للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستطراد عند ابن تيمية]

عبد القادر حامد

أكثر من ترجم لابن تيمية أو كتب عنه تعرض للحديث عن مؤلفاته

وخصائص أسلوبه ومنهج تفكيره، لذلك لن أعيد ما قالوه، وإنما أشير إلى قضية

الاستطراد والتشعب التي اتصفت بها كتاباته التي وصلتنا، وإلى نكتة لحظتها من

خلال تكرار النظر فيما ترك لنا من مؤلفات وكتابات.

أما الاستطراد، فنعم، هذه صفة واضحة في مؤلفاته، اشتكى منها محبوه

وشانئوه، وليس الاعتذار لشانئيه عن استطراده برادهم عن هذا الشنآن، وصارفهم

عن هذا التحامل، ومعيدهم من دائرة الفجور في الخصومة إلى دائرة الإنصاف.

وذلك لأن منشأ بغضهم وتحاملهم أمور أخرى غير صعوبة التذوق وعسر الهضم؛

فقد تقدم طعاماً أو دواء لمن لا يتذوقه ولم يعتده، ولكنه مؤمن بفائدته، ومقتنع

بقيمته. وليس هذا حال كارهي ابن تيمية والمتحاملين عليه، فأكثر مواقف هؤلاء

العدوانية مبنية على الوصف والتقليد، أو الهوى. وهذا الهوى الغالب هو الذي

يدفع رؤوسهم إلى تحذير أتباعهم من قراءة آثاره، والاقتراب من حِماه، والتواصي

بمقاطعة من يفعل ذلك ممن يخرج عن عبودية الفكر وأسر الشعوذة.

يستطرد ابن تيمية نعم، ويتعب قارئه نعم، ويأخذ به - بجد وهمة عجيبين -

في شعاب ووهاد بكر لم تطرق من قبل، ويقوده - صاحباً أميناً وحارساً يقظاً -

إلى حيث الدهشة التي يُعَبَّر عنها أحياناً كثيرة بإيقاف النَّفَس برهة، ووضع الكتاب

جانباً، وتسريح الفكر وراء خاطر جانبي: كيف اهتدى الرجل إلى هذه الفكرة،

وكيف سطر قلمه هذه الآبدة؟ ! هذا شأنه في أغلب ما خلف من كتابات، كما كان

شأنه في دروسه التي يصفها شاهدُ عيانٍ من تلاميذه فيقول:

(وأما ذكر دروسه؛ فقد كنت - في حال إقامتي بدمشق - لا أُفَوِّتُها. وكان ...

لا يهيئ شيئاً من العلم ليُلقِيَهُ ويورِدَه؛ بل يجلسُ - بعد أن يصلي ركعتين - فيحمدُ

الله ويثني عليه، ويصلي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على صفة

مستحسنة مستعذبة، لم أسمعها من غيره - ثم يشرع ... فيفتح الله عليه إيرادَ علومٍ، وغوامضَ، ولطائفَ، ودقائقَ، وفنونٍ، ونقولٍ، واستدلالات بآياتٍ، وأحاديثَ، وأقوالِ العلماء، ونصر بعضها وتبيين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح حجته، واستشهاد بأشعار العرب، وربما ذكر اسم ناظمها ... وهو - مع ذلك - يجري

كما يجري السيل، ويَفيض كما يَفِيضُ البحر، ويصير - منذ يتكلم؛ إلى أن يفرغ

- كالغائب عن الحاضرين؛ مغمضاً عينيه، وذلك كله مع عدم فكر فيه، أو رويةٍ،

من غير تَعَجْرُفٍ، ولا توقفٍ، ولا لَحْنٍ، بل فيضٌ إلهي، حتى يَبْهَرَ كلَّ سامع

وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يَصْمُتَ. وكنت أراه - حينئذ - كأنه قد صار

بحضرة من يَشْغَلُهُ عن غيره، ويقعُ عليه - إذ ذاك - من المهابةِ ما يُرْعِد القلوبَ،

ويحيّرُ الأبصارَ والعقول.) [١] .

وأمر آخر ينبغي أن لا يُغْفَلَ عنه - عند النظر إلى استطراد ابن تيمية - وهو

أنه - في كل ما كتب - كان صاحب منهج، ومن منهجه انطلاقه من مجتمعه

وظروفه، وتفاعله الكامل مع مشاكل المسلمين في عصره، فقد اصطبغت نفسه

وقلبه بالإسلام عقيدةً وسلوكاً من جهة، واكتوى بما شاهد وعرف من الأمراض التي

حلت بالعالم الإسلامي، ونفذ - ببصيرته الثاقبة - إلى الأسباب الحقيقية التي آلت

بالمسلمين إلى تلك الحال، فمثله كمثل طبيب حَذِق علم الطب، وهو- مع هذا -

صاحب قلب مفعم بالرحمة، وشخصية تفيض غيرة وحرصاً على مرضاه، إذا

عالج مريضاً يصف له أكثر الأدوية فائدة، وأقرب طرق الاستعمال مأخذاً. مع

التحذير الشديد من أسباب المرض، والشرح المفصل لكل الظروف والمداخل التي

يمكن أن تتسرب منها الجراثيم. فيجمع بين الطب والوقائي والطب العلاجي، ولا

يقتصر على كتابة الوصفة ببرود غير المتفاعل وغير المخلص. ولعله - هو نفسه

- خير من يبين لنا طريقته في البحث والكتابة حيث يبين لنا الأدلة وطريقة

عرضها، وإلى أي طريقة يميل فيقول:

(ومما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان:

نوع: يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه.

ونوع: يحض مع ذلك على الرغبة فيه، أو الرهبة منه.

فالأول: من جنس الخبر المجرد.

والثاني من جنس الحث، والطلب، والأمر، والإرادة، والأمر بالشيء،

والنهي عنه.

وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات وحيوانات، أو نبات ليس له

فيها غرض؛ لا حب، ولا بغض، فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني

صديقه، وولده، ومحبوبه، وماله، وأهله، وأهل دينه. وفي المكان الفلاني

عدوه، ومبغضه، ومن يقطع عليه الطريق، ويقتله، ويأخذ ماله. فكذلك دلائل

النبوة، هي - كلها - تدل على صدق النبي، ثم يعلم ما يخبر به النبي من الأمر،

والنهي، والوعد، والوعيد، لأنه أخبر عن الله بذلك، وهو صادق فيما يخبر به.

فهذا طريق عام. وأما إثبات نبوة الأنبياء - بما فعله بهم وبأتباعم من النجاة،

والسعادة والنصرة، وحسن العاقبة، وما جعله لهم من لسان الصدق، وما فعله

بمكذبيه ومخالفيه من الهلاك، والعذاب وسوء العاقبة، وإتباعهم اللعنة في الدنيا،

مع عذاب الآخرة - فهذا يدل - مع صدق الأنبياء - على الرغبة في اتباعهم،

والرهبة من مخالفتهم. ففيه:

العلم بصدقهم، والموعظة للخلق.

والوعظ هو أمر ونهي، بترغيب وترهيب، قال تعالى: [ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا

يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً *

ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] [النساء ٦٦-٦٨] ، أي: لو أنهم فعلوا ما يوعظون به، وما يؤمرون به. وقال: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

[النور ١٧] ، أي ينهاكم الله أن تعودوا لمثله. وهذه الطريقة أكمل وأبلغ في حصول

المقصود، فإنها تفيد: العلم بصدقهم؛ والرغبة في اتباعهم، والرهبة من خلافهم.

وتفيد: ثبوت صحة الدين الذي دعوا إليه، وسادة أهله، وفساد الدين المخالف

لدينهم، وشقاوة أهله) [٢]

وواضح من هذا الاقتباس الطويل أنه يفضل النوع الثاني، وهو طريقة

الأنبياء، وطريقة القرآن الكريم، مع الوضع في الاعتبار الظروف السياسية

والفكرية التي واجهها ابن تيمية، وتنوع الأخطار التي أصبحت تهدد الإسلام كنظام

حياة، والمسلمين كأناس لهم هويتهم وخصوصيتهم الثقافية، فالتتار من الشرق،

والصليبيون من الغرب، والفرق الضالة من القلب، والبدع الاعتقادية والعبادية

تنتشر، والسياسة الدنيوية تخلف آثارها السلبية - التي يصعب اقتلاعها وعلاجها -

وتتسلح بالترغيب والترهيب، فتُطمِع وتفزع، أو تمنح وتمنع [٣] .. كل هذا

وأكثر منه كان ماثلاً في عقل ابن تيمية في كل ما كتب تقريباً، فقضاياه التي اهتم

لها، وصب فيها قوة نفسه، وحرارة قلمه كلها تدور حول: ما الذي انتقل

بالمسلمين من حالة المد إلى حالة الجذر، وما الذي يخرجهم من صعوبات اللحظة

الحاضرة إلى أفق أرحب، ومستقبل أفضل؟ يستطرد، لكنه لا ينظر إلى إمتاع

قارئه، وهدهدته والتسرية عنه - كما ينحو بعض الكتاب؛ يحرص على أن يظل

قارئه معه مستجمعاً نفسه، لا يَنِدُّ عنه وعيه لحظة، لأن الأمر جد، لا بد فيه من

التشمير وأخذ العدة. وهو ليس من صنف أولئك الذين يعتبرون العلم ترفاً فكرياً،

أو أمراً تكميلياً يزينون به صورهم عند الناس، ولا من الذين طلبوا العلم لمنصب أو

رتبة أو رجاء تزود من الدنيا وتكثر من الامتيازات وتجمل، وعندهم من الفراغ ما

يجعلهم ينتحون ركناً هادئاً يبعث على التأمل، بعيداً عن الناس وصخب الحياة،

حولهم المراجع والمصادر، يرتبون ويجمِّلون ويصقلون ويعيدون النظر فيما يكتبون

ويؤلفون - شأن أصحاب الحوليات - لا، لم تكن حياة ابن تيمية العاصفة تسمح له

بهذا، ولم يدعه خصومه لمثل هذا الهدوء والاستقرار الذي يتطلع إليه الكثير من

أهل العلم والفكر، يتصدى للمشكلة، فيبدأ بتحليلها، فتنفجر المعلومات بين يديه.

أتخيله كحامل فأساً يريد أن يحفر في الأرض باحثاً عن الماء، يضرب ضربة أو

ضربتين فتنفجر الأرض تحت قدميه بالماء الثر الغزير، فيبدأ بالتقنية [٤] له حتى

يوجهه الوجهة التي يستفاد منه فيها، فيزداد الماء ويطغى حتى يغلب أطراف القناة

الأولى، فيتوزع جهد الشيخ بين تقوية ضفاف تلك القناة والبدء في قناة ثانية تخفف

الضغط عن الأولى، فيصيب الثانية ما أصاب الأولى، فيقويها ويفتح ثالثة ورابعة.. ثم يعود ليذكرك بأن عليه - بعد أن قوى الثانية والثالثة - أن لا ينسى أنه بدأ

بالأولى وغلبه انفجار الماء عن إكمالها إلى غايتها، فيمشي معها خطوة خطوة يغالبه

الماء عليها فيكاد يغلبه، فيفتح له مسرباً يخفف من ضغطه وعنفوانه، ثم يهيمن

أخيراً على التيار، ويصل بك إلى الغاية بعد أن كانت النية أن يكشف نبعاً ويُجري

قناة؛ فإذا بالنبع يقذف بالسيل الدُّفَّاع [٥] ، لا تكفيه قناة واحدة ما لم تسيِّرْ عن

يمينها وشمالها أقنية تبث الحياة في الأرض التي كانت هامدة منذ قليل! وإذا بها

تستحيل غرْباً، ويَرْوَى الناس، ويضربون بِعَطَن [٦] .

أما النكتة التي لحظتها فهي أن كثيراً مما قاله ابن تيمية كتبه تلاميذه، إما في

دروسه العامة، وإما في مناظراته الكثيرة، ولا بد من وجود فرق واضح بين

الأسلوب المرتجل، والآخر الذي يأتي نتيجة الانفراد للتأليف والتهيؤ له. ونستطيع

أن نميز هذين الأسلوبين إذا نحن درسنا مؤلفات ابن تيمية دراسة داخلية، وحللنا

السياق في كلٍ، وألقينا الضوء على الظرف المحيط بكل أثر من آثاره. وسنلحظ

أن درجة الانفعال ترتفع وتشتد في الموضوعات التي كان يرتجلها إجابة على فتوى

أو مسألة، أو اشتراكاً في مناظرة على مسمع من الناس، وقد يصل الانفعال إلى

درجة الحدة التي أخذت عليه واعتبرها أعداؤه مدخلاً يدخلون منها وبها إلى القدح

فيه والتنفير منه.

سيبدو لنا ابن تيمية في حالتين:

الحالة الأولى وكأنه يتكلم قائماً مندفعاً فيما هو فيه من توضيح ورد وحض

وتحذير، أو ماشياً عجلاً حوله تلاميذه، كل يريد لو ظفر منه بإجابة على ما عنده،

فيحاول أن يلبي رغبة الجميع، فيجيب بأجوبة قصيرة لكسب الوقت، ولكنها كافية

ووافية بالمقام.

والحالة الثانية قد فرغ لنفسه، واستغرقته قضية، فبدأ بالكتابة فيها، محدداً

ومحرراً ومستقصياً، ومستبعداً مواطن الاشتباه والاشتباك، ومحللاً ومعقباً على

أسباب ذلك، وهو في كل ذلك لا يخطو خطوة بدون دليل، بل أدلة، وينحدر بعد

ذلك انحدار السيل - بوصفه الذي سقناه عن أحد تلاميذه آنفاً - تصادفه أرض

مستوية فيفيض ويتشعب، ثم يعود فيستجمع قوته حين تعترضه مضايق وحزون،

فمنخفضات وانهدامات، هادراً يرمي بالجلاميد ويقذف بالزبد، حتى يصل إلى

قراره.


(١) الأعلام العلية للبزار ٢٧-٢٨.
(٢) الجواب الصحيح ٤/٢٧٤.
(٣) كما قال سيء الذكر أنور السادات.
(٤) التقنية: حفر القناة.
(٥) الدفَّاع: السيل العظيم الذي يدفع بعضه بعضاً، قال المعري يصف سفينة نهرية:
... سارت فزارت بنا الأنبار سالمةً ... تُزجي وتُدفَع في موجٍ ودُفَّاع.
(٦) تضمين مأخوذ من الحديث رقم ٣٦٨٢ في صحيح البخاري، فضائل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- راجح شرحه في فتح الباري ٧/١٩.