للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[فضيلة الشيخ (سكوتي) وبيان الأزهر الإرهابي!]

خالد أبو الفتوح

[email protected]

في سابقة غير مسبوقة وإن كانت غير مستغربة هددت أوساط سياسية رسمية

أمريكية بإدراج الأزهر ضمن ما تسميه بالمؤسسات الإرهابية؛ ففي التقرير الذي

أعده «ريتشارد سكوتي» وهو أحد مستشاري الخارجية الأمريكية والذي نشرت

بعض الصحف المصرية مقتطفات منه شن حملة شعواء على الأزهر؛ معتبراً

«أن دور الأزهر الديني في العالم الإسلامي قد يتحول إلى قاطرة للعمليات

الإرهابية ضد القوات الأمريكية في منطقة الخليج، وخاصة أن الإرهاب الفكري

للأزهر معروف منذ قرون عدة» ، وأضاف «سكوتي» : أنه راجع بنفسه

العديد من فقهاء الأزهر طوال السنوات الماضية، وأن الأزهر باستمرار منظمة

ذات طابع محافظ، تصدر البيانات أو ما يطلق عليه المسلمون (الفتاوى) ذات الأثر

المحافظ الذي لا يشجع القيام بأعمال تخل بالسلام أو الاستقرار.

وقال: إن الإدارة الأمريكية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تتدخل

بصورة حاسمة وقاطعة لدى الحكومة المصرية؛ حتى يصدر الأزهر بياناً آخر

يعتذر فيه عن هذا البيان الإرهابي، وإلا فإن الأزهر يجب أن يكون على قائمة

المؤسسات الإرهابية التي تجب محاربتها!!

بقي أن يعرف القارئ قبل أن نذكر المفارقات في تقرير مستشار الخارجية

الأمريكية شيئاً عن بيان الأزهر الذي أثار حفيظة الخارجية الأمريكية؛ مما حدا بها

لمطالبة الإدارة الأمريكية بممارسة ضغوط على الحكومة المصرية، ومما حمل

مسؤولين بالسفارتين الأمريكية والبريطانية في القاهرة على إجراء اتصالات بالشيخ

سيد أبو الوفا عجُّور الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، والذي أصدر البيان

الأزهري (الإرهابي) لحمله على التراجع عن البيان، ولكن الشيخ رفض ذلك

رفضاً قاطعاً، وقال لمسؤولة ملف الشرق الأوسط بالسفارة الأمريكية: «تراجعوا

أنتم عن قرار الغزو؛ نتراجع نحن عن البيان» ، وسألها ساخراً عما إذا كانت

تعرف ساعة الصفر لبدء الغزو؛ حتى يقوم المسلمون بالاستعداد لهم!

وأكد الشيخ أبو الوفا أن البيان صادر بإجماع علماء المجمع، وأنه لا يمكنه

التراجع عنه، وأنه يفخر أن يختم حياته العملية قبل إحالته إلى التقاعد بالتوقيع على

هذا البيان.

الفقرة التي أثارت الإدارة الأمريكية في بيان الأزهر جاء فيها: «.. وفي

ضوء ما سبق يعتقد الجميع أن العدوان على العراق واقع لا محالة، وهنا وبمنطق

وشريعة الإسلام؛ أنه إذا نزل العدو في أرض المسلمين يُصبح الجهاد فرض عين

على كل مسلم ومسلمة؛ لأن أمتنا العربية والمسلمة ستكون أمام غزوة صليبية جديدة

تستهدف الأرض، والعرض، والعقيدة، والوطن. وبناءً عليه؛ فإن مجمع

البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يدعو العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم أن

يكونوا على استعداد للدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم، وأن يعتصموا بحبل الله

جميعاً ولا يتفرقوا، ويكونوا فوق ما يحيطهم من خلافات حتى يقضي الله أمراً كان

مفعولاً. ويدعو المجمع جميع العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم ألا يهنوا وألا

يضعفوا أمام هذا العدوان؛ لأن الحق تبارك وتعالى متكفل بنصرة دينه وإظهاره

على الدين كله» .

محتوى هذه الفقرة لم يكن جديداً على مسامع الإدارة الأمريكية، فقد تعددت

أصوات علماء سابقين ولاحقين تنادي بمضمون هذه العبارات، ولكن ما أقلق هذه

الإدارة اعتبارات أخرى خارج مضمون الكلام نفسه وإن كان الكلام قوياً وصريحاً

ومهماً: فقد أقلقها أن يصدر هذا الكلام عن أعلى هيئة علمية في أعلى مؤسسة دينية

رسمية في العالم الإسلامي، وحسب تعبير «ريتشارد سكوتي» : «إن بيان

الأزهر يجب أن نقابله بجدية بالغة؛ لأنه صدر عن مؤسسة دينية كبرى في العالم

الإسلامي ولها تاريخها، بل إن البعض يعتبر أن هذه المؤسسة تعادل وضع

الفاتيكان في أوروبا» ، فصدور هذا البيان من الأزهر يعني شيوع مضمونه بين

قطاعات كبيرة من عوام المسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي الذين ليس لهم

ارتباطات بفصائل العمل الإسلامي السياسي والجهادي، وهذا يعني عملياً إمكانية

ضم قطاعات من هؤلاء العوام إلى خندق العداء والمواجهة العملية مع أمريكا وقوات

التحالف في المنطقة؛ تحت غطاء مشروعية دينية يطمئن إليها هؤلاء العوام..

وهذا ما أشار إليه «سكوتي» بقوله: «إن دور الأزهر الديني في العالم

الإسلامي قد يتحول إلى قاطرة للعمليات الإرهابية ضد القوات الأمريكية في منطقة

الخليج» . وأقلقها أيضاً أن يصدر هذا الكلام عن هيئة مشهود لها من جميع

الأطراف بما فيها أمريكا نفسها بالاعتدال والبعد عن اتهامات التطرف والإرهاب،

فالرئيس بوش كان قد استشهد في الخطاب الذي ألقاه صباح السبت في الجمعية

العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة والخمسين عقب أحداث سبتمبر بإعلان

«شيخ الأزهر، أقدم جامعة إسلامية في العالم، أن الإرهاب داء، وأن الإسلام

يحرّم قتل المدنيين الأبرياء» .

ومجمع البحوث الذي أصدر هذا البيان هو نفسه الذي قررت لجنة العقيدة

والفلسفة فيه منذ قليل العدول عن عقوبة قتل المرتد بعد استتابته ثلاثة أيام، وفتح

الباب لتوبته طوال حياته؛ مما أثار كثيراً من العلماء الآخرين.. وهو أيضاً الذي

أصدر منذ وقت قريب فتوى إباحة الفوائد البنكية محددة القيمة مسبقاً، وهو أمر أثار

كذلك كثيراً من العلماء الآخرين حتى داخل الأزهر نفسه.

فصدور هذا البيان من هيئة علمية هذا حالها من (الاعتدال) ؛ يعني أن

محتوى هذا البيان يمثل حداً أدنى في الإسلام لا يمكن التنازل عنه أو المساومة عليه،

وهذا يعطي قوة ذاتية لمضمون هذا الكلام.

وصدور هذا الكلام من هيئة علمية رسمية يضفي نوعاً من المصداقية

والمرجعية لدى العامة على (المفتين المارقين) الذين كان ينظر إليهم بعض

العامة سابقاً بعين الشك والاستخفاف بقدراتهم العلمية، أما بعد أن تطابقت فتاواهم

(المتحمسة) مع بيانات الهيئات الرزينة الراسخة و (المعتدلة) ؛ فهذا يعني أنهم

يصدرون عن أصول علمية وليس عن أهواء نفسية.

وإضافة إلى كون هذا البيان الصادر من مؤسسة دينية علمية رسمية يحرج

المؤسسات السياسية الرسمية ويضعها في مأزق أمام شعوبها؛ فإنه يفضح ويعري

أعضاء حزب (الشياطين الخرس) الذين كانوا يستترون وراء جدار الصمت

المطبق، أما وقد تحطم هذا الجدار؛ فإنهم باتوا مكشوفين أمام أنفسهم وضمائرهم

أولاً، ثم أمام متبوعيهم الذين كانوا ينتظرون منهم كلمة صدق وحق يبتغون بها وجه

الله؛ في مرحلة مصيرية وأحداث حاسمة في حياة الأمة.

تقرير «ريتشارد سكوتي» يحمل بوضوح صفاقة معتادة، وصلفاً يناسب

الغطرسة الأمريكية الشائعة الآن في الخطاب السياسي للإدارة الحالية، وهو يعد

تدخلاً، ليس في شؤون دولة أخرى فحسب، بل في شؤون ديانة عالمية ينتسب

إليها أكثر من ربع تعداد البشرية، وفوق أنه يهدر ادعاءات حرية الرأي؛ فإنه

يُظهر الرغبة الدائمة لدى الغرب وأذيالهم من العلمانيين المحليين في إقصاء الدين

عن ساحة التوجيه والتأثير إذا كان ذلك لغير صالح سياساتهم، مع قبول تدخل الدين

سياسياً عندما يمكن استخدامه وتطويعه لصالح مخططاتهم وسياساتهم، وهذا ما

يكشفه حرصهم السابق على الاستشهاد بفتاوى علماء الإسلام لمواجهة الاتجاهات

الجهادية المعادية لأمريكا سابقاً، ثم هجومهم الحاد على هذا البيان ومصدريه.

ورغم كون البيان لا يعدو في حقيقته أكثر من تقرير حق مشروع لأي أمة في

مواجهة عدو محتل غاصب يعتدي على بلد لم يناله منه أذى أو تهديد، ويستهدف

منهج حياة شعوب وثروات بلدان المنطقة بأسرها، والتمكين للصهيونية والأصولية

النصرانية، وهو عدوان يظهر بوضوح لكل ذي عينين محايد حتى لو كان فرنسياً

أو ألمانياً أو صينياً ... إلا أن الخارجية الأمريكية رأت فيه تحريضاً على الإرهاب

يستدعي تحريك السفارات، والضغط على الحكومات، وممارسة كل أشكال

الإرهاب السياسي.

ولكن الذي فات مستشار الخارجية الأمريكية أن مبدأ الولاء والبراء الذي

يستند إليه من غير تصريح بيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف لم

يخترعه ويبتدعه هذا المجمع، ولا الدعوة (الوهابية) المتهمة أيضاً سراً وجهراً

بتهم التطرف والإرهاب، بل لم يبتدعه ويخترعه حتى الإسلام نفسه، فكل أمة

وكل عقيدة تعرف هذا المبدأ وتطبقه، حتى أمريكا نفسها التي يشيع فيها الآن (من

ليس معنا فهو ضدنا) ؛ إلى حد اتهام بعض فناني هوليود المعارضين لغزو العراق

بعدم الولاء، ووصمهم بانعدام الوطنية، إضافة إلى دعوات مقاطعة أفلامهم

وأشرطتهم الموسيقية الرائجة في البرامج الحوارية الإذاعية، وفي منتديات الحوار

عبر الإنترنت.. لم تكن أمة الإسلام بدعاً في تطبيق ذلك المبدأ، ولكن الإسلام الذي

ينظم حياة هذه الأمة جعل محور الولاء والبراء على التوحيد والإيمان، وليس على

العشيرة أو القبيلة أو العرق أو الأرض أو المصالح أو الفكر الوضعي.. أو غيرها

من الروابط التي يتجمع عليها البشر والأنعام.. وهذا هو سر قوة الإسلام التي

يرون أثرها من جاكرتا إلى طنجة، وهذا ما يخشون اشتعاله بهذا البيان أو بغيره..

لذا لزم التهديد ولزم الوعيد.. ولكن خفي عليهم أن الله غالب على أمره، ولكن

أكثر الناس لا يعلمون.