية مفتوحة، ولكنه يتيح لها حماية إنتاجها الوطني من المنافسة الأجنبية، بفرض الرسوم الجمركية لكن بمعدلات منخفضة. غير أن هذا المبدأ يخضع لاستثناءات محددة، منها: استثناء البلدان التي تعاني مصاعب في ميزان مدفوعاتها، بالحدِّ من الواردات بغية حماية مركزها المالي الخارجي، باستعمال القيود الكمية على الواردات، إذا كانت هذه القيود ضرورية لتفادي الهبوط الحادّ في احتياطاتها النقدية، أو تواجه تدفّقاً مفاجئاً أو ضخماً من سلع مستوردة معينة، على نحو يلحق ضرراً بالغاً بالمنتجين المحليين لهذه السلع، أو يهدّد بوقوع مثل هذا الضرر. ويشترط أن يتبع هذا الإجراء الوقائي، لحماية الصناعة المحلية التي لا تقدر على المنافسة، لاكتساب هذه القدرة، وإعطائها فرصة لترتيب أوضاعها، دون تمييز بين الدول المتعاقدة، على أن تتعهد الدولة العضو بتخفيف هذه القيود تدريجياً حتى تنتهي تماماً، عندما تزول الأوضاع التي استدعت فرضها، وذلك باتخاذ السياسات الاقتصادية الكلية الكفيلة باستعادة التوازن في ميزان المدفوعات.

ب ـ مبدأ الدولة الأكثر رعاية:

ويقصد به: أن أية ميزة أو معاملة تفضيلية، يمنحها طرف متعاقد لمنتج دولة أخرى متعاقدة أو غير متعاقدة، يجب منحها دون قيد أو شرط، لكل الدول الأخر المتعاقدة في المنظمة. ويستثنى من هذا المبدأ ما يلي:

ـ الترتيبات التجارية الإقليمية: كالاتحادات الجمركية ومناطق التجارة الحرة.

ـ حالات الأفضليات المقررة من جانب واحد لمصلحة الدول النامية: كنظام الأفضليات المعمَّم الذي بموجبه تستورد الدول المتقدمة منتجات صناعية وزراعية مختارة من البلدان النامية على أساس الأفضلية والإعفاء من الضرائب.

ـ قاعدة التمكين، ومعناها أن الأطراف المتعاقدة في (الجات) مجتمعة، قد تمكن الدول النامية من اتِّباع إجراءات خاصة لتشجيع تجارتها وتنميتها، والمشاركة على نطاق واسع في التجارة العالمية، والحصول على مزايا تجارية من الدول المتقدمة لا تعمم على بقية الأطراف المتعاقدة، وهو يعني الإعفاء من الالتزام بمبدأ الدولة الأولى بالرعاية، كما يمكن الدول النامية من تبادل المزايا فيما بينها دون تعميمها على بقية الأطراف المتعاقدة.

ج ـ مبدأ المعاملة الوطنية:

ويعني: عدم اللجوء إلى قيود غير الرسوم الجمركية، من أجل حماية المنتج الوطني ومنع المنتج المستورد، مثل: فرض الضرائب، أو القوانين، أو القرارات والإجراءات التنظيمية الأخر. فالدول المتعاقدة في (الجات) تلتزم أن تعطي السلعة المستوردة معاملة لا تقل عن تلك التي تعطيها للسلعة المناظرة لها المنتجة محلياً، فمثلاً: لا تفرض تلك البلدان على السلع المستوردة ـ بعد أن تكون قد دخلت أسواقها المحلية ودفعت الرسوم الجمركية عليها عند الحدود ـ أية ضرائب محلية، مثل: ضريبة المبيعات، أو ضريبة القيمة المضافة، بنسب أعلى من النسب التي تفرضها على منتجاتها المحلية.

د ـ مبدأ عدم الإغراق:

ويعني: تعهد الأطراف المتعاقدة بعدم تصدير منتجاتها بأسعار أقل من السعر التوازني لهذه المنتجات في الدولة المصدّرة، إذا كان ذلك يؤدي إلى إيقاع ضرر بالغ بمصالح المنتجين المحليين في الدولة المتعاقدة المستوردة، أو مجرد التهديد بإيقاع مثل هذا الضرر. ولذلك تطلب المنظمة من الدول الأعضاء التعهّد بتجنّب دعم الصادرات، وتعدّه من الإغراق، حيث إن تقديم طرف متعاقد إعانة للصادرات وبخاصة الصادرات المصنعة، قد يؤدي إلى إيقاع ضرر بطرف متعاقد آخر. وفي هذه الحالة، يحق للطرف المتعاقد المتضرر، فرض رسم جمركي تعويضي لإلغاء أثر الإغراق.

ü المبحث الثاني: حكم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية في الشريعة الإسلامية:

هذه أهم السياسات التي تنادي بها منظمات العولمة الاقتصادية. ويلاحظ أن بعض تلك الإجراءات يحقق الأهداف المعلنة لتلك السياسات وبعضها لا يحققها، ومن ناحية أخرى قد يكون ذلك الإجراء مقبولاً اقتصادياً وليس مقبولاً اجتماعياً. ولنا بعض الوقفات والانتقادات لهذه السياسات.

ففيما يتعلق بسياسات معالجة العجز في الموازنة العامة للدولة يلاحظ ما يلي:

١ ـ أن تخفيض النفقات العامة يخفض العجز في الموازنة العامة وهو إجراء لا بأس به، وبخاصة أن القطاع العام في الدول النامية يعاني بطالة مقنعة، وفساداً إدارياً ومالياً، مما يتطلب تخفيض النفقات العامة، وتقليص حاجة الدولة إلى الاقتراض وبخاصة من القطاع المصرفي. إلا أنه قد يترتب عليه عزل بعض العمال والموظفين الحكوميين، ومن ثم زيادة نسبة البطالة في المجتمع وما يترتب على ذلك من مشكلات.

٢ ـ أن مسألة تحرير الأجور والأسعار وجعلها خاضعة للعرض والطلب، يؤدي إلى توزيع الموارد الاقتصادية توزيعاً أفضل، إلا أن بعض الإجراءات المقترحة ـ كإلغاء الدعم وزيادة أسعار المنتجات العامة ـ قد تؤدي إلى زيادة التضخم وليس إلى تخفيضه كما هو معلن، وذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة من الناحية الاجتماعية، إذا لم يصاحبه حلول وسياسات تخفف من وطأة هذه الإجراءات على الفئات الفقيرة في المجتمع، وهو ما لا وجود له في سياسات منظمات العولمة الاقتصادية.

٣ ـ يلاحظ المطالبة بتخفيض الضرائب المباشرة على أرباح الشركات والاستثمارات الأجنبية، مما يخف العبء عن الأغنياء، وفي الوقت نفسه، المطالبة بزيادة الضرائب غير المباشرة مع أن عبئها الأكبر يقع على الفقراء.

أما سياسات منظمات العولمة الاقتصادية لمعالجة أو تضييق الفجوة بين الادّخار والاستثمار فلا تسلم أيضاً من بعض المآخذ على النحو التالي:

١ ـ أن معدل الفائدة، سياسة غير مجدية؛ لأن ارتفاع الفائدة يجعل المستثمرين يحجمون عن الاقتراض ومن ثم الاستثمار، فالبنوك تضع معدلاً مرتفعاً للفائدة من أجل تشجيع أصحاب الأموال على إيداع أموالهم لديها، إلا أن هذا المعدّل المرتفع يجعل المستثمرين يمتنعون عن اقتراض تلك الأموال من البنوك؛ لأن ارتفاع معدل الفائدة سيزيد سعر إنتاجهم من السلع والخدمات، إضافة إلى عدم التأكد من نجاح المشروع، فتبقى المدخرات حبيسة البنوك، أو تحوّل إلى أسواق المال العالمية بحثاً عن معدل فائدة أعلى من المعدل المحلي، مما يؤدي إلى انخفاض المتاح من الموارد المالية وتقليص الاستثمارات المحلية والأجنبية، بل إن رفع معدل الفائدة قد لا يؤدي إلى رفع سعر العملة وإنما إلى انخفاضها، ويضر النمو الاقتصادي.

فالفائدة والحال هذه تؤدي إلى ظهور فجوة في الاقتصاد بين الادخار والاستثمار، وليس تضييق هذه الفجوة.

٢ ـ أن تطوير السوق المالية وحرية حركة رؤوس الأموال سلاح ذو حدّين، فقد يؤدي إلى توجيه المدخرات إلى أوجه الاستثمارات المطلوبة كما هو معلن، وقد يؤدي إلى خروج هذه المدخرات إلى الأسواق العالمية التي تعلن فرصاً أكثر وعائداً أكبر، ومن ثم تبقى الفجوة بين الادّخار والاستثمار كما هي، بل ربما تزداد.

٣ ـ ومثله أيضاً تشجيع الاستثمارات الأجنبية، فإنها تعتمد على سيطرة الدولة المضيفة واستقلاليتها في اتخاذ القرار وقدرتها على الاستفادة من تلك الاستثمارات، وإلا فإنها لن تكون إلا لمصلحة البلدان التي جاءت منها؛ لأن فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، سيجعلها تستفيد من مزايا ليست موجودة في بلدانها، مثل: رخص الأيدي العاملة في البلدان النامية، الذي يحقق لها أرباحاً كبيرة تحوّلها إلى بلدانها، ولا يحصل البلد المضيف إلا على جزء يسير منها.

والملاحظ أن هذه السياسات يرتبط بعضها ببعض ويكمل بعضها بعضاً. فترك معدل الفائدة في الدول النامية يتحدد حسب العرض والطلب سيؤدي ـ في نظر خبراء هذه المنظمات ـ إلى ارتفاع سعرها لكي يغطي معدل التضخم، مما يؤدي إلى جذب المدّخرات إلى أسواق المال في البلدان النامية، وتلك الأسواق المالية يجب أن تُطوّر وتُعطى مزيداً من الحرية وعدم التقييد؛ لكي يكون انسياب الأموال إليها سهلاً وخروجه منها سهلاً كذلك، وفي الوقت نفسه، فإن جذب المدّخرات وتحرير الأسواق المالية في تلك البلدان، سيسهل جذب الشركات الأجنبية، التي ينبغي إزالة الحواجز التي تعترضها، لكي تستطيع استيعاب تلك الأموال وتوجيهها إلى الاستثمار، وتكون النتيجة في النهاية هي القضاء على فجوة الموارد المحلية في الدول النامية أو على الأقل تضييقها إلى أقل ما يمكن.

إلا أن هذا التحليل النظري، لا يكفي لإزالة الشكوك في مدى صدق تلك السياسات. وإذا دقّقنا النظر، وجدنا أن فيها فوائد منها توفير المزيد من الموارد، إلا أن آثارها السيئة قد تفوق فوائدها، فالمحصلة النهائية لذلك، هي ارتفاع الأسعار في وقت تنخفض فيه الأجور، ويعزل فيه المزيد من العمال والموظفين الحكوميين، وهذا يعني ـ اقتصادياً على الأقل ـ انخفاض الطلب، مما يؤثر تأثيراً سيئاً في الإنتاج ومن ثم في الناتج الإجمالي. بل إن الأثر الاجتماعي قد يكون أهم من الأثر الاقتصادي، فمستويات المعيشة ستنخفض، ومستويات الفقر ستزداد، والتفاوت الطبقي ـ أي: التفاوت بين الأغنياء والفقراء ـ سيزداد، كما هو حاصل في المجتمعات الرأسمالية الغربية. أما الأثر السياسي فهو أهم تلك الآثار، فكما هو مشاهد في واقع البلدان النامية عند تنفيذ تلك السياسات، تظهر الاضطرابات الاجتماعية التي يعبر عنها أحياناً بالمظاهرات وأعمال العنف، التي ربما أسقطت حكومات أو أحرجتها، وعدم الاستقرار السياسي ربما يكون من أكبر العوائق أمام التقدم الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان، وفي النهاية ربما وجد البلد النامي أن تلك السياسات كانت في مصلحة غيره، ولم تكن في مصلحته، وربما وجد نفسه قد رُبط بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الغربي ربطاً لا يستطيع الفكاك منه.

وأخيراً: يلاحظ على سياسات معالجة العجز في ميزان المدفوعات ما يلي:

١ ـ أن تخفيض سعر صرف العملة المحلية، فيه بعض الفوائد، إلا أن نجاح هذه السياسة يعتمد على مرونة كل من الصادرات والواردات في البلدان النامية. والواقع أنها غير مرنة؛ لأن أغلب صادرات الدول النامية صادرات زراعية أو مواد أولية، وكلاهما قليل المرونة. كذلك فإن الواردات أغلبها سلع ضرورية وهي قليلة المرونة أيضاً، ومن ثم فإن التخفيض لن يترتب عليه تخفيض الطلب على الواردات أو زيادة الطلب على الصادرات بالصورة المطلوبة. إضافة إلى أن نجاح تأثير تخفيض العملة في قطاع الصادرات والواردات يتطلب بقاء العوامل الأخر على ما هي عليه، ومن ذلك عدم اتخاذ الدول الأخر إجراءات مماثلة، وهو أمر لا يتحقق في الغالب.

٢ ـ مسألة تحرير الاستيراد من القيود، مثل: إلغاء القيود الكمية، وتخفيض القيود الجمركية، هذا سيؤدي إلى تشجيع التجارة الدولية، إلا أنه سيكون لمصلحة الدول الكبرى، كما أنه سيؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات، وليس معالجته كما تقترح منظمات العولمة الاقتصادية. ذلك أن إزالة تلك الحواجز، ستؤدي إلى اكتساح منتجات الدول المتقدمة لأسواق البلدان النامية، أي: زيادة الواردات إلى الدول النامية وانخفاض صادراتها؛ نتيجة لزوال الحماية؛ ولشدة المنافسة من البضائع والخدمات المستوردة. ومن المعلوم أن زيادة الواردات وانخفاض الصادرات سيؤدي إلى زيادة العجز في الميزان التجاري ومن ثم في ميزان المدفوعات وليس تخفيض ذلك العجز.

أما أهم النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات منظمات العولمة الاقتصادية أن أغلبها داخل في إطار السياسة الشرعية وحكمها من ناحية الأصل هو الجواز، أما من ناحية التطبيق فيتوقف حكمها على مدى تحقيق المصالح فيها ودَرْء المفاسد في كل دولة على حدة. وفيما يتعلق بالنتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة عجز موازنة الحكومة فهي كما يلي:

١ ـ أن سياسة إلغاء دعم الأسعار أو تخفيضه، لا تعارض الإسلام فيما أرى؛ لأن الأصل في الإسلام هو عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي إلا عند الحاجة. لكن يشترط لقبول هذه السياسة شرعاً زيادة الدولة لدخول الفقراء، زيادة تقابل أثر إلغاء دعم الأسعار، وتمكنهم من تلبية حاجاتهم، وذلك بتحويل الأموال التي كانت تدفع دعماً للأسعار، إلى زيادات في دخول الفقراء.

٢ ـ جواز الخصخصة من ناحية الأصل، أما من ناحية التطبيق فإن الحكم يختلف من دولة إلى أخرى بحسب العقود المبرمة. فإذا تحققت فيها المصالح، وروعيت الأضرار المترتبة على تلك السياسة وبخاصة فيما يتعلق بالعمال والموظفين فهي جائزة. أما إذا لم تتحقق تلك المصالح أو تحقق بعضها لكن كانت المفاسد فيها أكثر، فإنني أرى منع تلك السياسة، حتى لا تكون وسيلة لمنظمات العولمة الاقتصادية، تستعملها لتحقيق الأهداف الخفية لمشروع العولمة الاقتصادية.

٣ ـ الراجح أن فرض قدر زائد في مال المسلم على ما فرضه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام منه: ما يكون بحق، ومنه: ما يكون بغير حق. فالأول: هو الوظائف المالية وهو ما توافرت فيه شروط معينة، أهمها: تقييد فرضها بالحاجة وينتهي بانتهاء تلك الحاجة، ومن ذلك: الضرائب المعاصرة إذا التزم فيها تلك الشروط عند الفقهاء المتقدمين. وأما الثاني: فهو فرض الضرائب بصورتها الحديثة كما تنادي بذلك منظمات العولمة الاقتصادية، دون التقيد بتلك الشروط، فلا تجوز حينئذ؛ لما فيها من أخذ أموال الناس بالباطل وإرهاق الفقراء بسبب دفع الضرائب غير المباشرة على المبيعات والاستهلاك ونحو ذلك، فتكون من المكوس المحرمة، ولأنها والحال هذه تكون وسيلة لتحقيق الأهداف الخفية للعولمة الاقتصادية.

أما النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة فجوة الموارد المحلية فهي كما يلي:

١ ـ أن الفائدة المصرفية محرمة تحريماً مطلقاً، فلا يجوز العمل بها ولا تحريرها وجعلها خاضعة للعرض والطلب. وبناء عليه؛ فإن الفائدة المصرفية التي تطالب بها منظمات العولمة الاقتصادية لا تجوز بأنواعها كلها؛ لأنها من الربا المحرم بنصوص القرآن والسنة. وهذه السياسة غير ناجحة من الناحية الاقتصادية كما بينت، بل الأهم من ذلك أنها لا يمكن أن تنجح في المجتمعات الإسلامية التي تؤمن أن هذه الفائدة المصرفية من الربا المحرم في كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

٢ ـ لا يمكن قبول سياسات منظمات العولمة الاقتصادية بشأن الأسواق المالية مطلقاً ولا ردّها مطلقاً، بل لا بدّ في قبولها من توافر الضوابط التي فرضتها الشريعة الإسلامية وتحقق المصالح ودَرْء المفاسد. فإذا توافرت تلك الضوابط والمصالح، أمكن القول بجواز إقامة تلك الأسواق في البلدان الإسلامية. وأما في حالة عدم توافر ذلك، فإن إيجاد تلك الأسواق المالية في بلاد المسلمين، سيكون وسيلة لتحويل أموالهم إلى الأسواق الدولية، وتحقيق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية.

٣ ـ أن حكم سياسة الاستثمار الأجنبي من ناحية الأصل هو الجواز، أما من ناحية التطبيق فهو يختلف من دولة إلى أخرى بحسب العقود المبرمة والاتفاقات الموقعة، ويتوقف على وجود المصلحة وانتفاء المفسدة. فإذا كان فتح المجال لهذه الاستثمارات في بلاد المسلمين بلا قيود أو شروط، مما يمكنها من استنزاف خيرات بلاد المسلمين، ومضايقة المستثمرين المسلمين، وربما تؤدي إلى تسلّط الكافرين على المؤمنين، وغير ذلك من المفاسد فإنها لا تجوز، وستكون تلك الاستثمارات التي تطالب بها منظمات العولمة الاقتصادية، والحال هذه، وسيلة لتحقيق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية. أما إذا انتفت تلك المفاسد، وجنى المسلمون فوائد من هذه الاستثمارات، كتوظيف العمال الوطنيين وتدريبهم، ونقل التقنية، والاستثمار في المشروعات المنتجة التي تعود بالخير على المسلمين، فهذا أمر جائز بل مطلوب ومندوب إليه.

وأخيراً: فإن النتائج التي توصلت إليها بشأن حكم سياسات معالجة عجز ميزان المدفوعات هي كما يلي:

١ ـ أن الأصل في الإسلام هو عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ومن ذلك ترك قيمة العملة حسب العرض والطلب. فمطالبة منظمات العولمة الاقتصادية بتحرير سعر صرف العملة المحلية وجعله خاضعاً للعرض والطلب، جائز من جهة الأصل، إلا أن فيه أضراراً كبيرة على الاقتصاد الضعيف كما هو الحال في الدول النامية. فيمكنها الانتقال إلى نظام سعر الصَّرف المدار أو المرن. وإذا لم يتيسر العمل بهذا النظام، فعند الحاجة العامة يجوز تدخّل ولي الأمر بالتسعير بربط العملة المحلية بعملة قوية أو بسلة عملات أو بحقوق السحب الخاصة، ربطاً مؤقتاً. لكن لا يتركه مربوطاً على الدوام بسعر معين، فتصبح العملة مقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، بل يراعي تأثير التضخم وغيره من العوامل، ويخفض قيمة تلك العملة عند الحاجة.

وبناء عليه؛ فإن تخفيض قيمة العملة المحلية الذي تطالب به منظمات العولمة الاقتصادية، في حالة ما إذا كانت العملة مقوّمة بأعلى من سعرها الحقيقي، هذه السياسة لا تعارض الشريعة الإسلامية، بل توافقها، لكن مع مراعاة ما سبق.

٢ ـ أن تحرير سوق الصَّرف الأجنبي أو سوق النقود من الناحية الإدارية، وعدم وضع القيود أمام تحويلات رؤوس الأموال أمر لا بأس به في الشريعة الإسلامية؛ لأن الأصل هو حرية النشاط الاقتصادي في الإسلام. أما معاملات سوق النقود نفسها فلا ينبغي تحريرها، بل يجب ضبطها بأحكام الشريعة الإسلامية من جهة الالتزام بأحكام الصَّرف والربا ونحو ذلك، ولأن ترك تلك السوق بلا ضوابط، ليس من مصلحة الدول النامية، بل سيؤدي إلى عدم استقرار أسواقها، وجعل تلك الأسواق محقّقة لأهداف العولمة الاقتصادية الخفيّة.

٣ ـ أن تحرير الاستيراد من القيود لا بأس به؛ لأن الأصل في الإسلام هو حرية النشاط الاقتصادي، ومن أهم وسائل تحرير الاستيراد من القيود: تخفيض الرسوم الجمركية، وهي تُعدّ مما يعرف في الفقه الإسلامي بالعشور التي تفرض على غير المسلمين بشروط وضوابط معينة، فلا مانع من الأخذ بهذه السياسة بناء على تلك الضوابط. وأما في حالة عدم مراعاة تلك الضوابط فإن الرسوم الجمركية تكون من المكس المحرم وعندئذ لا يجوز فرضها. كما أن مبادئ فتح الأسواق أمام المنتجات الأجنبية جائزة شرعاً؛ لعدم معارضتها نصاً من نصوص الشريعة أو أصلاً من أصولها، وبخاصة عند توافر الاستثناءات الموعودة من الدول المتقدمة للدول النامية مراعاة لأوضاعها الاقتصادية. وهذا الحكم إنما هو بالنسبة إلى بنود اتفاقية منظمة التجارة العالمية النظرية، وليس لسياسات الدول الكبرى في الواقع، فإن المتفق عليه ربما لا ينفذ كما هو معلوم، بل ربما تنفذ تلك السياسات بما يحقق مصالح الدول الكبرى وشركاتها، ويحقق أهداف العولمة الاقتصادية الخفية، وعندئذ يتغير الحكم من الجواز إلى التحريم.

أما التوصيات: فأوصي ولاة الأمر في الدول الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة جميعها؛ لاشتمالها على الحق والعدل ومصالح الدنيا والآخرة، ومن ذلك الأخذ بالسياسات الشرعية الكثيرة الواردة فيها، التي تُعدّ علاجاً شافياً لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.

ومن أهم السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة عجز موازنة الحكومة ما يلي:

١ ـ فرض الزكاة على الأموال الزكوية جميعها، بما في ذلك الأموال المستجدة التي أفتى العلماء بجواز أخذ الزكاة منها، ودفع الزكاة إلى مصارفها الثمانية في ضوء ما بيّنت في البحث، مع إعطاء الدولة الحق في جباية الأموال الباطنة على القول الراجح لأهل العلم. وقد بيّنت أن العمل بالزكاة يُعدّ بديلاً للضرائب من ناحية، حيث يؤدي دفع الزكاة إلى شريحة واسعة من المجتمع، إلى توفير ما كان مخصصاً للإنفاق على تلك الفئات من الموازنة العامة، مما يؤدي إلى تخفيف عجز تلك الموازنة، ومن ناحية أخرى يخفف من أثر إلغاء دعم الأسعار.

٢ ـ تطوير المؤسسات الوقفية من جهة أنظمتها واستثمار مواردها؛ مما يزيد من ريعها وتغطيتها لأوجه كثيرة من مجالات الوقف، ويخفف أيضاً من أثر إلغاء دعم الأسعار. كما يؤدي من ناحية أخرى إلى تخفيف عجز الموازنة العامة بإبقاء الأموال التي كانت ستدفع من الموازنة العامة إلى تلك الجهات الخيرية.

٣ ـ منع الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في مجتمعاتنا الإسلامية، وذلك بتوعية الناس بأحكام الحلال والحرام، وبيان حرمة الغلول والرشوة وهدايا الموظفين وغيرها من ألوان ذلك الفساد، مما يجنّب هذه المجتمعات غضب الله وعقوبته الدنيوية والأخروية، وفي الوقت نفسه يضمن المحافظة على الأموال العامة ويخفف عجز الموازنة العامة.

ومن أهم السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة فجوة الموارد المحلية ما يلي:

١ ـ إعادة هيكلة النظام المصرفي بما يتفق والشريعة الإسلامية، وهذا يقتضي إلغاء العمل بالفائدة المصرفية، واستبدال الأجرة بالفائدة وفق الضوابط الشرعية.

٢ ـ العمل بأساليب التمويل الإسلامية في مجالات الاستثمار المختلفة، مما يساهم في توجيه الادّخار إلى الاستثمار، وتقليص الفجوة بينهما.

٣ ـ نشر قيم الادّخار والاستثمار في المجتمع مع تطوير أدوات مالية إسلامية إلى جانب سندات المقارضة وسندات الإجارة، من أجل إيجاد سوق مالية إسلامية، تحلّ محلّ الأسواق المالية التي تنادي بها منظمات العولمة الاقتصادية.

وأخيراً: من أهمِّ السياسات الشرعية المقترحة لمعالجة عجز ميزان المدفوعات ما يلي:

١ ـ فرض الرسوم الجمركية مع الالتزام بأحكام العشور، بحيث تكون تلك الرسوم عادلة، وتفرض على غير المسلمين، أما المسلمون فيكتفى بأخذ الزكاة على تجارتهم عند مرورها على حدود الدولة المستوردة.

٢ ـ معالجة مشكلة هروب الأموال بمنظور شرعي بوسائل منها: منع التعامل بالفائدة، وضبط سوق النقود بأحكام الصَّرف الشرعية، وعدم فرض الضرائب على الأموال إلا عند الحاجة، مع احترام أموال المسلمين وعدم الاعتداء عليها، مما يشجع بقاءها في بلاد المسلمين.

٣ ـ العمل على تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية وفق المنهج الشرعي، مما يؤدي إلى تقليص العجز الخارجي أي عجز ميزان المدفوعات، مع تعزيز عمل البنك الإسلامي للتنمية في هذا المجال ليحلّ محلّ منظمات العولمة الاقتصادية بالنسبة إلى الدول الإسلامية، أو على الأقل يخفف من اعتمادها عليها اعتماداً كاملاً.


(*) أستاذ السياسة الشرعية المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية السعودية.