في دائرة الضوء
[البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر]
فايز بن عبد المجيد الغامدي [*]
يُعَدُّ الحوار - بمعناه الواسع - مع الآخر المنتمي لثقافة مختلفة ونائية من
أصعب ما يواجه المفكر المسلم من مهام، بل هو من المعضلات الفكرية والبلاغية
التي تواجه المفكرين المهتمين بالحوار الفكري بين الثقافات بوجه عام. تنبع هذه
الصعوبة من محاولة المفكر المسلم الجمع بين شيئين مختلفين أو متناقضين؛ بين
محاولة تقريب المفهومات والأفكار والقيم ودلالاتها السائدة في الثقافة العربية
والإسلامية إلى القارئ أو المثقف الغربي والأمريكي، والذي ينتمي إلى ثقافة
مختلفة بمفهوماتها الخاصة وأفكارها وقيمها، وهذا لا ينفي وجود قدر مشترك من
التشابه - وليس التطابق - في بعض المفهومات والقيم ودلالاتها بين الثقافتين.
إن أحد أكبر العقبات والتحديات التي تواجه هذا النوع من الحوار «عبر
الثقافي» ، والتي تحدد بشكل كبير مدى تأثيره؛ تكمن في مدى اختراق الخطاب
الموجه وانتشاره (الخطاب هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل جميع استخدامات اللغة)
في الفضاء المعرفي الذي يملكه الآخر ويحيطه بثقافته ولغته وإيديولوجيته وطريقة
تفكيره.
إن أي اختراق معرفي ناجح هو بمثابة احتلال مساحة معرفية في فكر الثقافة
المتلقية ووعيها، لكن هذا التأثير الخطير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى معرفة الكاتب
المفكر بالآخر، ومراعاته لخصوصية القراء الفكرية والثقافية، ومحاولة محاكاة
طرائق تفكيرهم قدر الإمكان، مع استخدام الأساليب البلاغية والجدلية المقبولة
والمنتشرة في خطابهم الفكري بشقيه التحليلي والنقدي.
وسوف أتناول في هذا المقال - وبإيجاز - بعض الجوانب النظرية والعملية
للحوار الفكري مع الآخر الغربي:
القسم الأول: أبدأ به مستهلاً ببعض أهم مقومات الخطاب الفكري الغربي
المعاصر، والتي منها الاعتماد على الجدل والمنطق الاستنتاجي، ومركزية
المفهومات، وأهمية النظرية والتنظير في العلوم الإنسانية، واعتماد بُناها وأنظمتها
المعرفية على التحليل والنقد.
أما القسم الثاني: فأناقش فيه بعض القضايا أو الجوانب المتعلقة بكتابة
الحوار الفكري، وهي خيارات التأليف والترجمة وإعادة الصياغة.
أما القسم الثالث والأخير: فسوف أركز فيه على بعض المقترحات والحلول
العملية والممكنة، والتي أرى أن تجمع بين الاستفادة من الأساليب الفكرية والبلاغية
السائدة في الخطاب الفكري الغربي، وبين التفكير والنظرة الاستراتيجية لمستقبل
حوار الثقافات الفكري، ومحاولة التقريب بينهما قدر الإمكان.
* أولاً: مقومات الخطاب الفكري الغربي:
إن من أهم ما يميز التفكير الغربي، أو الكتابة الفكرية الغربية: الالتزام بـ
«الأسلوب الجدلي» المبني غالباً على «المنطق الاستنتاجي» ، وليس المقصود
هنا «منطق أرسطو» الاستنتاجي الذي شاع استخدامه في الجدل الفلسفي
والبرهان العلمي قديماً، والذي يعتمد على الأقيسة المنطقية الصارمة المبنية على
مقدمات قطعية أو يقينة مجردة ولكنها ملزمة، وتؤدي إلى نتائج ملزمة وإن كانت
أحياناً غير منطقية، ولكن المقصود هو «الجدل الاستنتاجي» المبني على
المقدمات العامة والشائعة أو المقبولة في سياقات خطابها المتعددة، والتي لا تلتزم
بشكل معين متكرر دائماً، أو تؤدي إلى نهايات ملزمة كما هو الحال في المنطق
الأرسطوي، بل تنطلق من «العام» ؛ أي الاستهلال بفكرة أو حجة عامة واضحة
تحدد الموضوع المراد طرحه، إلى «الخاص» والمحدَّد، مع دعم الفكرة أو
الحجة الرئيسة بالبراهين والأدلة والأمثلة التفصيلية.
وهنا تظهر أهمية (المقدمة الفكرية المنطقية العامة) واهتمام القراء الغربيين
بها؛ سواء كانت على مستوى الفقرة أو المقال أو الكتاب؛ حيث تعد صياغتها بقوة
ووضوح وتسلسل منطقي من أهم عوامل قبول المكتوب والتأثر به.
أما بقية النص (الجزء التفصيلي والتحليلي) ، فبالإضافة إلى غلبة الأسلوب
الاستنتاجي عليه؛ فإنه عادة ما يحافظ أيضاً على مستوىً عال من القوة والوضوح
والعمق، والتسلسل والترابط المنطقيين، مع الارتباط بالأفكار والحجج العامة
المطروحة في المقدمة.
أما الجدل الاستقرائي، والذي تكون فيه الحجة أو الفكرة الرئيسة مرجأة إلى
النهاية، ومبنية على الحجج الجانبية أو الأمثلة والأدلة التفصيلية؛ فإنه يستخدم
أحياناً في الكتابة الفكرية وبشكل محدود.
وتُعَدُّ المفهومات المستقاة من الفكر الغربي وخصوصاً الفلسفة محور حركة
الخطاب الفكري عند الغربيين، وهي ما ينظمه ويضبطه، وهي لبنات بناء النظام
المعرفي والنظري في العلوم الإنسانية خاصة، ولها خصائص معرفية محددة ترتبط
بغيرها من المفهومات في الحقل المعرفي الواحد، وفي المؤسسة العلمية أو
الأكاديمية الواحدة، في سياقات ثقافية واجتماعية محددة، ومن ثم فإن لها أبعاداً
تاريخية وإيديولوجية تنفي عنها صفة المطلق الزماني والمكاني؛ إذ إن هذه
المفهومات والمصطلحات الفكرية خاصة التي نشأت في الغرب، ثم صُدِّرت
وشاعت في الخطاب الفكري العربي تأتي مثقلة بتاريخ معرفي وثقافي خاص بها له
دوافعه الإيديولوجية؛ مما يجعل معانيها ودلالاتها تختلف أو تتحول ولو بشكل
جزئي باختلاف سياقات استخدامها الثقافية والتاريخية. وهذا لا يعني بالضرورة
عدم الاستفادة من مفهومات الفكر الغربي واستخدامها فيما يخدم أهداف المسلمين
الاستراتيجية على الصعيدين المحلي والعالمي؛ سواء تلك المفهومات العالمية التي
تتشابه جزئياً مع المفهومات الإسلامية، مثل (حرية التعبير، أو رأس المال، أو
السلطة الاجتماعية) ، أو التي لا يوجد لها مقابل شائع في الفكر والثقافة الإسلامية،
مثل مصطلح «ريْس» بالإنجليزية، ويعني (عِرق أو سلالة جماعة من البشر
يتميزون بصفات خَلقية أو جسدية خاصة) ، وهو أحد أهم مكونات الثقافة الغربية،
والأمريكية على وجه الخصوص. ولكن ينبغي أولاً معرفة المعاني والدلالات الدقيقة
لهذه المفهومات، والوعي بتحولاتها وانعكاساتها التاريخية، وتاريخ تنقلاتها عبر
الثقافات، ودوافعها وأهدافها، ثم استخدامها في الحوار الفكري مع الآخر بشكل
يعكس هذا الوعي وهذه المعرفة، مع إبراز الفروق المهمة في دلالات المفهومات
المستخدمة بين الثقافتين حسب الحاجة والمصلحة.
وتشتمل الكتابة الفكرية في الغرب على الطروحات المعرفية في العلوم
الإنسانية والاجتماعية، كالكتابة الفلسفية والتاريخية والنفسية والاجتماعية
والسياسية، ونظريات اللغة والأدب والنقد، والدراسات الثقافية وغيرها.
وأهم ما يميز الخطاب الفكري في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة
إلى خلوِّه غالباً من الأسلوب السردي أو القصصي الذي يعتمد عليه الخطاب الأدبي،
هو طغيان «الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي» ، وهذا بدوره يختلف عن
«الأسلوب الوصفي التوضيحي» الذي يطغى على الخطاب العلمي (أي في
العلوم الطبيعية) ، حتى العلوم الإنسانية التي تتبع غالباً منهجية البحث العلمي
التجريبي المعتمدة غالباً على الاستقراء، مثل علوم التاريخ والنفس والاجتماع
وغيرها؛ فإنها تعتمد في صياغتها وعرضها النظري على «الجدل الاستنتاجي
والتحليلي» ، ونتائجها أقل قطعية وموضوعية من نتائج العلوم الطبيعية التي
تستخدم «المنهج التجريبي» .
والمقصود بالنقد هنا «النقد التحليلي» الذي لا ينفصل عن «التحليل
المفهومي» أو (تحليل المفهومات) ، بل يقويه ويكسبه هويته الخاصة به من
حيث هوية الكاتب، وموقفه الذاتي المنبثق من ثقافته وفكره ورؤيته الذاتية.
وقد وصل أمر اعتناء الغربيين بالنقد أن خصصوا له حقولاً معرفية وأكاديمية
مستقلة، مثل النقد الأدبي والثقافي والبلاغي، التي لها نظرياتها الخاصة بها،
والتي تمتاز عن نظريات الحقول الأخرى في العلوم الإنسانية، فضلاً عن الطبيعية،
باعترافها بأهمية النظرة الذاتية للناقد، والتجربة الشخصية للمؤلف والاعتماد
عليهما.
أما «تحليل المفهومات» فيقصد به تفكيكها، وتبسيطها، وتحديد العلاقات
بينها وبين أجزائها؛ من تشابه واختلاف، وتضاد، وعموم وخصوص، وجزء
وكل، وغير ذلك.
والمهم هو إدراك أهمية الأساليب الجدلية والتحليلية والنقدية التي تقوم عليها
العلوم الإنسانية، ودورها الرئيس في صياغة النظريات التي تكوِّن بنية الفكر
الغربي الحديث ونظامه.
ومن الملاحظ أن التنظير في العلوم الإنسانية الغربية الآخذة في التداخل بشكل
ملحوظ ومتسارع أيضاً؛ قد اتسع بشكل يجعل متابعة النظريات المستجدة في المجال
الواحد، ومعرفة تاريخها وعلاقاتها المركبة مع النظريات الأخرى القريبة؛ من
الصعوبة بمكان، وهذا بلا شك يُثقل كاهل المفكر المسلم المهتم بالحوار الفكري؛ إذ
لا بد من الإلمام بالحد الأدنى من هذه النظريات التي تشكل جزءاً مهماً وأساسياً من
نظام الآخر المعرفي، وغالباً ما يُعرف الكتاب الفكري الناجح والمؤثر في صفوف
المثقفين والمتعلمين الغربيين بقوة طرحه النظري وكثافته، ومعرفة صاحبه العميقة
بالنظريات المهمة في الموضوع المتناول. وليس المقصود بالتنظير هنا التجريد
الذي لا روح فيه أو الإغراق في الغموض والتعقيد العقيم، وإنما التنظير المشتمل
على التقعيد والتحليل والتفصيل للموضوع، والواعي بجوانبه التاريخية وارتباطاته
الواقعية، والعلاقات المتشابكة بين النظريات وبين سياقاتها المتعددة، والعلاقات
المقارنة بين النظريات نفسها.
ولعل عدم إدراك الكثيرين منا لأهمية التنظير أو البناء المعرفي في الحوار مع
الآخر وتأثيره يرجع إلى ضعف التنظير في الفكر الإسلامي المعاصر بوجه عام،
بالرغم من توفر الأصول الراسخة في العقيدة والتصور، هذا فضلاً عن ثراء
الجانب المعرفي التاريخي للحضارة الإسلامية وتعدده، وهذا الضعف لا ينفك
بطبيعة الحال عن مظاهر الضعف الأخرى التي تعاني منها الأمة في جوانب متعددة؛
أخلاقية وسياسية ومادية.
ومن أسباب الضعف التنظيري ومظاهره وجود اتجاهين رئيسين يمثلان
فكرين وموقفين مختلفين من نظريات الآخر وفكره (وهذا لا يعني عدم وجود
اتجاهات أخرى أقل انتشاراً) :
الاتجاه الأول: ينفي أصحاب الاتجاه الأول وجود أي مشكلة معرفية أو
تنظيرية أصلاً، ويُرجعون الحل دائماً إلى الأصول النظرية والتاريخية للفكر
الإسلامي دون فهم أو استنباط لمعانيها ودلالاتها وتطبيقاتها في الواقع المحلي
والعالمي؛ ذلك الواقع المتجدد بتعقيداته وتشابك أجزائه، ودون إدراك الحاجة إلى
إعادة النظر وتأمل المعرفة البشرية باتساعها وشمولها والاستفادة منها، أو يقفون
عند الجهود التنظرية والفكرية لعلماء عصور الإسلام الذهبية ونتاجهم الفكري،
بالرغم من أن أولئك لم يقفوا عند جهود من سبقوهم بل فهموها وطوروها ونقدوها.
أما الاتجاه الآخر: فهو نقيض الأول؛ إذ يرى أصحابه أن حل هذه المشكلة
يكمن في نسخ نظريات الغرب في العلوم الإنسانية أو بعضها، وتطبيقها كما هي في
العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي.
وكلا الفريقين كفى نفسه مشقة التفكير والتجديد والتطوير والمقارنة والنقد،
مع اختلاف في الدوافع والأهداف، وكلاهما لم يقدم حلاً عملياً ومؤثراً لمشكلة
الفراغ التنظيري في العلوم الإنسانية من جهة، والتشويه التنظيري الذي سببه النقل
النظري غير الواعي وغير المسؤول مع الآخر، من جهة أخرى.
ومما يميز الكتابة الفكرية لدى الغربيين الاهتمام والالتزام بـ (وحدة
الموضوع) المبني على أو المستخرج من المفهومات العامة؛ حيث يتناول الكتاب
الفكري عادة موضوعاً واحداً يكون على شكل مفهوم رئيس أو عدة مفهومات رئيسة
تنسج حولها مفهومات أخرى جانبية، وترتبط هذه المفهومات جميعاً بالمفهوم
الرئيس بحجج فكرية وبأساليب تحليلية متنوعة؛ إذ يشكل المفهوم الرئيس الخط
الفكري الذي ينتظم حجج الموضوع، وبالتالي مفهوماته من أوله إلى آخره، وتكون
الحجة الرئيسية للموضوع والمحتوية على المفهوم الرئيس عادة على شكل حجة أو
فكرة واضحة ومتكاملة، تأتي رداً على حجة أخرى مطروحة سلفاً أو مقابلاً لها
(تضاد الأفكار والحجج هو محور بناء الموضوع) .
وهذا لا يعني الإفصاح دائماً عن الحجة أو الفكرة المضادة أو المقابلة، بل
تكون على الأقل حاضرة ذهنياً أثناء الكتابة والمراجعة لأهميتها في بناء الحجة
المطروحة وتوجيهها. ويقال الشيء نفسه عن الحجج الجانبية أو الفرعية، والتي
بدورها تكوّن وتشكل الجانب الجدلي، ومن ثم التحليلي للموضوع.
وبالإضافة إلى الوحدة العامة للموضوع (موضوع الكاتب مثلاً) ؛ هناك
الوحدات المحلية: الفصل، والقسم، والفقرة، والأخيرة هي الأهم، والخلل فيها
أظهر وأشد تأثيراً على القارئ، ومن علامات قوة الكتاب ونجاحه: إتقان كتابة
الفقرة وقوتها، ووحدة فكرتها العامة مع الموضوع، والمواضيع الجانبية، وتسلسل
أفكارها وحججها الجانبية، وترابط الفقرات بعضها مع بعض في القسم أو الفصل
الواحد.
* ثانياً: الحوار الفكري بين التأليف والترجمة وإعادة الصياغة:
من الأفضل في حال الحوار مع الآخر استخدام لغته مباشرة دون اللجوء
للترجمة، مع المعرفة العميقة بفكره وتاريخه وثقافته، ليس المعرفة النظرية فحسب،
وإنما المعرفة المقترنة بكثرة ممارسة الكتابة التحليلية والنقدية بلغته، والتفكير
بطريقته. فإن تعسر هذا والحال غالباً كذلك فالأفضل إعادة صياغة ما كُتب بالعربية،
سواء كان مقالاً أو بياناً أو كتاباً، وليس ترجمته فقط؛ لكي يناسب أحوال
المخاطبين وأفكارهم وثقافتهم، مع المحافظة على جوهر النص الأصلي ولبه.
وليس بالضرورة أن تطال «إعادة الصياغة» جميع ما كُتب في النص الأصلي
(أي جميع الجمل والعبارات والمفهومات) ، ولكن تكون بالقدر المطلوب الذي يراه
المترجم أو الكاتب، والذي لا يذهب بلب أفكار النص الأصلي ولا يشوّه النص
الجديد أيضاً.
وبسبب تشابه بنى اللغات البشرية، وتشابه طرائق التفكير ذات الطابع
الكوني أو «عبر الثقافي» ، وكذلك تداخل الثقافات واتصالها؛ فإن المترجم سيجد
قدراً مشتركاً بين اللغتين والثقافتين والفكرين لا يحتاج فيه إلى إعادة الصياغة
بالمعنى المقصود هنا، وإنما تكفي فيه الترجمة الجيدة بالمعنى المعروف.
وعادة ما يتفاوت الكتاب المفكرون في مدى قربهم أو بعدهم عن فكر اللغة أو
الثقافة المقابلة الأخرى وأسلوبها (أي مقدار وجود القدر المشترك بين اللغتين
والثقافتين) ؛ وذلك حسب اختلاف تأهيلهم ومعرفتهم بالموضوع المطروح،
ومعرفتهم بالآخر المخاطب وفكره وتاريخه وثقافته، واستحضار ما أمكن من ذلك
أثناء الكتابة.
ومما يدخل في عملية «إعادة صياغة» المفهومات أو المصطلحات أو
العبارات أو التراكيب أو الفقرات: التقديم والتأخير، والتبديل، والحذف والإضافة،
ومراجعة العلاقات المتعددة بين المفهومات والاستنتاجات المنطقية الرئيسة العامة
والفرعية التفصيلية، وإبراز بعض الجوانب المهمة التي اختصرها المفكر، إلى
غير ذلك.
ويدخل في مراعاة خصوصية القراء الغربيين أيضاً استخدام المصطلحات
والمفهومات المعروفة عندهم، ليس عن طريق نقل المصطلحات والمفهومات
والعبارات والتراكيب الواردة في النص الأصلي أو العربي وترجمتها حرفياً، والذي
غالباً ما يسبب اللبس والغموض في المعنى؛ ومن ثم تثبيط القارئ وصرفه عن
الاستفادة أو التأثر بالمكتوب، أو الاكتفاء بترجمة معانيها فقط وفق ما يراه المترجم،
وإنما عن طريق استخدام ما يقابلها في اللغة والثقافة الأخرى لكي يسهل تصورها
وفهمها، مع إبراز الفروق الجوهرية في دلالات المفهومات والقيم الإيديولوجية بين
الثقافتين؛ لكي يظهر تميز الفكر الإسلامي وأصالته وشموله وعمقه.
أما المصطلحات أو المفهومات التي لا مقابل لها في اللغة والثقافة الأخرى فلا
ينبغي أن يركّز عليها كثيراً، وإنما تترجم معانيها باختصار عند الحاجة (هذه هي
الطريقة المثلى في الإيضاح والتبيين في مثل هذا المقام الذي لا يقصد منه بيان
دلالات المصطلحات الشرعية بدقة، كما هو الحال في مخاطبة المسلمين الذين لا
يتحدثون العربية) .
ومن مفارقات الترجمة بين اللغتين والثقافتين المتباعدتين؛ أنه كلما حاول
المترجم المحافظة على معالم النص الأصلي والاقتراب منه كان ذلك على حساب
النص الآخر، وتسبب في حدوث التشويش والغموض أثناء القراءة، ومن ثم تثبيط
القارئ عن إكمال قراءة النص والتفاعل معه والاستفادة منه.
إن العلاقة التبادلية بين الكاتب والقارئ والتي تنشأ عن طريق النص تكون أو
تتكون أثناء كتابة النص لا بعدها؛ إذ هي تشكل الخطاب وتحدد معالمه وأبعاده
وجوانبه المتعددة؛ المعرفية والأسلوبية على حد سواء.
بمعنى آخر: إن إيديولوجية القارئ ومعرفته الخاصة عن الموضوع، أو
العامة عن المفكر والثقافة الأخرى، وأفكاره وقيمه؛ ينبغي أن تسهم بشكل كبير في
صياغة النص وخصوصاً النهائي أثناء الكتابة.
ولأن هذا الشرط البلاغي ينبغي توفره في الكتابة أحادية اللغة والثقافة؛ فإن
الحاجة إليه في الحوار والتخاطب «عبر الثقافي» أشد والاهتمام به أولى. وهذا
ما يجعل الكتابة الفكرية بالعربية (أي مخاطبة الآخر بلغة المتحدث) أولاً ثم
ترجمتها (بالمعنى السائد للكلمة) إلى لغة المخاطب إخلالاً بهذا الشرط المهم في
الغالب.
والأولى أن يأخذ النص المكتوب بلغة المخاطبين سواء أكُتب مباشرة أو صِيغ
من النص الأصلي جل العناية والمراجعة؛ حيث يجب أن يعامل النص المترجم
خصوصاً كنص مستقل يخضع لقواعد لغته وفكره ومنطقهما، وليس للغة النص
الأصلي وفكره (عادة تأتي هذه المرحلة من المراجعة النهائية الدقيقة المنبتة عن
النص الأصلي، بعد مرحلة انتقالية من الترجمة يكون فيها النص المترجم أقرب
إلى لغة النص الأصلي ومنطقه وفكره) .
* ثالثاً: بعض الجوانب والمقترحات العملية:
الكتابة الفكرية بين الواقع والمأمول:
قد تكون الترجمة الجيدة حلاً عملياً ومؤثراً بالنسبة للقراء المسلمين الذين لا
يعرفون العربية، إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل في حال مخاطبة القراء المتعلمين
أو المثقفين الغربيين بسبب الصعوبات والعقبات آنفة الذكر، لكن بسبب ندرة
العلماء المفكرين المسلمين القادرين على الكتابة الفكرية بلغة الآخر مباشرة، وبشكل
يقارع ما يكتب وينشر في الأوساط الفكرية الغربية؛ فإن عملية «إعادة الصياغة»
تعد حلاً عملياً وأكثر يسراً؛ حيث يمكن أن يجتمع عالم أو مفكر مع كاتب جيد ذي
معرفة واسعة بفكر الغرب وثقافته على تأليف كتاب فكري، ليس بالشكل المعهود
بالضرورة حيث يقوم الأول بكتابة الكتاب والانتهاء منه تماماً؛ وكأنه سوف يقدم
للقراء العرب وإنما بواسطة كتابة نسخة مصغرة منه مثلاً، أو كتابته على شكل
رؤوس أقلام وعناصر مختصرة (أي تقديم اللب الفكري للموضوع) اختصاراً
للوقت وحفظاً للجهد، على أن يتولى الكاتب المترجم الجهد الأكبر في الصياغة
والمراجعة للنص الثاني، ويكون ذلك بالتشاور المستمر مع صاحب النص الأصلي.
وفي حال البحث عن نص أو كتاب فكري مناسب للترجمة (وإن كنت لا أؤيد
هذا المسلك جيداً) ؛ فينبغي التركيز على ما كتب في هذا العصر؛ إذ إنه غالباً ما
يجمع بين أفكار السابقين وطرح المعاصرين وأسلوبهم وأفكارهم الجديدة أيضاً.
والأفضل من ذلك أن يُنشأ نص جديد لهدف أو مقام محدد (أحداث الحادي عشر
مثلاً) يستفاد فيه من علم السابقين وأفكارهم عن الموضوع ذاته أو ما هو قريب منه
إن كانت موجودة، مع التركيز على فهم أفكار المعاصرين من الكتاب والمفكرين
وأسلوبهم.
ومما يجعل ترجمة كتب علماء السلف مثلاً كما هي، وتقديمها للقراء الغربيين
عملاً محدود الأثر؛ هو الاختلاف الشاسع بين السياقين التاريخيين والثقافيين، وما
ينتج عنه من اختلافات في تفاصيل الموضوع، ونوعية القراء المستهدفين وطرق
تفكيرهم، وما يرونه مهماً، وما يمكن أن يؤثر فيهم.
وخلاصة الأمر وسره: أن تُستحدث حالات بلاغية أو كتابية جديدة تراعي
جدة المواضيع والأحداث المتعلقة بها، وأهميتها، وصفات القراء المستهدفين
الفكرية والثقافية ومميزاتهم.
الكتاب أم المقالة الإلكترونية:
ليس في الغرب شيء أقوى تأثيراً وأبعد أثراً من الكتاب الفكري المتقن، ومن
بعده الرواية؛ فالكتاب الفكري لا يزال مركزياً في الثقافة الغربية، وهو يتبوأ
المرتبة الأولى في تعليم الناس وتكوين أفكارهم وصياغتها، بل حتى معتقداتهم
ومواقفهم؛ ولذا فهو يعد أحد أهم الخيارات الاستراتيجية في الحوار الفكري مع
الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ فهو أبقى من غيره وأيسر تداولاً وأوسع
انتشاراً.
ومن ميزات الكتاب أيضاً (وهذا وارد جداً) أن يكون مادة علمية تقرر في
المواد الدراسية الجامعية في مئات الجامعات على مر السنين (تأمل أثر ذلك!) ،
ولنتذكر أن الباحثين الجادين عن المعرفة والفكر في الغرب (وما أكثرهم) لا
يبحثون عنها أو لا يجدونها في الغالب وراء شاشات التلفاز أو حتى في مواقع
الإنترنت، وإنما في بطون الكتب أو في الدوريات العلمية الرصينة.
وبالرغم من أهمية القنوات الفضائية في الغرب، وخاصة في أمريكا،
ودورها في صياغة وعي الجماهير وأفكارهم وآرائهم عن الثقافات الأخرى؛ بما في
ذلك كثير من المتعلمين والمثقفين؛ فإن الكتاب يظل أقل تكلفة وأيسر جهداً وأهدأ
اختراقاً (قارن مدى تنوع الطروحات الفكرية والسياسية والإيديولوجية الواسع في
الكتب، ومدى ذلك في قنوات التلفاز) . وهذا لا يعني إلغاء أو تهميش فكرة القناة
الفكرية الموجهة بلغة أجنبية، وإنما ينبغي عدم إهمال خيار الكتاب الفكري على
حسابها.
أما المواقع الإلكترونية الغربية ذات التوجه الفكري في شبكة الإنترنت؛ فهي
لا تزال محدودة العدد والانتشار إذا ما قورنت بمواقع الأعمال والترفيه والخدمات
والأخبار وغيرها، ومعظم ما يكتب ويقرأ في المجال الفكري في تلك المواقع يقع
على شكل مقالات، أو دراسات قصيرة نسبياً، أو منتديات حوارية غير محكمة،
أو مراجعات للكتب، أو قوائم بمراجع المواضيع الفكرية المطروحة. أما الكتب
الإلكترونية فلا تزال محدودة العدد مع أنها في ازدياد مستمر.
وينبغي أن تكون المواقع المعنية بالحوار مع الآخر سواء كانت على شكل
مقالات أو منتديات مستقلة يراعى فيها ما ذكر آنفاً، وألا تختلط بمواضيع موجهة
للمسلمين.
والخلاصة هي: أن مواقع الإنترنت الفكرية مهمة، ولكن يجب أن تتكئ على
قاعدة صلبة ومؤسسية من الكتب، والدراسات الرصينة، والمفكرين.
أولوية الأسلوب الجدلي في الحوار الفكري:
ينبغي الاهتمام بـ (الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي) المبني على
المسلمات البشرية، والأسس العقلية، أو الحقائق الشائعة المقبولة في ثقافة القراء
الغربيين ومجتمعاتهم، والتي بالتالي تخاطب وتؤثر في قطاع عريض من متعلميهم
فضلاً عن المثقفين منهم أو المفكرين، والتي لا تتعارض في الوقت نفسه مع
مسلمات الدين الإسلامي وثوابته. أما الانطلاق دائماً من مسلمات الدين الإسلامي
وتقريرها أولاً، أو مهاجمة عقائدهم وأخلاقهم الخاصة بهم بأسلوب مباشر فقد يكون
أسلوباً أقل إقناعاً، وذلك لعدم وجود الأسس الفكرية أو الفلسفية المشتركة مع القراء،
أو الاعتماد على معلومات تفصيلية لا يعلمها ولا يهتم بها إلا المتخصصون، أو
بسبب انتقاص الجانب الأخلاقي والديني الذي لا يتقبله كثير من القراء اتباعاً لهواهم
أو انتصاراً لأنفسهم وثقافتهم. وهذا لا يعني إغفال أهمية النقد الموضوعي للآخر
بجوانبه المتعددة وتأثيره، أو أهمية استخدام النقد الذاتي بشكل استراتيجي، والذي
يضفي بدوره مصداقية وموضوعية للمفكر المسلم وموقفه وتحليله، لكن ينبغي
التركيز على القضايا المعرفية والفكرية الكبرى والمفهومات العامة، وتقديمها كأسس
أو مقدمات منطقية، ومن ثم مناقشة المسائل الدينية والأخلاقية وغيرها بأسلوب
جدلي تحليلي ونقدي ضمن تلك المقدمات وليس العكس.
ولتوضيح المقصود هنا؛ يمكن أن نقارن على سبيل المثال بين كتاب يتحدث
عن الإسلام بشكل عام (أي على شكل مختصر لتعاليم الدين) بأسلوب وصفي أو
توضيحي، وهذا يخرجه مباشرة من تصنيف الكتب أو الطروحات الفكرية، كما
أسلفت في الفرق بين أنواع الخطابات البلاغية، ومن ثم يقل انتشاره وتأثيره بشكل
كبير (لاحظ تركيز الجهود الدعوية في الكتابة والترجمة على هذا الجانب) ، وبين
كتاب يتناول جانباً أو موضوعاً رئيساً من الدين يكون هو المفهوم الرئيس (على
سبيل المثال: الحرية الفردية؛ حيث يقابلها مثلاً مصلحة الجماعة والدولة، أو
تضحيات النفس، ويقابلها حفظ النفس وإبقاؤها، أو العلاقة مع الآخر) ، ومن ثم
تربط به المفهومات الجانبية والأفكار الأخرى المكونة للموضوع، والتي تتناوله من
جوانب متعددة: دينية، أو تاريخية، أو حضارية، أو اجتماعية، أو قيمية، أو
ثقافية، أو سياسية.
الخطاب الفكري ليس تجريداً فقط:
ومن الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بالطرح المعرفي النظري أو التجريدي الذي
يتجاهل واقع المسلمين العملي (وغيرهم، في حالة الدراسات المقارنة) ، بل يجب
مناقشة واقع المسلمين الفردي والاجتماعي بجوانبه المشرقة والمعتمة، مع التركيز
على النواحي المشرقة التي تجسد أو تقرب من تعاليم الإسلام، وربط ذلك أو
مقارنته بالأصول النظرية أو الأفكار. وكذا طرح القضايا المهمة والمؤثرة في حياة
القراء والمتعلقة بقضايا الساعة، فالغربيون عموماً، والأمريكيون خصوصاً،
يهتمون كثيراً بالجوانب الواقعية والحياتية لكل ما يطرح؛ سواء كان ذلك في شكل
دراسات، أو جوانب ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية (يمكن الجمع
بين هذه جميعاً أو التركيز على جانب دون الآخر بحسب الموضوع أو الحدث
الداعي للكتابة) .
ومن اللافت للنظر أن الأمريكيين غالباً لا يفرقون بين الإسلام كنظام معرفي
ونظري، وبين فهم المسلمين العملي وتطبيقهم له وممارساتهم، أو على أقل تقدير
لا يهمهم هذا الفرق، ويتجاهلونه من الناحية العملية وإن اعترفوا بوجوده من
الناحية النظرية، وهذا التوجه قد يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أن معظمهم يعتقدون
أن الأفعال والمعاملات والعلاقات البشرية الحسنة بغضِّ النظر عن عقيدة صاحبها
أو دينه أهم بكثير من مجرد الاعتقاد والإيمان بالفضائل والمثل الإنسانية، خاصة
إذا كانت هذه القيم لا ترى النور ولا تتجلى في أرض الواقع، وهذا بدوره يرجع
إلى تأثير العلمانية وهيمنة البراجماتية كفلسفة وطريقة للحياة. ومن الأسباب أيضاً
أن الأمريكيين غالباً ما يرون - بسبب تأثير ما يقرؤونه أو يشاهدونه عن الإسلام
والمسلمين - أن أفعال المسلمين التي تؤثر فيهم وتحدد علاقتهم بالآخر هي تجسيد
لمعتقدات الإسلام وتعاليمه، أو الإسلام كما يفهمه أولئك المسلمون على أقل تقدير.
وهذا الإشكال في الفهم والتصور لا ينبغي تجاهله من قبل المفكرين المسلمين؛
مما قد يزيد الأمر تعقيداً وغموضاً، بل إن التناول الصريح المتسم بالعمق
والوضوح للقضايا الحساسة والغامضة والمعقدة يسهم إلى حد كبير في تجليتها، وفي
تحسين صورة الإسلام والمسلمين ولو جزئياً.
التراكم المعرفي المضاد:
وختاماً.. أود التركيز على مسألة (التراكم المعرفي المضاد) وأهميتها، فما
يعرفه الغرب عن الإسلام لم يتكون في فترة قصيرة، بل تكوّن على مدى عقود بل
قرون من التراكم المعرفي، والذي غالباً ما يفتقر إلى الدقة والموضوعية، بل يتعمد
التشويه وتغييب الحقائق والمبالغة في أحيان كثيرة.
ومما يلاحظ في هذا الشأن تنوع الخطابات التي كونت وصاغت هذا النظام
المعرفي؛ بما في ذلك الكتب الفكرية بتنوعها (التاريخية والاجتماعية.. وغيرها) ،
والروايات الأدبية، والأفلام السينمائية، والبرامج الإخبارية، والصحف والمجلات
.. وغيرها.
ومما لا شك فيه أن هذا الزخم التشويهي الهائل لا يمكن تغييره في فترة وجيزة
وبأساليب سحرية (هذا فضلاً عن إيصال رسالة الإسلام إلى من يجهلها تماماً،
والأمران على أي حال مرتبطان؛ حيث العمل الدعوي الفكري الجاد يسهم في البناء
المعرفي، وفي تعديل الصور المشوهة وتقويمها في الوقت نفسه) ، بل لا بد من
النظرة الاستراتيجية الواضحة، والعمل الفكري المتقن والمتسق مع هذه النظرة،
مع الاهتمام بتنوع الطرح الفكري وتعدده وكثافته؛ في خطابات وقوالب ووسائل
متعددة قدر الإمكان.
(*) باحث في مرحلة الدكتوراه، تخصص الأدب الإنجليزي، جامعة وسكانس، ماديسون، أمريكا.