للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[ملتزمة الفتح]

د. محمد بن ظافر الشهري

يشهد التاريخ بأن الترف والصلاح لا يكادان يجتمعان، وإذا اجتمعا فلا يلبث

أحدهما أن يغلب الآخر؛ فهذا عيش الأنبياء وهم صفوة البشر كان كفافاً إلا ما ندر.

وهذا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم كان شأنه مع الدنيا أن يقول: «اللهم ارزق

آل محمد قوتاً» [١] . وربما ظن بعضنا أن الترف قرين الشرف، وليس كذلك؛

فأشرف الناس هم الأنبياء، وخيرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكُ من

المترفين.

وإذا علمنا أن الأفراد لَبِناتٌ في بناء الأمة الكبيرة، وأن الجِدَّ والجِدَةَ ليسا على

وفاق؛ فسوف ندرك مراد أبي أمامة رضي الله عنه حين قال: «لقد فتح الفتوح

قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنما كانت حليتهم العَلابيّ والآنك

والحديد» [٢] .

إننا معاشرَ المصنَّفين في عداد الملتزمين بالدين ربما أتى علينا حينٌ من الدهر

يغلب عليه الشظف فتكون القلوب آنذاك مولعة بالآخرة وما يصلحها من تحري

السنن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأنس بالخير وأهله والنفرة

الشديدة من الباطل ودعاته. وربما فُتحت علينا بعد ذلك فما نشعر إلا وقد ضعف

تعلقنا بالآخرة وعظم تنافسنا على الدنيا، فنتكاسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، ونفتر عن تعاهد السنن، بَلْهَ تحريها، ونجترئ على المكروهات ثم

المخالفات، فتبدو إذ ذاك مظاهر التحوير والتغيير جلية في مظهر ذَكَرنا، وحجاب

أُنثَانا، وشَعْر ابننا، وثوب ابنتنا، ونغمة هاتفنا، ومكان أحدنا من الصفوف في

المسجد؛ إلى غير ذلك من المظاهر المؤلمة التي تنتشر فينا انتشار النار في الهشيم.

إننا وحالنا هذه ندرك أننا نهدم ما بنيناه قبل زمن «الفتح» . وحتى نجمع

بين الإبقاء على الترف ومظاهره، وحفظ ماء وجوهنا أمام ذواتنا فلا نكون [كَالَّتِي

نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] (النحل: ٩٢) ، فإننا نكثر الدندنة حول

ضرورة تجاوز «الشكليات» ، ونطالب بالبحث في عظائم الأمور التي تكفل

انتشال الأمَّة مما آلت إليه! فيحلو لنا في هذا السياق أن نُنَظِّر للدعوة التي قد نعيش

على هامشها، ونتهرب من الخوض في المخالفات التي نتلبس بها وأهلونا. وإننا

نسرف في الحديث عن الغزو الفكري وخطورته، ولكنا نتجنب الإشارة إلى آثاره

التي لم نسلم منها! وربما نتحدث عن ضرورة «أسلمة» الإعلام في العالم

الإسلامي، ولَمَّا نفلح في تطهير دورنا من سهامه المسمومة!

إن في قصة تخلُّف كعب بن مالك رضي الله عنه لعبرة لنا معاشر المترفين،

ومن فقهه رضي الله عنه أنه قال بعد توبة الله عليه: «يا رسول الله! إن من توبتي

أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم» [٣] . ولست

هنا أدعو إلى الزهد؛ فهو خلق فريد لا يجيد الدعوة إليه إلا من كان من أهله؛

ولكنها دعوة إلى عدم الإيغال في طريق سهل محفوف بما تشتهيه الأنفس؛ فإننا كلما

أوْغلنا فيه أَلِفَته أنفسنا؛ وعسر عليها العود إلى طريق الغرباء الذي ارتضيناه من

قبل، وعاهدنا الله على المضي فيه حتى النهاية.


(١) صحيح البخاري، ح/ ٦٤٦٠.
(٢) صحيح البخاري، ح/ ٢٩٠٩.
(٣) صحيح البخاري، ح/ ٤٤١٨.