[هوامش على أزمة التحدي]
خالد أبو الفتوح
أثار إقدام صحيفة (يلاندز بوسطن) الدنماركية على نشر رسوم ساخرة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما تلا ذلك من أحداث.. ردود أفعال عديدة على كافة المستويات والأوساط في أرجاء كثيرة من العالم، وبعيدًا عن سباق الفعل ورد الفعل الذي صاحب هذه الأزمة والذي وجه انفعال بعض الأفراد أو المجموعات ـ ولبعضهم العذر في ذلك؛ لعظم الحدث وشدة وقعه ـ.. أحببت تسجيل بعض الملحوظات واستخلاص بعض الفوائد والدروس، ليتسنى لنا فهم بعض أبعاد هذه الأزمة، ولنستطيع إدارة الأزمات (القادمة) بأداء أفضل وفاعلية أكبر:
أولاً: يُظهر هذا الحدث أن الحقد والكراهية للإسلام ونبيه ما زالا كامنين تحت القشرة العلمانية التي يتجمل بها الغرب، فهذا الحدث يأتي في سياق سلسلة من الاعتداءات والأذى المستمر الذي يوجَّه للمسلمين ودينهم والذي لا تخطئه عين أي خبير، ونظرة سريعة على أهم بعض (الفلتات) الصريحة التي وقعت خلال العامين الماضيين فقط يوضح ذلك بجلاء:
٣ ففي يناير ٢٠٠٤: وصف عضو الحزب الوطني البريطاني نيك جريفن الإسلام بأنه «عقيدة فاسدة» ، ويخلو من أي مساحة للتسوية الضرورية في مجتمع حر، ولا يتفق مع الديمقراطية.
٣ وفي نوفمبر ٢٠٠٤: عرض فيلم تلفزيوني بعنوان (الخضوع) للمخرج الهولندي ثيو فان جوخ يزعم فيه أن الإسلام يضطهد المرأة.
٣ وعلى إثر ذلك منح الحزب الليبرالي في الدانمرك (جائزة الحرية) للبرلمانية الهولندية الصومالية الأصل المرتدة هرسي علي التي كتبت سيناريو الفيلم.
٣ وفي مايو ٢٠٠٥: كشفت تقارير عن تدنيس الجنود الأمريكان للمصحف الشريف بالتبول عليه أو وضعه في المرحاض في معسكر غوانتانامو.
٣ وفي الشهر نفسه وصف مايكل غراهام المذيع بمحطة إذاعية في واشنطن (الإسلام) بأنه (منظمة إرهابية) ، وأنه في حالة حرب مع الولايات المتحدة، وأنه يجدر بهذه الأخيرة ضرب مكة المكرمة بالسلاح النووي.
٣ وفي يوليو ٢٠٠٥: سخر الممثل الكوميدي الأميركي ـ جاكي ميسون ـ في برنامج للمذيع جيم بوهانون من الإسلام ووصفه بأنه منظمة تشجع على القتل والكراهية والإرهاب.
٣ ضع ذلك بجوار: احتضان الغرب لرموز الردة والطعن في الدين من بني جلدتنا أمثال: سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، ونصر أبو زيد، وهيرسي علي؛ وضَعْه أيضاً بجوار القرصنة الدولية والإرهاب الاحترافي الذي يمارسه الغرب منذ قرون ضدنا، والذي كان آخره ما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان وغوانتانامو، واستحضر مع ذلك فلتات ألسنة قادتهم السياسيين والفكريين التي ما فتئت تصف صراعهم معنا أنه صراع حضاري، يظهر تارة في حملة على حجاب، ويستتر أخرى خلف دعوى (حقوق إنسان) ، وبأن مواجهتهم لنا حملة صليبية، ولكنها تُشَن بموجب (البند السابع) .. لتعلم أن صحيفة «يلاندز بوستن» جاءت لتفجر القِدر الذي ما انقطع غليانه منذ الحروب الصليبية، ولتتوج منظومة الكراهية الغربية للإسلام، ولكن أيضاً لتُُلبسها ثوب «حرية التعبير» ، ولتعلم كذلك أن (تعبيرهم) إنما دل على أنه {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: ١١٨] .
ثانياً: لا يوجد لديّ أي مساحة لتصديق مزاعم الصحيفة بأن نشرها لهذه الرسوم لـ (اختبار حرية التعبير في بلادهم) ، وإذا حاولنا معرفة مرامي هذا الحدث، أو الفائدة التي ستجنيها بعض الأطراف من ورائه، فإن هناك عدة احتمالات أو فرضيات يمكن ذكرها، منها:
١ ـ صرف الأنظار عن قضايا أخرى مهمة أو أحداث تجري تتصل بالعالم الإسلامي، أو التغطية على جرائم أخرى (تاريخية) تحاك أو تنفذ ضد المسلمين (تكتيك مصارع الثيران) .
٢ ـ محاولة جس نبض الشارع الإسلامي، وقياس ردة فعله كمّاً ونوعاً ومدى استعدادهم لتقديم تنازلات جديدة وقبول قيم غربية بديلة.
٣ ـ محاولة تحطيم معنويات المسلمين وقهرها، بتدنيس المقدسات التي يعتزون بها وتشويه الرمز الذي يجلُّونه والاستهزاء بمحبوبهم علناً، مما يؤثر على قدرتهم على المقاومة والصمود.
٤ ـ محاولة دق أو تعميق (إسفين) بين الشعوب الأوروبية والإسلام تحول دون تعرف الشعوب الأوروبية على الإسلام الحقيقي، وتمنع التواصل الإيجابي بين هذه الشعوب والأمة الإسلامية.
٥ ـ الضغط على الجاليات الإسلامية في أوروبا؛ فحسب بعض المحللين الغربيين فإن ذلك يأتي في سياق هجمة مضادة رداً على تعرض القيم العلمانية الغربية لهجمات (المسلمين المتشددين) في أوساط المهاجرين في الغرب، كما أن هذا الحدث يُعد اختباراً لقياس مدى اندماج المهاجرين والأجيال الناشئة من أبنائهم في المجتمع الغربي، وبمعنى آخر: معرفة حجم التنازلات التي يجب أن تقدمها الدولة المضيفة لمسايرة المهاجرين، والإشارة إلى المهاجرين أنفسهم بنمط التنازلات التي تريدها منهم دولتهم المضيفة لكي يندمجوا في المجتمع الذي ينتقلون للعيش فيه، أي: إنهم يريدون وضع المهاجرين على محك التخلي عن دينهم مقابل قبول عيشهم في البلاد الغربية!
٦ ـ جس نبض الشارعين العربي والإسلامي ومراكز القوى الإسلامية في أوروبا, تمهيداً للبدء في إنهاء الوجود الدعوي الإسلامي هناك، وحظر أي قنوات دعوية إسلامية يمكن من خلالها: تغيير الوجه (الحضاري) المسيحي لأوروبا، أو كسب أرضية (أصولية) داخل المهاجرين المسلمين والحيلولة دون ذوبانهم في المجتمع الغربي، أو النجاح في تجنيد (إرهابيين) يهددون الأمن والمصالح الغربية في عقر دارها.. وقد ظهر هذا التوجه بالفعل في صورة: إغلاق بعض المساجد, ومحاربة الحجاب, ووضع أقنية فضائية عربية وإسلامية تحت المراقبة, وإغلاق المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي والتضييق على أنشطة المراكز الإسلامية ومراقبتها, والعديد من حملات الاعتقال والمداهمة لكثير من المراكز الإسلامية.
وقد ذكر فادي ماضي رئيس المؤتمر العربي الإسلامي الأوروبي أن هناك خطة صهيونية مبرمجة، يقف وراءها مركز سايمون فيزنتال والمؤتمر اليهودي العالمي، وتطال الوجود العربي والإسلامي لضرب الإسلام وإنهاء الوجود العربي والإسلامي في أوروبا.
٧ ـ ظهر بوضوح محاولة استغلال أمريكا وبريطانيا للحدث من أجل موازنة صورتهما العدائية مع صورة الدول الأوروبية الأقل تحالفاً، على طريقة (إنه سيئ ولكن أخاه أسوأ منه) ، وذلك باتخاذ موقف أقل صفاقة.. فرغم أن الحقد الذي يضمرونه على الإسلام والمسلمين لا يقل بحال عن (أوروبا شرق الأطلنطي) ، إلا أن أمريكا وبريطانيا كانتا حريصتين على عدم تورطهما في هذه الأزمة:
فمن جانبها امتنعت وسائل الإعلام الأميركية عن إعادة نشر الرسوم التي تتناول النبي محمد بسبب الطبيعة «المهنية» لهذه الرسومات.
وقد كان ملفتاً أن موقع (CNN) الإخباري على الإنترنت ذيَّل معظم أخباره عن هذه الأزمة بهذه العبارة: «يُذكر أن CNN تمتنع عن نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد احتراماً لمشاعر المسلمين» في متاجرة غير ذكية بالموقف من القضية.
وقال مديرو تحرير عدة مؤسسات إعلامية أمريكية: إنهم يغطون الخلاف المتصاعد بشأن الرسوم ولكنهم لن ينشروها مجدداً ولن تبث على التلفزيون احتراماً لقرائها ومشاهديها!
وفي يوم الأربعاء ٨/٢/٢٠٠٦ نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالاً للكاتبين فيليب هينشر وجاري يونج اعترفا فيه بأن الصحيفة الدانمركية أخطأت بنشرها تلك الرسوم، وبأن هناك إهانة لحقت بالمسلمين ما كان يقبلها أتباع أي مدرسة علمانية لو وجهت هذه الإساءات لرموز مدرستهم، كما قالا إن غضب المسلمين له ما يبرره، ومضى الكاتبان إلى القول إن الصحيفة الدانمركية كانت ستفكر ألف مرة قبل أن تكتب شيئاً يمس الديانة اليهودية، حتى لا يتهمها أحد بالعداء للسامية؛ لأنها تهمة خطيرة في أوروبا وأمريكا، وقد يدفع المتهم بها عشرة أعوام من عمره في السجن.. أما الدين الإسلامي ـ على حد قولهما ـ فلم يحدث أن سُجِن أحد بسببه في أوروبا.
وقالت صحيفة الفياننشال تايمز البريطانية إن حق النشر ليس مطلقاً.
وإذا استثنينا تصريحات نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، فإن مجمل الموقف الأمريكي والبريطاني الظاهر ـ الإعلامي والرسمي ـ هو محاولة اتخاذ موقف متوازن بين إدانة أعمال العنف والمقاطعة التي ظهرت في العالم الإسلامي، والتأكيد على أهمية حرية التعبير، مع تفهم غضب المسلمين، والإلماح إلى أن حرية التعبير يجب أن يكون لها حدود بحيث لا تمس المقدسات.. وهذا ما يرمي إلى ترميم صورة البلدين السياسية في العالم الإسلامي، بعد فشل جهود الحملات الإعلامية والإعلانية التي حاولت أداء هذه المهمة.
ثالثاً: وضح أن الغرب يقف خندقاً واحداً (حتى ولو في الظاهر) عندما يتعلق الأمر بمواجهة المسلمين، سواء أكان هذا من منطلق الخلفيات التاريخية والحضارية التي تجمعهم، أو بموجب الاتحاد والتحالفات والاتفاقات المعقودة بينهم، أو بموجب المصالح المشتركة بينهم.
يظهر ذلك في تعاضد بعض الصحف مع الجريدة الدانمركية وتأييدها بنشر الرسوم المسيئة، ومحاولة إحباط قوة حملة المقاطعة والاحتجاج التي ظهرت في العالم الإسلامي، باستخدام تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو سياسة (تفريق الدم بين القبائل) ، ولا أستبعد ما ذكرته بعض التقارير من وجود أيادٍ مخابراتية وراء هذا النشاط والتكاتف، فقد «اعتبر مراقبون لتطورات الأحداث في جريمة الاعتداء على حرمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في بعض الصحف الأوروبية أن اتساع دائرة النشر يرتبط بجهود استخباراتية مكثفة في بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لتخفيف الضغط عن الدانمرك، بعد أن اعترفت مفوضية الاتحاد بعجزها عن وقف موجة المقاطعة أو التورط في الأزمة بشكل مباشر وعلني، في حين اعتبرت أوساط ثقافية أن هذه الأزمة قد تمثل تحولاً خطيراً في البنية الثقافية للمجتمع الغربي؛ لأنها تفتح على نطاق واسع أبواب الجدل حول المحرمات في الإعلام الغربي، لأن بعض الأصوات الغربية بدأت تطرح الآن تساؤلات حول النفاق الأوروبي فيما يتعلق بقضية حرية التعبير..
مصادر دبلوماسية استطلعت صحيفة (المصريون) رأيها أشارت إلى أن الخطة التي تحتاج إلى إمكانيات أكبر بكثير مما تملكه الدانمرك انطلقت منذ الثلاثاء الماضي ٣/١/٢٠٠٦م عبر صحف تصدر في عدة دول أوروبية، تبنت الخطاب نفسه، وسارت على منهج موحد، وهو ما يدل على التنسيق بين الصحف الموزعة على عدة دول، ويشير إلى أصابع أجهزة الاستخبارات التي تقود هذا التنسيق بهدف تخفيف المقاطعة التي بدأت المصانع الدانمركية تعاني بسببها، وذلك بتوريط عدة دول أوروبية في قضية الإساءة، مما يجعل العالم الإسلامي يقف عاجزاً عن مقاطعة كل هذه الدول دفعة واحدة، وفي الوقت نفسه يصبح لا معنى لاستمرار مقاطعة الدانمرك وحدها.
هذا في المدى القريب، أما في المدى البعيد فإن افتعال ما يشبه «إجماعاً أوروبياً» على الإساءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدر ما يكسر شوكة الوجود الإسلامي في أوروبا بقدر ما يشكل حاجز صد يحول دون مزيد من التمدد العقائدي الإسلامي بين المواطنين في أوروبا والذي بدأ يثير قلق الكثير من دوائر الأمن القومي دون قدرة على وقفه» جريدة (المصريون) ٢/٢/٢٠٠٦.
ويظهر ذلك أيضاً في محاولة رأب الصدع الاقتصادي الذي أصاب الدانمرك جراء مقاطعة معظم الشعوب الإسلامية لمنتجاتها، ويؤيد ذلك: ما ذُكر من أن مطاعم كنتاكي وماكدونالدز وهارديز وبرجر كنج وبيتزا هت قرروا شراء المنتجات الدنمركية لتعويض الخسائر الدانمركية، وما ذكر من أن بعض الأفكار كانت تتداولها الإدارة الأمريكية؛ لإنقاذ المنتجات الدانمركية وإفشال المقاطعة، من أهمها: إلزام صناديق المساعدات الأممية باعتماد المنتجات الدانمركية، وتعويض الدانمرك عن خسائرها الناتجة عن المقاطعة إن لم تفِ الصناديق الأممية بالغرض، عبر إلزام متعهدي تمويل الجيوش الأمريكية وحلفائها في الخارج باعتماد البضائع الدانمركية أولاً.
رابعاً: كما أن الأزمة فضحت دعاوى الطابور الخامس الذي يعيش بيننا، والذي كان يروج زوراً أن الغرب تخلى عن تعصبه وكراهيته لنا، وأنه ارتقى في أسلوب حل خلافاته فأصبح (الحوار) هو الأسلوب المعتمد عنده، والذي كان يتغنى بقيم الغرب ويدعو لها زاعماً أنها لا تتعارض مع جوهر الإسلام، فها هو الغرب يضيف إلى (اعتماده) القوة سبيلاً لحل خلافاته معنا وفرض رؤيته الحضارية علينا.. يضيف عدم احترامه لديننا وهدره لمقدساتنا.
وأظهرت هذه الأزمة أيضاً خطورة الطابور السادس أو السابع (سمه ما شئت) الذي يعيش بيننا، وأعني به الكفار والمشركين الذين جاؤوا باسم العمل والارتزاق وحملوا معهم حقدهم ووثنيتهم وكفرهم وقذارتهم الأخلاقية ليبثوها في مجتمعاتنا متى ما استطاعوا، فقد كان ملفتاً للنظر ما قامت به مدرِّسة أمريكية بإحدى الجامعات في دولة الإمارات ـ وأيدها المشرف عليها من بني جلدتها ـ من عرض الرسوم المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في قاعة الدرس، مبررة عملها هذا بأنه يندرج في إطار حرية الرأي والتعبير.. ولا أدري ما الذي يحمل مدرِّسة لغة إنجليزية على إقحام نفسها في قضية لا تتعلق بعملها وليست طرفاً فيها وتعلم أنها تمس مشاعر من تخاطبهم، إلا أن يكون دافعها هو الحقد والتعصب الأعمى الذي لم تستطع كبته أو التجمل بإخفائه، وإلا أنها تحس بالأمن من عقوبة تنالها إذا فعلت هذه الجريمة (الحضارية) باساءة الأدب مع رسول من تخاطبهم.
وفي الإمارات أيضاً ومع بدء حملة مقاطعة البضائع الدانمركية، قامت العمالة الآسيوية ـ ومعظمها هندوس ـ التي تدير كثيراً من محلات السوبر ماركت بتكثيف عرض المنتجات الدانمركية والتقليل من المنتجات المحلية وغير الدانمركية البديلة، مما يجبر المشترين على شراء المنتج الدانمركي؛ لأنه المنتج الأكثر وفرة؛ وذلك بقصد تصريف المنتج الدانمركي بسبب هبوط سعره عند الوكيل، وهذه التصرفات أعدها منطقية ومتوقعة إذا استحضرنا تلقائية (الولاء والبراء) لدى كل إنسان.
خامساً: ملحوظات حول ردود أفعالنا وكيفية تفاعلنا مع الأزمة وإدارتها:
كثرت جرائم الغرب تجاه العالم الإسلامي، أو قل: كبر وعي المسلمين وإحساسهم بهذه الجرائم، مما يرشح الأمور لوقوع مزيد من (الفلتات) ، ومزيد من التصعيد، ومزيد من (المواجهات) .. ومن خلال متابعة الأحداث وتحليلها نستطيع استخلاص هذه الملحوظات:
الملحوظة الأولى: ضرورة استغلال واستثمار هذه (الفلتات) في واقع العمل الإسلامي من غير تكلف، مثل: تعميق محبة الله ورسوله، تعميق مفهوم الولاء والبراء، إظهار مأزق العلمانيين والتغريبيين، إيضاح عداء الغرب للإسلام نفسه، إظهار وفضح بعض الأنظمة المعادية للإسلام، إظهار حقيقة الدعوة إلى الحوار بين الأديان والحضارات، التدرب على توحيد الصفوف ومحاولة القيام بعمل مشترك منظم ومؤثر..
وداخل أوروبا، مثل: وضع الشعوب الغربية أمام حقيقة مبادئهم التي يتغنون بها وتذكيرهم بمواقفهم التي لا تتفق مع هذه المبادئ (حرية التعبير ـ حقوق الإنسان ـ التسامح مع الديانات والحضارات الأخرى) ، تعريفهم بحقيقة الإسلام، الإجابة على التساؤلات الكبرى التي تشغلهم من منطلق إسلامي..
ولا يكون ذلك إلا من خلال وضع تصور مسبق لاحتمالات الأحداث، وطرق ـ أو خطط ـ معالجتها أو مواجهتها، والوسائل والأساليب الأنجع للتعامل معها، والإمكانات المطلوبة ...
الملحوظة الثانية: باستقراء تسلسل الأحداث الأخيرة يتضح أن هناك استفزازاً متعمداً لإثارة المسلمين، ولكن رد فعل المسلمين جاء متأخراً عن الحدث الأصلي ـ رغم أنه جاء قويّاً ومؤثراً ـ وهذا التأخر يضع علامات استفهام حول ما إذا كانت هناك أهداف من وراء الإثارة في مثل هذا الوقت بالذات، كما أنه يضع علامات استفهام على آلية وكيفية إحساس المسلمين بمآسيهم، وكيفية وتوقيت التصرف المناسب من غير انجرار لما يضر بأمتنا أو الوقوع فيما يحيكه لنا أعداؤنا؛ فهل من المناسب أن يشكل في كل بلد ما يشبه المرقب لمتابعة أحوال الإسلام والمسلمين وإنذار قومهم عند الإحساس بالخطر؟ وإذا كان ذلك مهمّاً فيمكن الاتفاق على جهة (أهلية) محددة موثوق بها يناط بها تلقي هذه التقارير ونشرها، أو على الأقل إنشاء موقع على الشبكة العالمية، يستطيع فيه المراقبون ـ مع الأخذ في الاعتبار احتياطات الأمان الإلكتروني ـ وضع هذه التقارير ليطلع عليها المسلمون، وتلقي التحليلات والاقتراحات لهذه التقارير.
الملحوظة الثالثة: استخدم الغرب في مواجهة حملة المقاطعة التي انتشرت في العالم الإسلامي أكثر من تكتيك لإفشال المقاطعة أو إضعافها على الأقل، وأهم هذه التكتيكات: تشتيت هدف الخصم (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل) ، تفتيت القوة المضادة، امتصاص الغضب، تبادل الأدوار، استغلال عامل الوقت، تكتيك مصارع الثيران، ازدواجية الخطاب الإعلامي، الإشباع النفسي للخصم ... وبجانب جهوده وإمكاناته استغل الغرب الثغرات المنتشرة فينا لإنجاح هذه التكتيكات، ونستطيع ضرب الأمثلة على ذلك:
٣ تكتيك (توسعة الخرق على الراقع) أو (تفريق الدم بين القبائل) : فإنه عندما أثارت الرسوم الكاريكاتيرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- استهجاناً واسعاً في العالم الإسلامي، فإن صحفاً أوروبية تنتمي لأكثر من دولة أعادت نشر الرسوم نفسها بدعوى حرية التعبير وإطلاع القراء على حقيقة الحدث الذي أثار المسلمين (لاحظ أنه لم تنشرها أي صحيفة أخرى في الدانمرك نفسها) .
وبذريعة (حاكي الكفر ليس بكافر) أعادت بعض الصحف في البلدان العربية والإسلامية نشر بعض الرسوم أو كلها، كما أظهرت بعض المواقع الإسلامية الرسوم أو أشارت إلى صلات تُبرزها.
فواضح أن الهدف من ذلك كان استنساخ سبب المقاطعة نفسه في أكثر من مكان، وإشهار ذلك، وعندها إما أن يندفع المسلمون إلى إعلان مقاطعة جميع هذه الدول أيضاً؛ لاتحاد السبب، وهذا مما يصعب عليهم القيام به والاستمرار فيه فتخور عزيمتهم عن المقاطعة جميعها.. وإما أن تسقط مصداقية السبب نفسه عندما لا يطَّرد السلوك المبني عليه في جميع الأحوال.
وإذا كان موقف الصحف الغربية مفهوماً ـ خاصة في ضوء التقارير التي أشرت إليها سابقاً من وجود أصابع مخابراتية في الموضوع ـ فإن موقف الصحف التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية كان أشد وقعاً وأكثر إيلاماً، ليس فقط لأنها طعنة من الخلف غير منتظرة ممن يعلنون انتماءهم لهذا الدين، وليس فقط لأنه عضَّد وساهم في نجاح هذا التكتيك، ولكن لأنه استخدم أيضاً من قِبَل وسائل إعلام غربية لإظهار أن الضجة بشأن الرسوم مبالغ فيها؛ لأن الصحف العربية نفسها أعادت نشرها.
وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن بعض المصلحين يمكن أن يسهم في ذلك بحسن نية! ويتمثل ذلك في محاولة استغلال الحدث في إصلاح المسلمين وحل جميع مشكلاتهم دفعة واحدة، أو خلط المشكلات وتشابكها مع بعضها (الإعلام الفاسد والفن الهابط، وترك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه، و.. مئة وسيلة لنصرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ... ) ، وبالطبع فإن من يرى أو يسمع ذلك يفهم أنه لا بد من تغيير حياته كلها، وقد يكون هذا حقاً ومطلوباً، ولكنه غير مؤهل له الآن، فلا يقوم من الوسائل المئة بوسيلة واحدة ـ أو يكاد ـ وتكون النتيجة أنه ينصرف عن النصرة لأنه ـ بهذا الشكل ـ غير مستعد لها.
بل إن بعض المتعاطين مع الأزمة اقترح حلاً لها بأن تتبنَّى الحكومات العربية والأمم المتحدة موقفاً يهدئ من مشاعر المسلمين، وهو: إلزام العدو الصهيوني بالانسحاب الفوري من القدس وتطبيق الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تقضي بفرض عقوبات سياسية عليها في حال رفضها القرار!
ومثل هؤلاء كمن يريد إسقاط مئة عصفور على شجرة بطلقة واحدة فتكون النتيجة أن تطير العصافير كلها ولا يستطيع أن يسقط عصفوراً واحداً.
فضعف التركيز وافتقاد نَظْم الأهداف المرحلية مع الأهداف الاستراتيجية و (الاستجابة للتداعي) ، يساعد على تحقيق المخطط الغربي بتشتيت التركيز، وهذا يختلف عن البحث عن الجذور والربط بين الظواهر لاستخلاص النتائج والحلول لمشكلة ما.
٣ كما ظهرت بعض محاولات لاستخدام تكتيك (مصارع الثيران) ، وهذا التكتيك يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من الجهد والمخاطرة، وهو يقوم على محاولة إشغال الطرف الآخر بمثيرات أخرى جانبية، وتوجيهه وجهة ـ أو وجهات ـ معينة بحيث يفقد تركيزه وينصرف عن هدفه، ويظهر هذا التكتيك هنا بمحاولة إشغال الرأي العام بقضايا مثيرة أو حساسة أخرى، لتشتيت تركيزها المنصب في قضية موحدة، وصرف انتباهها إلى قضايا أخرى هامشية ومؤقتة.. وعلى سبيل المثال: فقد نشرت صحيفة (ذي جارديان) البريطانية أوائل شهر فبراير (أي: في ذروة الغضب الشعبي الإسلامي) صورة سمكة من نوع أوسكار تحمل على حراشفها لفظ الجلالة (الله) واسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- (محمد) ، وبالطبع فإن الصحيفة البريطانية لا تؤمن بالله ولا بالرسول، ولكنها تلقي الطعم ليتلقفه السذج والبسطاء ـ أو المغرضون! ـ ويتخذوا من الخبر دليلاً على صحة إيمانهم، ثم يعملوا على نشره (تعاوناً على الخير) ، فينشغل الرأي العام به، مما يفقدهم تركيزهم في القضية التي كانوا يهتمون بها، فتضعف طاقتهم ...
وهذا الأسلوب نفسه استخدم مراراً قبل ذلك، وإذا كان القارئ ذا ذاكرة قوية فإنه يمكن أن يستدعي قصة البنت العُمانية التي (سُخطت) بعد تحديها أمها في المعصية.. فقد راجت تلك القصة بعد ضجة تدنيس المصحف في غوانتنامو وظهور فضائح التعذيب في (أبو غريب) .
٣ أما تكتيك تفتيت القوة المضادة فيظهر في محاولة اللعب على المذهبيات والطائفيات والعرقيات، كما يمكن أن يندرج تحته محاولة الساسة الغربيين والإعلام الغربي استغلال حوادث الحرق والتخريب والعنف التي صدرت من بعض المحتجين، إذ إنه بجانب استغلاله لهذه الأحداث دليل إضافي يقدمه لجمهوره على وحشية المسلمين وتخلفهم وتعطشهم للعنف ومهاجمة (المسالمين) ، فقد حاول بتضخيمها حرف القضية عن أصلها، لتتحول إلى قضية (عنف وتخريب وإرهاب) يرفضها كثير من المشاركين في الاحتجاجات، أو يخشون من عواقبها، مما يدفعهم إلى غلق أبوابهم عليهم، والاكتفاء بـ (اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين) .
كما أن نشر الرسوم في أكثر من صحيفة يهدف أيضاً إلى تفتيت قوة المقاطعة الاقتصادية الشعبية للدانمرك؛ لأنه بعد النشر في بلاد مختلفة وعدم استطاعة مقاطعة كل هذه البلاد، فسيكتفي كل فريق بمقاطعة بلد ما، وعندها يخف الضغط الواقع على البلد الأصلي.
٣ أما تكتيك ازدواجية الخطاب الإعلامي، فإنه يهدف إلى ترويض الخصم بأقل قدر من التنازلات، ومما يساعد في تحقيق آثاره عاملان: العامل الأول: عدم معرفة الخصم المستهدف إلا بالخطاب الموجه له فقط، العامل الثاني: جهل هذا الخصم يدلالة مفردات الخطاب الموجه له بدقة؛ فقد وضح في هذه الأزمة التلاعب الإعلامي وعدم انتباه معظم المهتمين (وسط الفوضى والغوغائية) لفروق الألفاظ (كالفرق بين الأسف والاعتذار، وبين الاعتذار عن الفعل وعن آثار الفعل ونتائجه، وبين سحب السفير واستدعاء السفير ... ) ، ولدلالة عبارات، مثل: (لم نستورد من الدانمرك، يملك أسهمها شركاء وطنيون، يصنع في بلادنا ... ) ، ولضيق المقام نوضح فرقاً واحداً، هو الفرق بين الأسف والاعتذار:
فالأسف يكون عن أي فعل أو قول يُحزِن الإنسان أو يغضبه أو يتحسر عليه، سواء صدر منه أو من غيره، وسواء أكان بقصد أو غير قصد، أما الاعتذار فهو طلب رفع اللوم والذنب، فالاعتذار يتضمن الاعتراف بالخطأ والذنب، ويحمل في طياته المسؤولية عن الفعل أو القول، وهذا قد يترتب عليه عقوبة أو عوض.
أما الإشباع النفسي للخصم، فيتم عن طريق الإدلاء بمعلومات معينة ـ صحيحة أو مغلوطة ـ تساعد على إحساس المقاطعين بنشوة نصر كاذب؛ مما يخمد حماسهم ويوقف استمرارهم؛ لأنهم بلغوا هدفهم و (أثخنوا) في عدوهم.
وكمثال على هذه الأخبار: ما أعلنه سفير الدانمارك بالقاهرة (يان سورنسن) أن حجم الخسائر المترتبة على مقاطعة الدول العربية للمنتجات الدانمركية بلغت ٣٥ مليار يورو، إضافة إلى زيادة نسبة البطالة داخل الدولة، مشيراً إلى أن المصنع الدانمركي الذي أغلق أبوابه بالسعودية مع مقاطعة المنتجات بصفة عامة أدى إلى فقدان ١٥ ألف وظيفة داخل الدانمارك، وقد تصل إلى ٥٠ ألفاً إذا استمرت المقاطعة لفترات أطول من ذلك.
وخبر غيره يقول: إذا استمرت المقاطعة حتى شهر أغسطس فستصل خسائرهم إلى ٣٩ مليار يورو.
وخبر آخر يقول: شركة آرلا الدانمركية تخسر ١.٨ مليون دولار يومياً بسبب المقاطعة.
ومسؤول في شركة ألبان دانمركية يقول: «ما بنيناه خلال ٤٠ عاماً خسرناه خلال أيام» .
وقد ساهم في نشر هذه الأخبار رسائل قصيرة من مصدر مجهول أرسلت إلى الهواتف المحمولة ... و (انشر) !!
الملحوظة الرابعة: وهي عن الخطاب الدعوي في الأزمة، فالملاحظ أن معظم الخطاب الإسلامي كان موجهاً للداخل فقط، مع اتسامه بالعاطفية وعدم التنظيم مما يقلل من جدواه وثمرته.
كما ظهرت الهزيمة النفسية في خطاب بعض (المدافعين) عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أقلها: التستر خلف رفض إهانة (الرموز الدينية) لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
كما حاول بعض المحسوبين على الدعوة إظهار (التعقل) والتحلي بالمناداة بالحكمة (يريدون التهدئة وعدم التهور) ، وإذا كانت الحكمة مطلوبة في كل شيء فيجب أن يستحضر أن الحكمة الحقيقية هي وضع الشيء في نصابه، ونصاب هذا الأمر معروف لدى من له أدنى إلمام بعلم شرعي، ومن نصابه أيضاً: أن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته، ولكن ليس لأمته أن تعفو عن هذا الجاني عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وهناك خطأ استراتيجي يقع فيه بعض الدعاة في مثل هذه المواقف، وهو إذاعة المقارنة بين الأزمة الراهنة والمصائب الأكبر التي يحيا فيها المسلمون، وإذا كان هذا الكلام يحتمل أن يكون صحيحاً من ناحية التنظير والواقع، إلا أنه قد يكون أحياناً غير موفق من ناحية التحرك الدعوي أو السياسي.
ففي مثل حالتنا فإن نشر مقولة إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهان في أوقات كثيرة بترك هديه والإعراض عن شرعه.. في الوقت الذي يتلظى الناس جمراً مما أصاب نبيهم ويبدون استعدادهم للبذل في سبيل نصرته ... لا يكون موفقاً فيما أحسب.
أعتقد أنه من الضروري على حملة الدعوة تبني قضايا الأمة الحيوية حتى ولو كانت هذه القضايا لاحقة في ترتيب الأولويات أو التتابع المنطقي للعمل الدعوي، ولكن بشرط رد هذه القضايا إلى أصولها وربطها بأصل الإسلام والتوحيد وليس فقط معالجتها معالجة (علمانية) باردة ولو باسم الإسلام، وهذا منهج الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ؛ فقد تقترن الدعوة إلى التوحيد بدعوة إصلاح اقتصادي وعدل اجتماعي: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: ٨٥] ، وقد تقترن بدعوة تطهر أخلاقي: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسَأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ١٦٠ - ١٦٥] .
فأمام السيل الجارف لاهتمامات الأمة نجد من يساير هذا السيل فيستهلك طاقته ويذوب فيه، ونجد من يحاول الوقوف أمامه لإيقافه ومنعه فيغرقه ويهلكه، ولكن يجب أن يوجد أيضاً من يحاول أن يغير مسار هذا السيل إلى الاتجاه الصحيح ويستفيد في الوقت نفسه من قوته الجارفة لكي تكون قوة إيجابية ... وهذا هو التحدي.
أما عن دعوة الخارج: فإنه بغضِّ النظر عن تعصب الشعوب الغربية ضد الإسلام والمسلمين، وبغض النظر عن حقد قادتهم وموجهيهم وعدائهم للإسلام والمسلمين، فإن الواقع والوقائع تثبت دوماً أن عموم الشعوب الغربية ـ ولا أتحدث عن قياداتهم التي تسوقهم ـ تعيش حالة من الجهل المركب عن الإسلام والمسلمين، وهذا ما أثبتته هذه الأزمة؛ فقد ذكر المسؤول عن الرسوم الكاريكاتيرية أن معلوماته عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قليلة، وبتتبع انطباعات الشعب الدانمركي تبين أنهم فوجئوا ـ بعد الأحداث ـ بأن المسلمين يصل تعدادهم لأكثر من مليار نفس.
وبالطبع فإن ذلك نتيجة أن معلوماتهم (القليلة) استقوها من مستشرقين معظمهم مغرضون أو من رجال دين نصارى متعصبين ومنتفعين، مقالات وكتب ودراسات وقصص وروايات ونصوص مدرسية ومناهج تعليمية وكتابات ساقطة.. كلها تعمل على تشويه صورة العرب والمسلمين في عيون الرأي العام الغربي، وكلها تعمل على تعمية بصيرة الغرب وتجهيله عن الاطلاع بوضوح على الإسلام وحضارة العرب والمسلمين، وكلها تصر جاهدة على استمرار تفريخ صورة الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وأيضاً نتيجة تقصير المسلمين في إيصال الدعوة الإسلامية بشكل يتناسب مع حجم المسؤولية.
وفي الأزمة الراهنة يزيد الوضع سوءاً ما أشيع عن أن رئيس تحرير كل من صحيفة يولاند بوستن الدانمركية ومغازينات النرويجية اللتين نشرتا الصور المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي وممولي ومصدري معلومات قسم الدراسات والأبحاث في مركز سايمون فيزنتال اليهودي، الذي يهدد مصالح العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم بحجة دفاعه عن السامية؛ فالأصابع الصهيونية ـ التي لا تريد خيراً لمسلمين ولا لنصارى ـ غير مستبعدة من هذه القضية، والصحيفة الدانمركية لا تخفي توجهها الصهيوني، بل تضع نجمة داوود شعاراً لها على اسمها في الإصدارات المطبوعة وعلى اختصار رابطها الموصل لموقعها على الشبكة العالمية، ويعضد ذلك أن المسؤول عن نشر الرسوم المسيئة فيها عندما صرح باستعداده لنشر مسابقة أعلنت عنها صحيفة إيرانية حول رسوم تتناول محرقة الهولوكست.. لم يتوان مسؤولو الصحيفة عن إعطائه (إجازة إجبارية) غير محددة المدة.
إننا في زحمة التدافع وسخونة الصراع يجب ألا ننسى أننا أصحاب دعوة إلى دين الله الحق، وأن مهمتنا ـ مع بسط سلطان الله في الأرض ـ استنقاذ البشر من أن تجتالهم الشياطين وتختم لهم بالموت على الشرك بالله والكفر بدينه، وأن القوى الصهيونية والصليبية يهمها الحيلولة بين الشعوب ودين الله الحق ... وكل ذلك يوجب علينا ـ بجانب الانتصار لنبينا ـ بذل أقصى جهد للدعوة إلى دين الله، بل إن ذلك من أكبر صور الانتصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الملحوظة الخامسة: لا يستطيع أي عاقل إنكار أن التحرك الشعبي انطوى على إيجابيات عديدة: فقد اتحد الجميع على الوقوف ضد إهانة نبيهم، وهذا لم يحدث مثله منذ وقت طويل، حتى نستطيع القول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاد المسلمين من جديد، وعلَّم العالم ـ وخاصة الغرب ـ معرفة مدى المكانة التي ما زال يحظى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلوب المسلمين رغم الجهود الدؤوبة لإبعادهم عن دينهم، وكذلك اهتم العالم بشخصيته -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت قضية الساعة، وقد ينتج عن ذلك أن يصل بعض الباحثين عن الحقيقة إليها ويدرك ظلم الإعلام الغربي المتصهين، وقد كان رد الفعل الشعبي في عموم الدول العربية والإسلامية شديداً لدرجة أحرجت معظم حكومات تلك الدول وأخرجتها عن صمتها على الرسوم، ودفعتها للتنديد باستهداف شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإسلام، لامتصاص الغضب الشعبي، أو لحين التشاور مع القيادات الغربية لإيجاد الحلول والخروج من المأزق الذي أوقعهم به السلوك الغربي الفج.
ورغم كل ذلك نستطيع القول: إن تعامل عوام المسلمين مع الأزمة اتسم بالتوهج العاطفي في الشعور، واختلاط الوعي الإيجابي بالوعي الزائف عند كثير منهم، والارتجالية أو الفوضوية في السلوك، بالإضافة إلى الحياة بإسلام الفضلة في الإرادة والتضحية عند بعضهم.
وهنا يجب أن ندرك أن أعداءنا يعوِّلون على استغلال السلبيات الكامنة فينا لإفشال جهودنا نحن وحرماننا من ثمراتها.
ومركوز في أذهان أعدائنا أننا شعوب عاطفية هوجاء تشتعل بسرعة وتنطفئ بسرعة ولا يحركها المبدأ والفكرة، وأنها قصيرة النَّفَس لا تستطيع الاستمرار أو الصمود مدة طويلة، فوضوية لا تعرف كيف تحقق هدفها، وهذا فيه قدر من الصحة، وتعالوا نراجع: افتتاح نفق الأقصى وتهديده بالهدم، ودعم المجاهدين في فلسطين، والموقف من العراق، وقبلها الشيشان وأفغانستان وكوسوفا، وموقفنا من كارثة تسونامي، وزلزال كشمير، إهانة الجنود الأمريكان للمصحف في غوانتنامو والعراق.. وكلها أزمات تحمسنا للمشاركة فيها بصورة من الصور، ثم خمدت الهمم رغم استمرار هذه الأزمات وحاجة المسلمين فيها للدعم والمؤازرة.
فمعظم هذه الأزمات تعاطفت معها الجماهير وقامت بمظاهرات صاخبة وأعلنت المقاطعة للمعتدين، ولأن دافع هذا السلوك كان هو العاطفة فإنه بعد انطفاء توهجها ـ خاصة مع وجود إعلام يحترف التضليل والتزييف ـ خمدت مظاهر الاحتجاج انتهت المقاطعة بدون تحقيق هدفها ـ إن كان لها هدف ـ ولكن لو تحركت الجماهير من أجل فكرة ومبدأ لظلت على سلوكها حتى يتحقق لها ما تريد، بل يمكن القول: إن أحد أسباب إقدام الغرب على إهانتنا وظلمنا هو معرفته بهذه الصفات فينا.
سادساً: تساؤلات شرعية في خضم الأزمة:
سأتجاوز هنا عرض عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذه العقوبة يعرفها من له أدنى إلمام بالعلم الشرعي ـ كما سبق أن ذكرت ـ كما سأتجاوز أيضاً الاعتراض على أصل مشروعية المقاطعة؛ إذ أراه اعتراضاً بارداً؛ فالحصار أشد من المقاطعة، وقد كان شائعاً ومعروفاً شرعيته، كما أن المقاطعة تدخل تحت باب وسائل إنكار المنكر، ولمزيد من الإيضاح يمكن الرجوع إلى تفسير قوله ـ تعالى ـ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: ٧٨] وأمثالها من الآيات ... ولكني سأستعرض هنا بعض التساؤلات الشائكة بالفعل والتي تحتاج إلى وقفات وبحث متعمق ومتأنٍ من هيئة شرعية أو أكثر من عالم متخصص يحيطون بعلم الشريعة وعلم الواقع، وإذا كنت أعتقد أني لست أحد هؤلاء فإني سأعرض ما يدور في أذهان بعض الناس من أفكار وأدلة و (وجهات نظر) أو تساؤلات شرعية لها وجاهتها، ولكن قبل هذا العرض أحب أن أذكّر بأن حقيقة إسلامنا تقتضي أن نستسلم جميعاً لأوامر الله ـ عز وجل ـ أياً كانت، وألا نقدم بين يدي الله ورسوله، بمعنى ألا ننساق خلف عواطفنا أو (أهوائنا) وألا نضع نتيجة نرغب فيها ونبحث لها عن مقدمات تؤدي إليها، وهذا ما أظن أننا جميعاً متفقون عليه، أما التساؤلات فهي كما يأتي:
التساؤل الأول: إذا علمنا عقوبة المستهزئ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهل هناك فرق بين حالة الاستضعاف وحالة التمكين في كيفية الرد على المستهزئ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه؟ لقد ذكر القرآن سخرية المكذبين ببعض الرسل كما في قوله ـ تعالى ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: ٣٨] ، وذكر استهزاء المشركين برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: ٩٤ - ٩٥] ، ومع ذلك لم يَسْعَ رسول الله إلى عقوبة المستهزئين من كفار قريش؛ فهل كان ذلك لأن هذه العقوبة لم تكن مشروعة بعد، أم لعدم التمكن من إيقاعها بسبب حالة الاستضعاف التي كان يعيشها المسلمون؟ إن دعوى نسخ الآية بآية السيف التي كثيراً ما يذكرها بعض المتحمسين نقلاً عن بعض العلماء لا تصمد أمام التدقيق العلمي، حيث لا تنطبق شروط النسخ على الآيتين (آية السيف وآية الإعراض) ، ولذا يرى بعض العلماء أن حال المسلم في النصرة يختلف من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وصارت تلك الآيات (آيات الصفح والعفو والصبر على الأذى) في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام؛ فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» (الصارم المسلول، جـ٢، ص٤١٤) ، فما مدى انطباق ذلك على حالتنا؟
التساؤل الثاني: هل المقاطعة ـ أو أي عقوبة جماعية أخرى في حالتنا ـ يعد أخذ أناس بجريرة غيرهم سواء في الداخل (التجار والعاملين المتضررين) ، أو الخارج؟ المعروف أن الأصل في دين الله عدم أخذ البلاد والنَّاس أجمعين بجريمة واحدٍ منهم إذا لم بتواطؤوا على تأييدها أو المشاركة فيها، فقد قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] ، {وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: ١٥] ، وهل (في مثل الحالة التي نحن بصددها) امتدت عقوبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن الأشرف ـ الذي آذى الله ورسوله ـ إلى جميع قومه وكل من استمع شعره وحضر مجالسه التي نال فيها من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ إن العدل يجب أن يكون حادينا في جميع الأحوال حتى ولو كان شاقاً على نفوسنا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: ٢] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: ٨] ، {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: ٣٣] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: ١٣٥] .
وهل تغيُّر الملابسات والظروف الحالية يوجب إيجاد فقه جديد وفتوى جديدة في المسألة؟ ومن المخوَّل بإصدار مثل هذه الفتوى؟
يحتج بعض الناس هنا بأن استطلاعات الرأي أوضحت أن غالبية الشعب الدانمركي تؤيد عدم اعتذار الصحيفة عن فعلتها وتؤيد موقف رئيس الحكومة في ذلك، ويرد آخرون بأن ذلك الاستطلاع جرى بعد أكثر من شهر من المقاطعة، أي لم يكن المقاطعون يعرفون كيف يبنون مقاطعتهم على هذا الأساس، كما أنه يمكن القول إن ذلك لا يعني الموافقة على الفعل نفسه، ولكنه من قبيل تأييد حق الآخر في إبداء رأيه سواء أكان موافقاً له أو مخالفاً له، «يمتد العداء في هذه القضية إلى أطراف ومستويات عديدة، لا ريب أن معظمها يفكر في الأصل بطريقة مشابهة لما يفكر به الرسام والصحيفة، ولكن لا ريب أيضاً أن الرد لا ينبغي أن يستهدف من يفكر بل من يتصرف ويسيء؛ فهذا ما يساعد على امتناع أصحاب التفكير المشابه عن «التصرف والإساءة» . (نبيل شبيب ـ الإساءة لمقام النبوة بين الجماهير والنخب ـ موقع الجزيرة نت) .
سابعاً: حول المقاطعة، واقتراحات لجعلها أقل فوضوية وارتجالية وأكثر فاعلية:
تعد المقاطعة الاقتصادية أحد أساليب المقاومة السلمية الفعالة والمؤثرة إذا أُحسن استخدامها، ولكن يجب أن ندرك أنها ليست الأسلوب الوحيد للمقاومة، كما أنها قد لا تكون سلاحاً فعالاً لمواجهة هذه الجرائم والحد منها أو الرد عليها في بعض الظروف والأحوال؛ فقد تصلح المقاطعة في بلد وتكون دون جدوى في بلد آخر، وذلك حسب حجم التعامل الاقتصادي بين البلد المقاطِع والمقاطَع، وعند عدم جدوى المقاطعة يجب التفكير في وسائل تأثير أخرى بحسب ظروف كل بلد (مظاهرات، اعتصامات، احتجاجات....) .
ولكن التساؤلات التي تفرض نفسها، هي: ما مصير المقاطعات السابقة؟ وهل حققت أهدافها؟ ومتى توقفت؟ وهل توقفت بقرار منا وإرادتنا؟ وما السبيل لجعل المقاطعة أكثر فاعلية وأشد إيلاماً؟
وبغضِّ النظر عما حدث من محاولة الدول الأوروبية فتح عدة جبهات في آن واحد على المقاطعين والمحتجين، فإن الواقع يقول إن التداخل السياسي والاقتصادي بل والإداري آخذ في النمو بين هذه الدول، فأوروبا تتجه منذ فترة للتحول إلى (الولايات المتحدة الأوروبية) ، بحيث سيصعب في أحيان كثيرة تحديد منتج معين موسوم بعبارة (Made in ---) من الدول الأوروبية، أو فصل دولة معينة واتخاذ إجراء معين يمسها هي بالذات بحيث لا يتداخل مع دول أخرى؛ ففي هذه الحالة سنحتاج بشكل أكبر إلى تنظيم المقاطعة وحسن إدارتها لتكون ممكنة وفعالة.
ينبغي أن نلاحظ أولاً أنه إذا افترضنا أن المقاطعة الاقتصادية هي الخيار المناسب في أزمةٍ ما؛ فهذا لا يعني أن المقاطعة هي السلاح المناسب كل مرة؛ فكثرة استخدام المقاطعة مع عدم ترشيدها وتنظيمها سيؤثر مستقبلاً على فاعليتها وقوتها وتأثيرها، لذا لا ينبغي أن نرمى به في كل معركة وحالة دون النظر في مناسبته، وكيفية استخدامه، والوسائل التي تضمن فعالية نتائج هذا الاستخدام، وعدم الخروج من ذلك بنتائج عكسية ... «إن كل تحرك جماهيري يصنعه الوجدان الحي في الأمة لا يؤدي مفعوله على الوجه الأمثل، إلا إذا توافرت من ورائه عناصر التوجيه والتخطيط والتنظيم، وهذا بالذات ما افتقدته مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، وتفتقده الآن مقاطعة البضائع الدانماركية» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق) .
وهذه بعض الخطوط التي أتصور أنها تساعد على إنجاح المقاطعة الاقتصادية باعتبارها إحدى وسائل المقاومة:
١ ـ تحديد حجم التعدي وقدر العقوبة التي يستحقها والوسيلة المناسبة للرد عليه والتعامل معه.
٢ ـ أن تكون هناك جهة أو جهات يسترشد بها أو ينسق معها في خطوات المواجهة، ويمكن الاسترشاد في ذلك بما ذكر في الملحوظة الخامسة من (ثانياً) .
٣ ـ تحديد أهداف للمقاطعة، وتتحدد الأهداف بحسب نوع وحجم الاعتداء (فقد تكون بانسحاب قوات، أو تقديم اعتذار، أو إلغاء توكيلات، أو محاكمة أشخاص، أو استرداد مظلومين، أو نشر تعريف صحيح من قِبَلنا بالإسلام والرسول ... ) ، بحيث تظل هذه المقاطعة مستمرة حتى تتحقق هذه الأهداف، وإذا تحققت هذه الأهداف تلغى المقاطعة، أو تحديد مدى زمني معروف تتحقق فيه الأهداف المحددة أو معظمها، وأهمية هذا التحديد تكمن في ألا يكون قصر النَّفَس أو الإيقاع في الحرج العملي لبعض الفئات مدعاة لإضعاف سلاح المقاطعة وجعله بلا جدوى أو ضعيف التأثير بعد ذلك.
وتحديد الهدف سيجعلنا أقرب إلى معرفة الممكن وغير الممكن، حتى لا نسعى إلى مستحيل أو صعب لا يتناسب بذل الجهد فيه مع الثمرة المتوقعة من ورائه، فلا يتحقق هدفنا ويؤثر على معنوياتنا.
وعلى سبيل المثال، ففي الأزمة الحالية طالب كثيرون باعتذار رئيس الحكومة الدانمركية عن النشر، أو محاكمة من نشر هذه الرسوم، وبغض النظر عن التحفظ في كون هذا الاعتذار هو الهدف المطلوب أم لا، ويكفي للرد على هذه الجريمة أم لا يكفي، فإننا إذا فهمنا طبيعة هذا المجتمع يتضح لنا أن هذا المطلب غير منطقي، وذلك من عدة نواحٍ:
أولاً: يجب أن نضع في اعتبارنا أن القوم يكفرون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحقيقة بالله وبجميع الرسل، وليس من المنطقي أن نطالبهم بمقتضيات الإيمان به قبل حدوث هذا الإيمان، أي: ليس لنا الطلب منهم بمعاقبة من يستهزئ برسول لا يؤمنون به وخاصة أن ذلك ليس مجَرّماً في منطق عدالتهم، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن نحقق نحن مقتضيات الإيمان به في أن ننتصر له ونذب عنه، وهنا ينبغي ملاحظة الفرق بين تناول شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ناحية فكرية أو عقائدية التي قد تقبل مجادلة ودعوة، وبين النيل منه بالسخرية والاستهزاء التي ليس لها إلا العقوبة والتأديب.
وهذا يجعلنا نعرف ما الذي نفعله وما الذي نطالب به؟
ثانياً: يجب أن نعرف طريقة حكم هذه البلاد القائمة على الفصل بين السلطات؛ فالصحافة والإعلام سلطة منفصلة عن الحكومة، ولا سيطرة للأخيرة عليها إلا في ضوء القانون؛ فهي لا تنشر ما تنشر بموافقة الحكومة أو إذنها، والحكومة لا تستطيع محاسبتها على ما تنشره؛ فمطالبة الحكومة بالاعتذار مطالبة بمحال وغير عادلة من وجهة نظرهم، ونستطيع فهم ذلك من طرح سؤال: (من المسؤول عن المشكلة حتى يعتذر عنها؟) . إن مطالبتنا لرئيس الحكومة بالاعتذار تقع عليهم كمن يطالب وزير الأوقاف عندنا بالاعتذار عن خطأ وزير البترول! وهذا لا يعني أنهم لا يضمرون ما نشرته الصحيفة، ولكن هذه مسألة أخرى.. وفي ضوء ذلك نفهم أن رفض شريحة استطلاع الرأي لاعتذار رئيس الحكومة كان منطقيّاً، ونفهم لماذا كانت نسبة من يرفض اعتذار رئيس الحكومة أعلى من نسبة من يرفض اعتذار الجريدة.
ومن ثم: تكون مطالبتنا نحن بذلك وجعله هدفاً نسعى إلى تحقيقه نوعاً من العبث.
ثالثاً: كما أن الاحتجاج بإمكانية محاكمة من يعادي السامية أو يشكك في الهولوكست لا يصلح أيضاً من وجهة نظرهم؛ لأن هذه المحاكمات تعقد بناء على قانون عندهم يجرم هذه المعاداة وهذا التشكيك، ولا يوجد قانون آخر يجرم السخرية من الأنبياء (هكذا كفرهم!) ، ولا جريمة إلا بنص (قانون) كما هو معروف عند الحقوقيين، ولذلك قال بعض الحقوقيين: إن المدخل الصحيح لهم هو اعتبارها جريمة إنسانية (تتعلق بحقوق الإنسان) وسياسية، وليست قانونية.
٤ ـ تحديد الشريحة الموجهة لها المقاطعة والتي يكون لها صلة منطقية بمقترف التعدي أو لها تأثير محسوس في إزالة التعدي، وتحديد العدو المستهدف تحديداً دقيقاً.
«فالفارق كبير على سبيل المثال بين اختيار منتجات معينة، لشركات تساهم إسهاماً مباشراً ـ وليس تحت عنوان تسديد الضرائب لحكومة عدوانية وما شابه ذلك ـ في العدوان على المسلمين والإساءة إلى مقام رسولهم الكريم، وبين تعميم المقاطعة على كل منتج وكل شركة تحمل الاسم الأميركي أو الآن الدانماركي.
الصيغة الأولى: تساهم في تحويل عدو محدد المعالم إلى عدو كبير، وفي تحفيز من لا يتضامن معه في الأصل إلى التضامن «تعصباً» ، والصيغة الثانية: يمكن أن تؤثر من منطلق التفكير في المصالح الذاتية في الامتناع عن المشاركة في العدوان والإساءة، بل ربما في المشاركة في الضغوط على من يمارسهما ليمتنع عن ذلك.
الصيغة الأولى: تسمح بالتواصل مع جهات عديدة في الغرب ممن يسعى لاستعادة مكانة القيم في المجتمع، وممن يرفض ممارسات العدوان والإساءة، للعمل على تحرك مشترك، والصيغة الثانية: تثير لدى هؤلاء التخوف من مثل تلك المشاركة، لا سيما في ظل تعميم خطاب المواجهة والاحتجاجات بما يشملهم ولا يميزهم عن سواهم» (نبيل شبيب ـ مصدر سابق) .
وتحديد الشريحة المستهدفة سيجعلنا نتوخى الحذر في عدم إصابتنا لآخرين قد يكون من الظلم أن ينالهم أثر المقاطعة، وهنا يأتي ذكر الشركات والتجار وأصحاب المصالح المرتبطة بالجهات المقاطعة: حيث لوحظ أنه بجانب العاطفة الصادقة في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعضهم، فإن الذعر من المقاطعة، والمراوغة في الالتزام بها، وركوب الموجة واستغلال تحصيل الحاصل، والنفاق الاقتصادي.. ظهر من سلوك بعض الشركات والتجار.
ولا شك أن الإحساس بظلم وقع عليهم وعدم القناعة باستحقاقهم لتلك العقوبة التي تأتي على جريمة لم يقترفوها يعد أحد أسباب هذا السلوك، خاصة والبضائع التي سيخسرونها اشتروها قبل حدوث الجريمة، وأنهم لم يشتركوا في هذه الجريمة، ولا يرضون بها.
منطق العدالة يقول: ما دام أن الأمة توجهت جميعها إلى المقاطعة فمن الواجب أن يشارك جميع القادرين في تحمل تبعات هذه المواجهة؛ فالمقاطعة قد لا تعدو عند كثير من (الأفراد) أكثر من (تغيير الصنف) ، ولكنها عند بعض التجار والعاملين تعني خسائر بالملايين أو إغلاق مصادر رزقهم لذنب لم يقترفوه هم، وهذا قد يكون أحد أسباب التحايل والالتفاف على المقاطعة ومحاولة إجهاضها من قِبَل بعض الشركات المحلية.
وإضافة إلى العدالة فإن مساهمة هذه الشركات والتجار في المقاطعة يعد أحد أسباب نجاحها؛ لذا أقترح: مشاركة بعض المسلمين في تحمل تبعات من يتضررون من المقاطعة رغم عدم مشاركتهم في التعدي، مثل المشاركة في تحمل تكلفة البضائع المشتراة قبل المقاطعة (مع تعهد التاجر أو المستورد نفسه بمقاطعته لهذه البضائع فيما بعد ما دامت المقاطعة سارية) ، أو المساعدة في توظيف العاملين في المنشأة إذا كان سيترتب على المقاطعة تضرر منشأتهم أو إغلاقها أو فصلهم من عملهم.. ويمكن إنشاء صندوق لدعم المقاطعة يتم بحصيلته شراء هذه المنتجات وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، أو فتح حسابات للجمعيات الخيرية نفسها لتشتري هي هذه البضائع وتتولى توزيعها بمعرفتها.. وذلك من العدل، إضافة إلى أنه سيقلل من معارضة بعض الشرائح للمقاطعة ويزيد من فاعليتها وواقعيتها.
كما أقترح إنشاء مشروع متجر وطني (الإسلامي) ، يقوم على تشجيع منتجات البلدان الإسلامية والاقتصار عليها، بحيث تكون نسبة المنتج المصنَّع في هذه البلاد لا تقل عن ٥٠%، وألا تحمل هذه المنتجات علامة تجارية لمنشأة رأسمالها لغير المسلمين، وألا يوظف في جميع هياكله الوظيفية غير المسلمين، أي أن يتبنى مقاطعة جميع البلدان غير الإسلامية طوال العام، وهذه الفكرة تحتاج إلى دراسة اقتصادية لوضع معايير نجاح المشروع، وأظن أن فرص نجاحه ليست بالقليلة، كما أن ذلك لا يتعارض مع اتفاقية منظمة التجارة؛ إذ إنها تشترط عدم منع منتج ما (إذا طلب) ، ولا تستطيع إجبار أحد على شراء منتج معين.
٥ ـ أن تكون المقاطعة شاملة، بمشاركة جميع المسلمين في المقاطعة بترجمة الدعوات إلى ذلك ونشرها بين أوساط المسلمين غير الناطقين بالعربية في بلادهم، وأن تكون شاملة لجميع الأنشطة والجوانب الاقتصادية والإعلامية وغيرها، وأن تكون شاملة أيضاً للمقاطعة العكسية.
٦ ـ العمل بأسلوب الحملات الإعلامية في الترويج للمقاطعة: أي أن تتزامن الدعوة إلى المقاطعة في جميع وسائل الدعاية والإعلام، كالجرائد والمجلات والإذاعة والتلفزيون ـ حتى ولو في صورة إعلانات مدفوعة الأجر ـ وخطب الجمعة والمحاضرات والدروس، والإنترنت (بجميع إمكاناته) .
هذا ما يحضرني، وهذا اجتهادي؛ فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، أدعو الله أن يغفره لي.