الورقة الأخيرة
[الدعاة والقناعة الخفية]
محمد يحيى مفرح
الداعية إلى الله هو الوسيلة الأولى التي تزيد بها أعداد المتوجهين إلى الله -
تعالى - في كل زمان ومكان، ومع تزايد الوسائل الدعوية (أشرطة، وكتب،
وتجمعات تربوية، وهيئات خيرية) أرى أنه قد بدأت تترسخ قناعة لا يصرح بها
الكثير من أصحابها، ولا إخالهم يريدونها على حقيقتها، ومفاد هذه القناعة الداخلية:
أن هذه الوسائل تسد خللاً، وتجبر كسراً يغني في أحيان كثيرة عن أشخاص
الدعاة واستمرار عملهم مع ذات المدعو، وتنعكس هذه القناعة المترسخة في نفوس
بعضهم لتبرز آثارها عليهم في بعض المظاهر الآتية:
١ - الاكتفاء بإيصال الوسيلة السهلة إلى المدعو مع الحرص قدر الإمكان
على جعله يستفيد منها (كاستماع شريط يدعو إلى الالتزام، أو يثير الجوانب
الإيمانية في نفس المدعو) ، واعتقاد أن الحجة قد قامت على هذا المدعو، والجهد
قد بلغ حده معه مما يستلزم الاهتمام بغيره من المدعوين، ويكون معيار النجاح هنا
هو القدرة على إيصال الوسيلة إلى هذا المدعو. وهذا ولا شك فيه قصور واضح
يبدو جلياً حينما يقدم الداعية هذه الوسائل السهلة على اتصاله المباشر بشخص
المدعو الذي قد يكون بأمسِّ الحاجة إلى من يتفهم نفسيته ويقدم له ما يخص حالته
بالذات.
٢ - تصور أن مجرد احتواء المدعو في جماعةٍ مَّا هو غاية الوسائل التي
يمكن أن يسعى إليها الداعية والتي تؤدي إلى النقلة المطلوبة في نفس المدعو
وسلوكه (مثل ضمه إلى النشاط الذي يشرف عليه بعض الأخيار ضمن دائرة
المدرسة أو الحي) ، ثم ينصرف الداعية بعد ذلك لتكثير العدد بضم أناس آخرين،
وهذا الداعية - إن لم يكن في الوسط من يتابع المدعوين غيره - يقع في القصور
من النواحي الآتية:
أولاً: عدم متابعة المدعو فردياً ليمكن تربيته بالشكل الصحيح، والاعتماد
على قدرته في الانسجام مع الجماعة، أو قدرة الوسط على احتوائه ويكون هذا هو
معيار النجاح.
ثانياً: ربط التزام هذا الشخص بجماعة معينة وليس بمنهج أصيل ومبدأ
راسخ، وهذا تتمثل خطورته في أن المدعو قد يفقد جوهر الالتزام بالدين عند
مفارقته لهذه الجماعة لأي سبب كان، كما أنه سوف يحاكم الناس كلهم من خلال قيم
هذه الجماعة وأفكارها ومنهجها، وربما كان هذا سبب كثير من الفرقة والخلاف.
ثالثاً: تغليب جوانب التربية الجماعية والاعتماد عليها أكثر من الجوانب
المهمة في التربية الذاتية مما قد ينتج عنه التزام بلا جدية وهو مشاهد ملموس.
٣ - الظن بأن مجرد انخراط المدعو في عمل خيريٍّ مَّا كفيل بقلب موازين
مفاهيمه وإصلاح حاله (مثل من يثير أهمية العمل للدين في نفس المدعو لينقله
مباشرة للقيام بأعباء الدعوة من منطلق البلاغ فقط، أو من يجعله ينطلق في مجال
جمع التبرعات والاهتمام بالفقراء والأيتام ونحو ذلك) ويكتفي بذلك، ثم ينطلق إلى
غيره ليحثه على الانخراط في عمل خيري وهكذا، ويكون معيار النجاح عنده
قدرته على استثارة كل فرد وتوجيهه للعمل الخيري الذي يناسبه. وهذا ولا شك
قصوره واضح في عدم تأسيس هؤلاء على القواعد الراسية العلمية والإيمانية أولاً
قبل الزج بهم في أعباء هذه الأعمال وزخمها ومشاكلها، ولذلك فإنه سريعاً ما يشاهد
أحد هؤلاء المدعوين وقد خبت نار العاطفة التي أججها الداعية في نفسه، وانقطع
عن العمل، وربما عاد بعد ذلك إلى أسوأ من حاله السابقة، دون أن يبالي الداعية
بهذه النتائج في ظل فهمه لقول الله - تعالى -: [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ]
(الشورى: ٤٨) .
وأعود لأقول إنه مع تزايد الوسائل الدعوية تبقى متابعة الداعية وتربيته
واتصاله المباشر الدائم بالمدعو - في حدود الضوابط الشرعية للتربية بكل جوانبها
- هي الوسيلة الأولى لنقله إلى الحياة الطيبة، كيف لا، والداعية هو الوسيلة
الوحيدة التي يمكن أن تتفاعل مع شخص المدعو حرصاً ولطفاً وليناً وحكمة بل
وغلظة أحياناً، وخاصة في فترات الصراع التي يواجهها أكثر المدعوين حين
يفكرون ويشرعون في اتخاذ قرار النقلة؟
وأخيراً فإنني أرجو ألا يفهم من المقال أنه انتقاد للوسائل الدعوية أو دعوة
لطرحها جانباً وعدم الاستفادة منها؛ فإن أثرها في الدعوة ملموس - بفضل الله -
وأكبر من أن يُحصَر، والداعية المسدد هو من عرف كيف يستفيد منها بالشكل
الأمثل.
أسأل الله أن يوفق الجميع للقيام بواجب الدعوة على النحو الذي يرضيه -
تعالى - ويقيم به الحجة، ويعين على انتشال الناس من حبائل الشيطان، والله
تعالى أعلم.