للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[بل ظاهرة أصيلة عامة]

-التحرير-

من الأفكار التي يحاول أعداء الإسلام إشاعتها بالإلحاح بتردادها أن عودة

المسلمين إلى التمسك بدينهم ووضعه في الاعتبار ليست ظاهرة أصيلة عامة، وإنما

هي ظاهرة جزئية يقوم بها شباب يائس يعيش تحت ضغط ظروف اجتماعية

واقتصادية صعبة، وأغلقت في وجهه كل الأبواب، فلجأ إلى الإسلام كنوع من

الهروب من مشاكله، وصنع لنفسه جواً يشعر فيه بالأمان والاطمئنان!

وقد جعلوا من عودة الشباب المسلم إلى الاعتزاز بعقيدته وإحلالها المحل

الأول من حياته نوعاً من أحلام اليقظة التي لا تعدو - عند الإغراق فيها - أن

تكون مرضاً نفسياً يحتاج إلى علاج! ! .

وهذه النظرة القاصرة المغرضة نابعة ابتداء إما من التحامل على الإسلام كدين، ... والكراهية العميقة له؟ وإما من الآثار الفكرية للمبشرين والمتربين في معاهدهم

ودهاليزهم. أي أنها تعود إلى سببين رئيسيين:

أ- كره للأديان عموماً والإسلام خصوصاً.

ب- جهل عميق بالإسلام؛ كيف ينتشر وكيف ينحسر.

إن هذه التحليلات المغرضة التي تمتلئ بها الصحف والمجلات أجنبية وعربية

عن أسباب رجوع الإنسان إلى عقيدته تبدو مضحكة في كثير من الأحيان

كما تبدو سمجة وثقيلة، وما أشبهها بكلام كثير من المستشرقين عن الإسلام

وأحكامه، وعن شخصية الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل إن هذه

التحليلات امتداد لذلك الفكر الذي أرساه المستشرقون، وعمل على ترسيخه أولياؤهم

في عالمنا الإسلامي.

ونحن نقول: إنه على الرغم من غثاثة هذا الفكر وسطحيته فإنه يجد من

يسمعه ويتعلق به ويعجب به من بيننا. ويساعد على ذلك أن هناك تقصيراً سببه

تقاعس أهل الفكر الصحيح، وأجواء فكرية تحدث من تكاسل هؤلاء؛ وجرأة أهل

الباطل التي تحتضن الغث وتروجه، وتقصي النافع وتشوهه.. لكن الذي يفوت

هذه التحليلات هو طبيعة الإسلام كعقيدة، وطبيعته في التفاعل مع الحياة، ويظنون

أن العقيدة الإسلامية إذا كانت في حالة ضمور فهي في طريقها إلى الموت دائماً.

نعم: قد يوجد من تضمر عقيدته، ثم تموت، ولكن هؤلاء نسبتهم قليلة، وبما أن الساحة ليست لهؤلاء فقط، حتى لو حُوْول إخلاؤها لهم بكل السبل، فإن من طبيعة البشر عامة أن تستخدم الاستقراء والاستنتاج كعمليات منطقية بسيطة، فتدرس الظواهر هنا وهناك، وتستنتج منها نتائج تعمل بمقتضاها. والمسلم إنسان قبل كل شيء، لو نظر حوله لوجد عشرات ومئات الظواهر والدلائل التي تلفته إلى دينه لفتاً، وتجعله يقتنع أنه لا يتلاعب به المتلاعبون ولا تجوز عليه الدعاوى والخدع إلا إذا كان رقيق الدين ضحل العقيدة. هذا على المستوى الفردي.

أما على المستوى الجماعي - سمه القومي أو الوطني إن شئت- فإنه كما

يستعبد فرد فرداً، ويهضم قوي حق ضعيف؛ فإن أمماً تأكل أخرى، وتذوب

حضارات وتندثر وتبنى على أطلالها حضارات، ولا يودي بالأمة سوى ضعف

العقيدة، وانحلال الروابط الدينية التي تجمع أفرادها ومؤسساتها، وعندما تنهزم

الأمة نفسياً، فتتخلى عن قيمها ومفاهيمها، وتجلب قيم ومفاهيم القوي تطبقها

راضية مختارة بلا تمحيص وبلا خجل؛ فهذا هو الانهيار والاندثار والذوبان بعينه. وقد ينخدع بعض الناس فتنعكس عندهم السنة الكونية التي تقول:

" حيث يكون الحق تكون القوة " فتصبح في نظرهم: " حيث تكون القو ة ...

يكون الحق " وهذا هو طريق الشيطان كما قال تعالى: [الشَّيْطَانُ ... يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: ٢٦٨]

وهكذا فإن من طبيعة المسلم أنه يمكن أن يؤوب إلى الحق، وإلا لما كان هناك من

التوبة، ويمكن أن يراجع نفسه فيصدقها وتصدقه، والله يحوطه ويرعاه سواء كان

مهتدياً أو ضالاً، وهو رحيم بعباده يصرِّف عليهم العبر والحوادث، ويمتحنهم

بالمصائب والرغائب [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم

مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: ٢٠١] " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر

الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم " (جزء من حديث أبي ذر المشهور الذي رواه

مسلم) .

وكما يتوب المسلم عن الفواحش كالزنا، وشرب الخمر، والاستهتار

بالمحرمات كذلك يتوب عن إهمال أمر الدين وعدم إحلاله المحل الأول في حياته

وعن التغني بالشعارات والبدع التي تستورد من أعداء الله شرقاً وغرباً، ويتوب

عن تجزئة الإسلام أجزاء؛ فهذا يرفضه، وهذا يقبله، وهذا ضروري؛ وهذا

هامشي! وعن قياس الإسلام على سائر النحل والأديان الأخرى، واعتبار حاله

بأحوالها، وعن تضييق المفهوم الرباني للإسلام وتقليصه إلى أن يقتصر على هذه

الحركات التي تمارس في المسجد، وإلى هذه التراتيل التي تسمع عند موت شخص، ولا شيء بعد ذلك.

وباختصار، فكما تكون التوبة من الموبقات الخلقية والسلوكية وارتكاب

الفواحش، والتهاون بأركان الإسلام؛ تكون أيضاً من الموبقات والفواحش الفكرية

والعقيدية الشائعة. وإذا شئنا أن نناقش تحليلات هؤلاء الجهلة بظواهر الأمور -

فضلاً عن جهلهم بنوايا المسلمين الذين يرجعون إلى دينهم زرافات ووحداناً - فإن

الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي يذكرونها لا تكفي وحدها لتفسير ذلك، وهذا

تكذيب للواقع، وإساءة إلى هذه الجموع العريضة من الشباب المسلم الذي يجتهد في

إثبات عقيدته والتمسك بهدي ملته، وتشكيك بتوجه هؤلاء؛ فلو كان العامل

الاقتصادي هو الدافع فما بالنا بهؤلاء الذين اختاروا هذا الطريق على الرغم من

البحبوحة التي يعيشون فيها؟ ماذا يدفعهم إلى هذا؟ أهو طمع في الزيادة؟ !

ثم ما بال هذه الجماهير التي ذاقت بسبب تمسكها بعقيدتها كل أنواع المحن من

قتل وسجن وتضييق وتشريد.. ومع هذا لم ترض الدنية في دينها، ولم تفتنها

التهديدات ولا الإغراءات عن التخلي عما تؤمن به؟ ! .

إن طرق المغريات المادية والمعنوية لم تزل مفتوحة أمام طلاب الدنيا، وما

على الإنسان الذي يريد المطامع الدنيوية إلا أن يشير ولو إشارة إلى امتعاضه من

المظاهر الإسلامية، ويتهجم على هذا التيار من الفهم والتفكير الذي يحس ويلمس

بين الجماهير المسلمة؛ حتى يُحْتَضَن وترفع درجته لينصب إما أديباً عبقرياً، أو

مفكراً مستنيراً جريئاً، وبعد أن يكون نكرة فقيراً مطوياً في براثن الإهمال والضعة؛ يصبح معرفة غنياً طافياً على سطح المجتمع.

إن تفسير رجوع الناس إلى دينها هذا التفسير الفج مثل تفسير كارل ماركس

للتاريخ، وبقدر تهافت الماركسية وانهيارها؛ ستنهار هذه التفسيرات والتحليلات إن

شاء الله. وهذا التفسير والتفسير المادي للتاريخ هو نفسه تفسير المستشرقين

والمستغربين للفتوح الإسلامية بأنها فتوحات وهجرات اقتصادية خرج فيها العرب

من جزيرتهم تحت ضغط الحاجة، وانساحوا في البلاد للنهب والسلب لتحسين

وضعهم الاقتصادي! وهكذا تجرد هذه الموجات الكاسحة من الشباب المسلم من أي

دافع مشروع، ومن أي هدف نبيل، وتشوه صورتها لتبدو موجات مسعورة، تنشر

الفوضى والتخريب، ليكون ذلك مسوغاً لضربها أو علاجها بكافة الطرق، تجرد

هذه الجماهير من الأحفاد كما جردت أجدادها من الغايات السامية، والأهداف

العظيمة، وتصاغرت تضحياتهم ودماؤهم المسفوحة في كل ربوة، وفوق كل ثرى

لتكون من أجل البحث عن لقمة الخبز فقط، أما سبيل الله، والجنة، وجزاء

الصابرين، وغسل العار، والعزة الإيمانية، وحرب الظلم والطغيان، والرباط،

والشهادة، ومن هو في سبيل الله، ومن هو في سبيل الشيطان. كل ذلك لا قيمة له

ولا وجود له في نظر علماء الاجتماع الذين يبحثون في الظواهر الإسلامية وهم

يعيشون خارجها.

ولكن أنى لإنسان أن يصف لك ألمك كما تشعر به حتى ولو كان طبيباً ألمعياً؟

تشتكى ما اشتكيتُ من ألم الشو ... ق إليها والشوقُ حيث النحول

وإذا خامَرَ الهوى قلبَ صب ... فعليه لكل عين دليل