للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

حوار مع فضيلة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

التحرير

الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عالم جليل أفنى ما مضى من حياته

في العلم والتعليم والإفتاء ... ، اشتهر بتواضعه، وسعة صدره، وصبره، كما

عُرف باجتهاده وعلو همته، حتى صار له في الأسبوع: اثنا عشر درساً منها ما

يمتد لثلاث ساعات، ويجلس لبذل العلم كل يوم بين العصر والمغرب، هذا

بالإضافة إلى عمله (عضو الإفتاء) في دار الإفتاء بالرياض، وذلك إلى قبل أشهر

يسيرة؛ حيث أحيل للتقاعد حفظه الله، ومتعه بالصحة والعمل الصالح الذي يرضي

الله.

وقد كان لنا معه هذا اللقاء المبارك؛ حيث اقتطعنا جزءاً من وقته الثمين،

فتفضّل بالإجابة على أسئلة (البيان) وإنا لنرجو أن يجزيه الله عن الجميع خير

الجزاء، وأن يوفقه لأداء رسالته في العلم والتعليم والتوجيه، وأن يختم له بصالح

الأعمال. وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ حفظه الله.

١-هل لفضيلتكم أن تحدثنا باختصار عن طلبكم للعلم.. كيف كان؟ وعلى يد

مَنْ مِنَ العلماء تلقيتم العلم؟

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه.

وبعد: فإن الله سبحانه له الحمد والفضل والمن والثناء الحسن، فهو الذي

يوفق من يشاء ويهدي من يشاء فضلاً منه وكرماً، ويضل من يشاء عدلاً منه

وحكمة، ولا يظلم ربك أحداً.

أقول: إنني معترف بالنقص والقصور، وقلة التحصيل، وضعف المعلومات، وكثرة النسيان، وضياع الكثير من العمر في غير فائدة؛ فعندما أقرأ في تراجم

بعض العلماء كالشافعي وأحمد وابن راهويه، والبخاري، وابن معين ونحوهم،

أعرف الفرق الكبير، والنقص الجلي في نفسي، وأن لا نسبة إلى أحدهم ولو من

بعيد، وكذا عندما أقرأ في مؤلفات بعض العلماء الربانيين، كابن قدامة، وابن

تيمية، وابن القيم، وأمثالهم ممن فتح الله عليهم، وألهمهم العلم والفهم، والإدراك

والذكاء والفطنة، أرى ما منحهم الله ووفقهم له مما لا أصِلُ إلى عُشر معشاره، ولا

أحلم بإدراك معلوماتهم، ولو بعد التأمل والتفكر، وهكذا عندما نسمع سيرة إمام

الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنيه وتلامذته، ومن تبعهم، ونقرأ في

رسائلهم ومسائلهم، نرى ما وهبهم الله تعالى، وما منحهم من العلم النافع، والفهم

الثاقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

نشأة الشيخ:

ثم أقول إنني نشأت في قرية (الرين) التابعة للقويعية، وفي كل صيف غالباً

أكون في قرية (محيرقة) من قرى (القويعية) فابتدأت بتعلم القرآن والهجاء من

والدي رحمه الله، ومن إمام جامع محيرقة العم سعد بن عبد الله بن جبرين رحمه

الله، وذلك في سنة تسع وخمسين من القرن الرابع عشر الهجري، وفتر العزم عن

الحفظ؛ حيث لم يكن من يتابع معي، فلم أكمل حفظ القرآن إلا في سنة ثمان

وستين، وقد قرأت قبل ذلك على والدي رحمه الله في النحو والفرائض والحديث،

وبعض الكتب المطولة، فبعد إكمال حفظ القرآن ابتدأت في القراءة على فضيلة

قاضي الرين، الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، وشهرته (أبو حبيب) ،

وواصلت القراءة عليه في المتون والشروح في التوحيد والعقيدة والحديث والفقه

والتفسير، وحصل بذلك خير كثير، ثم في عام أربع وسبعين انتقلنا إلى الرياض؛

حيث فتح معهد إمام الدعوة العلمي، وانتظمت فيه، وكانت قراءتنا في الصباح

على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، وفي أثناء النهار

على غيره من المشايخ كإسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز بن

رشيد، ومحمد المهيزع وغيرهم رحمهم الله تعالى، ونقرأ في المساء على سماحة

الشيخ عبد العزيز بن باز بعد العصر وبعد المغرب، وأنهيت الدراسة النظامية في

عام ١٣٨٢هـ، ومنحت الشهادة العالية من المعهد، وتعادل الجامعة، وفي عام

١٣٨٨هـ انتظمت في المعهد العالي للقضاء حتى عام ١٣٩٠هـ، حيث منحت

شهادة الماجستير، بعد أن قدمت رسالة في أخبار الآحاد وهي مطبوعة، وفي عام

١٤٠٧هـ حصلت على الدكتوراه؛ حيث قمت بتحقيق شرح الزركشي على

مختصر الخرقي الذي طبع بعد ذلك بتحقيقنا في سبعة مجلدات. والله الموفق.

٢- لو أردنا المقارنة بين ذلك الوقت، وبين اليوم؛ من حيث إقبال الشباب

على العلم، فهل نجد فوارق بارزة بين المرحلتين، وهل كانت تتوسطهما مرحلة

أخرى تتميز عنهما؟

لا شك أن هناك فوارق كبيرة لها تأثيرها في كل من المرحلتين، ولكل منهما

ميزة ظاهرة، فقبل خمسين عاماً كان في هذه المملكة قلة في العلماء الربانيين

البارزين، سيما في القرى والبلاد النائية؛ وذلك لأن طلاب العلم أفراد وأعداد

قليلون وتغلب العامية على الأكثر؛ وذلك لأنهم عاشوا في فقر وفاقة، وشظف عيش، وقلة في الإمكانيات؛ فالمواطنون يهمهم الحصول على لقمة العيش، فالبوادي

الرحل يتبعون مواضع القطر لمواشيهم التي بها معاشهم ومعاش عوائلهم، فهم

أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وأكثرهم جهلاء، قد لا يحسنون قراءة الفاتحة،

ولا صفة الطهارة والصلاة، إلا ما شاء الله، وأهل القرى منشغلون بتحصيل

الرزق والقوت، إما في حرث وغرس فيعملون طوال الوقت في السقي والحرث،

والأبر والغرس والإصلاح، وإنما يتفرغون لأداء الفرائض جماعة، وسماع ما يقرأ

في الصلاة، ولا يجدون غالباً من يلقنهم تعاليم الدين، وآخرون أهل صناعة من

الصناعات اليدوية، كحدادة ونجارة، وخرازة ودباغة، وحياكة ونحوها مما

يتحصلون منه على القوت الضروري، كغذاء أو كسوة وسكن يكنهم عن الحر والقر، وآخرون منشغلون في التجارة التي تتوقف على الرحلات، والأسفار الطويلة،

حيث تستغرق الأشهر، يقطعون فيها المفازات والصحاري، مما لا يتفرغون معه

لتعلم أو تفقه في الدين، وإنما يتلقون من آبائهم العلوم الضرورية في العبادات قولاً

أو فعلاً، ومع هذه الأحوال فإن هناك من اهتموا بالطلب والتعلم، فتجشموا

الصعاب، وقطعوا المراحل البعيدة، وتغربوا عن الأوطان؛ ولازموا العلماء في

المدن أو في بعض القرى، على ملء بطونهم، وكسوة ظهورهم، وأكبوا على

التلقي، واهتموا بالحفظ والفهم، واستهموا على الوقت، وأقبلوا بكلياتهم على التعلم، فوفقهم الله وسدد خطاهم، وأعطاهم ما تمنوا رغم قلة الإمكانيات، وبُعد المسافات، وكثرة المعوّقات، ولكنهم صبروا على المشقة، وركبوا الصعوبات، حتى مكنهم

الله وأعطاهم ما تمنوا، ولكنهم قلة قليلة يتواجدون في المدن، وحول حملة العلم،

وأكابر العلماء الذين أنزل الله في علمهم البركة، واهتموا بتعليم العقائد والعبادات

والأحكام، وبارك الله في سعيهم، وذلك لحسن النيات والمقاصد؛ حيث لا يريدون

عَرَضَ الدنيا، وإنما قصدوا الاستفادة وحمل العلم، والتفقه في الدين، ولا شك أن

هذا الجهد الذي يبذلونه، وهذه المشقة التي يتجشمونها، قليلة بالنسبة إلى ما نسمع

ونقرأ عن جهود سلفنا الصالح، وعلماء صدر هذه الأمة، في القرون المفضلة،

ومن سار على نهجهم، الذين يتغربون عن أهليهم عدة سنوات، للتعلم والاستفادة،

ويسافر أحدهم للتحمل والأخذ عن المشايخ الأكابر الشهر والأشهر، ويسهرون

الليالي في طلب المعاني، مما كان سبباً في بقاء علومهم، والانتفاع بآثارهم،

والبركة في مؤلفاتهم، وبقاء لسان صدق لهم فيمن بعدهم، فرحمهم الله وأكرم

مثواهم.

٣- تتباين وجهات النظر في الأسلوب الأمثل والطريقة الأكمل لطلب العلم؛

من الاكتفاء بمجالسة العلماء، أو إدامة القراءة، أو حفظ المتون، أو الدراسات

المنهجية في الجامعات.. نود تجلية الأمر للإخوة القراء من خلال خبرتكم الطويلة

في التعليم؟

لا شك في اختلاف الرغبات، والتباين الكبير في طرق التحصيل عند طلاب

العلم، والذي أراه أن لكل طالب التمشي على ما يميل إليه ويتأثر به، ويرى فيه

الفائدة وإدراك المعلومات، ومع ذلك فإن مجالس العلماء، وحضور الحلقات،

وإدامة الملازمة للدروس اليومية أو الأسبوعية التي تقام في المساجد ونحوها، مفيدة

ونافعة، ولها تأثير كبير في تحمل العلم، وتجديد المعلومات، وما ذاك إلا أن الدافع

إليها غالباً هو الاستفادة؛ حيث يتوافد الطلاب إلى تلك الحلقات، ويأتون من أماكن

بعيدة أو قريبة، وتراهم خاشعين منصتين، وكل منهم غالباً يحمل معه كتاباً يتابع

فيه المدرس، أو دفتراً لتعليق الفوائد، وكتابة المعلومات؛ بحيث يرجع الطالب

بحصيلة علمية نافعة، تبقى معه طوال حياته، ومع ذلك فإن المطالعة وإدامة قراءة

الكتب العلمية مفيدة جداً، لكن لا بد قبل ذلك من معرفة المقدمات، والأساليب

والاصطلاحات للمؤلفين، ولا بد من معرفة اللغة الفصحى، وما يتصل بها من

النحو والصرف والبيان، حتى تتم الاستفادة منها؛ حيث إن الكثير من الطلاب

يصدهم عن القراءة في الكتب جهلهم بالمصطلحات، وقصورهم في المعلومات

اللغوية، حتى فضّل الكثير ما كتبه المتأخرون، وأكبوا على القراءة للمعاصرين،

وإن لم نعرف الصوارف عن مؤلفات الأقدمين. ثم نقول: إن حفظ المتون

والمختصرات، واستظهار الأحاديث، والقواعد، والأركان والواجبات، له الأثر

الكبير في بقاء المعلومات، فلقد كان مشايخنا الأكابر يذكرون عن نشاطهم وتسابقهم

إلى الحفظ، ويحثون تلامذتهم على ذلك، حتى رأينا منهم العجب في استحضار

النصوص والأدلة عند الحاجة إليها، وكانوا يلزمون من أراد الالتحاق بالتعلم أولاً:

بحفظ القرآن الكريم، وثانياً: أثناء الاستعداد بحفظ المختصرات في النحو

والفرائض، والأحاديث في الأحكام، والتوحيد والعقائد والفقه، والتفسير، أما في

هذه الأزمنة فقد لاحظنا فتوراً ظاهراً في الحفظ والاهتمام بالمتون، وإنما يكتفون

بالفهم وإدراك المعاني من المتون، أو من الشروح، أو من التقارير والتعليقات،

وذلك قد يكفي لمن حصل له الفهم التام، ورزق حفظاً دائماً. فأما الدراسات

المنهجية فقد أصبحت من الضروريات؛ بحيث لا يخل بها إلا القليل، بل يلتزم

الأكثرون بها، رجالاً ونساءً، انتظاماً وانتساباً، والغالب أن القصد منها هو

الحصول على المؤهل الذي يمنح لهم بعد الانتهاء من كل مرحلة، ولا شك أن

الالتزام بذلك مع المواصلة إلى نهاية المرحلة الجامعية مما يفيد كثيراً؛ حيث إن

الطفل يبدأ من مبادئ العلوم، ثم يترقى إلى ما بعد ذلك سنة بعد سنة، ومرحلة بعد

مرحلة، فمتى كان قصده الاستفادة، وتحصيل المعلومات النافعة، فإنه سيحصل

من ذلك على قسط كبير، يبقى معه أثر طوال حياته، ولكن لا بد مع ذلك وبعده من

مواصلة التعلم، وبذل الجهد في التحصيل، فإن العلم كثير، وطالب العلم لا يكتفي

بما حصل عليه، كما في الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) . وكان العلماء يوصون تلاميذهم بالاستمرار في الطلب، ويقول أحدهم: (اطلب

العلم من المهد إلى اللحد) ، ويقولون: (مع المحبرة إلى المقبرة) فعلى المسلم الجد

في الطلب بما يقدر عليه، وما يراه نافعاً في حقه. والله أعلم.

٤- لا يخفاكم واقع مناهج التعليم في جل بلاد العالم الإسلامي.. مما جعل

بعضهم يرغب عن التعليم النظامي جملة: ما الموقف الصحيح تجاه هذا المنهج:

ألا ترى فضيلتكم أن لذلك سلبيات لا سيما مع قلة العلماء العدول فضلاً عن حاجة

الأمة لتعليم ناشئتها مختلف العلوم والفنون؟

لا شك في صلاح النية، وحسن الأهداف عند تقرير المناهج التعليمية، في

أغلب البلاد الإسلامية، ثم مع مرور الزمان، نشأ من يريد في الظاهر قصداً حسناً، والله أعلم بما يضمره، فاقترح تغيير المناهج القديمة، أو الاقتضاب من بعضها،

وإضافة علوم أو مواد ثانوية، وفرض دراستها، مع قلة الحاجة إليها، أو عدم

أهميتها، أو اختصاصها ببعض الأفراد، فكان ذلك سبباً في عزوف كثير عن

التعليم النظامي، إما لصعوبته، أو لنفرة بعض النفوس عنه، أو لقة الفائدة التي

تعود إلى ذلك الطالب، وميل نفسه إلى علوم وأعمال أخرى، وكان الأوْلى أن

يجعل لهؤلاء مدارس خصوصية، يقرر فيها دراسة العلوم الدنيوية الضرورية، مع

المواد الشرعية، ويعفى من ينتظم فيها عن علم الجبر والهندسة، واللغات،

والفيزياء وشبهها، ثم إن هذه العلوم لا شك في أهميتها، ومسيس الحاجة إليها،

ولكن ذلك في حق من يرغبها، ويجد من نفسه ميلاً إلى التعلم والعمل بها، ثم إن

طالب العلم في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها، يجب عليه

حسن النية في دراسته لتلك المواد، فيقصد أولاً: حمل العلم النافع، ليفوق الجاهل

به، فقد قال تعالى: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ]

[الزمر: ٩] ، أي لا سواء بين العالم بالفن والجاهل به، ويقصد ثانياً: نفع نفسه ونفع الأمة، سواء في أمر الدين أو أمر الدنيا؛ حيث تمس الحاجة إلى تعلم هذه الفنون، ويستفيد حاملها، ويعلّم غيره، ويغني نفسه، ويكتفي بصناعته أو حرفته، ويقصد.

ثالثاً: فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فضل حاملها، كقول النبي -صلى الله عليه

وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن

الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل

شيء حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر

على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا

درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) . ويقصد رابعاً: العمل على

بصيرة؛ فإن من شرط قبول العمل موافقته لما ورد به الشرع، فمن عمل على

جهل فعمله مردود، وخصوصاً إذا تمكن من التعلم فأعرض عنه، ولا شك في خطأ

الذين عزفوا عن التعليم النظامي، لأي سبب عرض لهم، ولذلك نراهم أصبحوا

عالة على أهليهم، قد عطلوا أنفسهم، وصاروا كلاً وثقلاً على أولياء أمورهم، وقد

روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قال: الناس ثلاثة أقسام: عالم رباني،

ومتعلم على سبيل النجاة، وسائر الناس همج رعاع لا خير فيهم، يغلون الأسعار،

ويضيقون الديار، ثم إنهم بعد أن أفاقوا من سكرتهم، وانتبهوا من رقدتهم، أسفوا

أشد الأسف على ما ضاع من أوقاتهم، ولكن ذلك بعد أن تفارط الأمر، وفات

الأوان. والله المستعان.

٥- يشكو كثير من طلاب العلم المواظبين على حِلَقِ العلم من طول مدة إنهاء

كتاب من الكتب، التي قد تمتد لسنوات.. فما تعليقكم؟

هذا مشاهد ملحوظ، ولكنه ليس مطرداً في جميع طلبة العلم الذين يرغبون في

المواصلة والاستمرار في الطلب، ولا تكل جهودهم، ولا تضعف هممهم، فنوصي

طالب العلم، أن تكون همته عالية، وأن لا يعتريه سآمة ولا ملل، وأن يتذكر

أحوال السلف وعلماء صدر هذه الأمة، وما بذلوه من الجهد، والتعب والنصب في

طلب العلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه رحمه الله أنه قال: (أول سنة خرجت

في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف

فرسخ، ولما زاد على ألف فرسخ تركت الحساب. وذكر أنه سار ماشياً من الكوفة

إلى بغداد مرات عديدة، ومن مكة إلى المدينة مراراً، ومن البحر من قرب مدينة

صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس،

ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن

دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثم من

طرسوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، وقبل ذلك

من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً في سفره الأول، وسنه

عشرون عاماً، وقد نقل عن غيره أكثر من ذلك. وبالجملة نوصي طالب العلم

بالمواصلة، ولو طالت المدة، سواء في الدراسة النظامية، أو في الحلقات العلمية،

ونوصي المشايخ أن يتنزلوا على رغبات جمهور الطلبة، في تعليمهم ما يساعدهم

على حمل العلم، من المختصرات المفيدة، حتى لا يملوا، فمن رغب في

المطولات، واستمر على المواصلة فهو أوْلى، حتى يتزود من المعلومات المفيدة.

والله أعلم.

٦- ما يزال الشباب يتوافدون بحمد الله على دروس العلم، لكن الملاحظ

سرعة تبدل بعض الطلبة بحيث لا يستمر بعضهم إلا أشهراً، وقد يكون ممن ابتدأ

قراءة كتاب على بعض أهل العلم ... ويخشى بعض المحبين من خطورة الأمر..

فما رأي فضيلتكم في العلاج الأمثل لحث الطلبة على مواصلة العلم وتلقيه عن

العلماء المشهود لهم؟

نوصي طالب العلم أن لا يعتريه ملل، ولا يثنيه كسل؛ فإن العلم كثير،

والعمر قصير، وذلك أن الطالب للعلم همته رفيعة، فهو لا يشبع من التعلم، ولا

ينثني عن المواصلة، ولقد كان الكثير من العلماء الأكابر يقرؤون ويستفيدون، حتى

من تلامذتهم، ولا يحتقر أحدهم من دونه أن يتلقى منه فائدة، وكان التلاميذ

يلازمون مشايخهم، ويتكرر أحدهم على مجالس العلم، إما للتذكر أو للتزود، حتى

ولو كان عالماً بما يقول شيخه، وذكروا أن من آداب التلاميذ أن يظهروا لمشايخهم

الشكر، والدعاء لهم، حتى لو كانت المسألة معلومة عندهم، فإذا سمع الفائدة أظهر

لشيخه أنها جديدة، وأعلن بشكره عليها، ولو كانت معلومة له من قبل، واستشهد

بعض المشايخ بقول الشاعر:

إذا أفادك إنسان بفائدة ... من العلوم فلازمْ شكره أبدا

وقل: فلان جزاه الله صالحة ... أفادنيها، وألقِ الكِبَْر والحسدا

وعلى المدرس أن يحث الطلبة على المواصلة والاجتهاد، والحرص على

إكمال الدراسة، سواء كانت نظامية أو علمية، وأن يتصور فائدة المواصلة

والمتابعة، وما يترتب على الانقطاع من ضياع المعلومات، وذهاب ما بذله من

الجهد، وليعلم أن العلم لا يحصل لمتكبر، أو متوان، أو مستحْيٍ، وأن العلم

بالتعلم، وبالحفظ والإتقان والفهم والإدراك.

٧- لعل من أسباب ضعف الاستمرار: سوء اختيار الطالب للدرس الذي

يحضره، أو الكتاب الذي يدرسه؛ لكونه لا يناسب مستواه العلمي، ألا ترون أن

هناك حاجة إلى جعل الطلبة على مستويات اثنين أو ثلاثة مثلاً ينظر في إلزام

الطالب الراغب في الالتحاق بما يناسب مستواه؟

قد عرف أن طلبة العلم يتفاوتون في المستويات، وهكذا في الرغبات، ولذلك

يكثر تواجدهم في بعض الفنون دون بعض، وعند بعض المشايخ دون البعض،

وقد يكون السبب قلة الرغبة من بعضهم في إحدى المواد؛ حيث إن منهم من لا

يرى الاشتغال بالفقه الذي يغلب عليه أنه اجتهاد من الفقهاء، والكثير منه لا دليل

عليه، وبعكس هؤلاء آخرون رأوا أهميته؛ لأنه يتعلق بواقع الحياة، ويحتاج إليه

الفرد والمجتمع، ولا بد من الفتوى به عند وقوع حادثة، فهو من العلوم الضرورية

في كل زمان ومكان، ولهذا كثرت فيه المؤلفات من العلماء الذين رزقهم الله العلم

والفهم بالوقائع، وتطبيق النصوص على الحوادث، ثم إن من الطلاب من يفضل

نوعاً من العلوم الفقهية، كقسم العبادات، ويحب تكرارها في عدة كتب، ولا

يرغب في قسم المعاملات وما بعده، وبعكسه آخرون يفضلون الاجتهاد في فهم

المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، فعلى هذا لا مانع أن يقسم المدرس الوقت بين

الطلاب؛ فمن رغب في النحو واللغة والصرف والبلاغة والبيان جعل لهم وقتاً،

واختار مادة أو مختصراً يناسبهم جميعاً، ومن رغب في الحديث حدد لهم درساً في

يوم أو أيام، ومن رغب البدء من أول العلوم ابتدأ بالتوحيد والعقيدة التي تناسب

المبتدئين، ومن رغب في الفقه من أوله أو من وسطه أعطاهم رغبتهم، ولعله بذلك

يفيد المستفيدين، ويحصل كل منهم على ما تميل إليه نفسه. والله الموفق.

٨- تلقى فتاواكم بحمد الله ارتياحاً عاماً، يعزى فيما نحسب بعد توفيق الله

تعالى لحسن فهمكم روح الشريعة ومراعاة مقاصدها، واعتبار المصالح والمفاسد..

هل من توجيه لطلبة العلم في هذا الصدد؟

أعترف على نفسي بالقصور والنقص، وكثرة الخطأ، وأسأل الله العفو

والغفران، وستر العيوب والنقائص؛ حيث إني أكتب أجوبة الأسئلة التي ترفع إليّ

بدون مراجعة، أو بحث في أقوال العلماء غالباً، نظراً إلى كثرة الأعمال، وعجلة

السائل، والارتباط بالمواعيد والدروس، وأعتمد فيما أكتب على معلومات قديمة

علقت بالذهن وقت الطلب والتلقي عن المشايخ، أو تجددت وقت التدريس الرسمي

الذي كنت أستعد له وأراجع وأحضّر قبل الإلقاء، أو حصلت من الممارسة وتكرر

المرور، ومن المطالعات والدروس الجديدة التي أقوم بإلقائها في المساجد. فأما

القابلية لها عند العامة أو التلاميذ فلعل ذلك لحسن الظن، ولما يتلقونه من الدروس

التي يتقبلونها، واثقين بصحتها ومع ذلك فإني أقول: ما كان فيها من صواب فمن

الله تعالى وهو الذي وفّق له وهدى، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان،

وأستغفر الله مما وقع مني. وأقول: على طلاب العلم أن لا يعتمدوا على فتوى

تخالف الدليل أو الحق والصواب، فإن على الحق نوراً، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، فلا بد من مراجعة الكتب والمؤلفات، وتطبيق الفتاوى

الاجتهادية لي ولغيري على كلام العلماء، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، والله أعلم.

٩- (لحوم العلماء مسمومة) ؛ فما واجب أهل العلم وطلبته في حماية

أعراضهم؟

اشتهرت هذه العبارة بين الأمة، وهي تفيد معرفتهم بفضل العلماء، ومكانتهم

في المجتمعات، ومنزلتهم بين الأمة، ولعل من أسباب تكرار هذه الكلمة ما وقع فيه

البعض من الطلبة أو العامة، أو المنتسبين إلى العلم، من كثرة القدح والعيب

والتنقص والاغتياب لبعض علماء الأمة، وأكابر الدعاة والمعلمين، وقد يكون

الحامل لهؤلاء الحسد الذي يكثر بين حملة العلم، وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله

في (جامع بيان العلم وفضله) باباً كبيراً في طعن العلماء بعضهم في بعض، قال:

والصحيح أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته

بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها

جرحته، ... والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماماً في الدين،

قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم كلام كثير

في حالة الغضب، ومنه ما حمل على الحسد، كما قال ابن عباس: (استمعوا علم

العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من

التيوس في زُرُبِها) . وفي قول له: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول

الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة) . ثم نُقِل عن

أبي حازم عن أبيه أنه قال في أهل زمانه: فصار الرجل يعيب مَنْ فوقَه ابتغاء أن

ينقطع عنه، حتى يرى الناس أنه ليس بحاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله،

ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس ... إلخ. وقد ذكر أمثلة من طعن بعض

العلماء في بعض نظماً ونثراً، وقد اشتهر طعن الإمام مالك وهشام بن عروة في

محمد بن إسحاق، وبالعكس، ولم يكن ذلك موجباً لرد روايتهم، وهكذا طعن ابن

حجر في العيني، والعيني في ابن حجر، وكذا ما حصل بين السيوطي والسخاوي؛ وذلك لأن الحامل على ذلك المنافسة والحسد، وحب الظهور، وإذا كان ذلك ليس

من أخلاق العلماء المتواضعين، فعلى هذا لا يجوز سماع الطعن في العلماء

المشهورين، ولا يلتفت إلى من أخذ ينقّب عن مثالبهم، ويتتبع أخطاءهم، فيجعل

من الحبة قبة، ويتغافل عن فضائلهم وآثارهم، وعلومهم الجمة التي نفع الله بها،

والله عند لسان كل قائل وقلبه.

١٠- ما أهم ما يميز العالم من الخُلق، مما يمنحه قبول الناس له؟ وما

جوابكم على من يخلط بين الهيبة والتعالي؟

لقد كتب العلماء في أخلاق العالم وأكثروا، سيما إذا تولى عملاً ذا أهمية

كالقضاء والتعليم ونحو ذلك، ونحيل القارئ على كتاب: (تذكرة السامع والمتكلم،

في آداب العالم والمتعلم) ، لابن جماعة رحمه الله ولا شك أن العالم له مكانته بين

الناس، وأن عليه أن يتواضع لمن سأل، ويصغي لمن يستفيد منه، ويلين جانبه،

ويظهر للطلاب الفرح والاستبشار، ويلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط، ويفرح

بتوافدهم وكثرتهم عنده، ويسره أن يستفاد منه، وعليه أن يبدأ بطلب القراءة عليه، ويعرض على التلاميذ أن يجلس لهم في مادة كذا وكذا، أو يسألهم عن رغبتهم،

ويجيب مطلبهم، وأن يلتمس ما يميلون إليه من البسط أو الاختصار، ومع ذلك فلا

يضع نفسه موضع الذل والاستضعاف والهوان، بل يترفع عن مجالس السفه واللهو

واللعب، وإضاعة الوقت، مما يسقط مكانته، ويضع قدره عند تلاميذه، وأن لا

يشمخ بأنفه، ويتكبر على بني جنسه، مما يعيبه به العلماء والتلاميذ، ولكن بين

ذلك، فيكون ليناً بلا ضعف، قوياً من غير عنف، حليماً ذا أناة، كما ذكروا ذلك

في القاضي.

١١- من المشتغلين بالعلم من يرى ضرورة احتجابه عن مخالطة العامة؛

لأجل توفير الجهد والوقت؛ فما مدى توافق ذلك مع الهدي النبوي؟ وهل القاعدة

في هذا الأمر مطّردة، أم يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة؟

وما ضوابط المخالطة المناسبة لأهل العلم وطلابه؟

قد علم أن لحامل العلم مكانته ومنزلته التي فضله الله بها على غيره، ومتى

خالط السفهاء وعوام الناس، واندمج معهم، لقي إهانة وذلاً واحتقاراً، وسمع من

سخيف القول، ومستهجن الكلام، ما يترفع عنه حملة العلم الذين قال الله عنهم:

[يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] [المجادلة: ١١] ولقد صور ذلك الشيخ أبو الحسن الجرجاني رحمه الله بقوله:

يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

ولم أتبذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظّما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما

وأقول أيضاً: إن الاحتجاب العام عن الجميع غير لائق؛ فإن الناس بحاجة

إلى مجالسة أهل العلم، والتلقي عنهم، والبحث معهم عن المعضلات وما يشكل

عليهم، فلهذا متى ابتعد العالم عن العامة حتى عن الطلاب عيب عليه هذا الابتعاد،

ومتى اختلط بالعامة وغوغاء الناس ومن لا يعرف مكانته عيب ذلك عليه، فلا بد

أن يحفظ نفسه ووقته للاستفادة والقراءة والمذاكرة، ولا بد أن يتبسط ويفتح صدراً

رحباً لمن زاره أو استزاره لتحصل الاستفادة من معلوماته، ويتجدد ما في ذاكرته

من معلومات ومفاهيم، وينفق مما أعطاه الله، ولا شك أن الناس يختلفون، وبينهم

تباين كبير في الآراء والأعمال؛ فمن كان ميله إلى المذاكرة والكتابة والتأليف آثر

ذلك على التعليم والتدريس، وساغ له أن يتفرغ للقراءة والبحث والكتابة ونحو ذلك، ولكن لا ينبغي له أن يحتجب دائماً، بل عليه أن يفسح المجال لبعض الزوار

والمستفيدين. وأما من آثر التعليم والإفتاء والتدريس، فإنه يحب الانبساط

والاختلاط، ويرغب الاندماج مع الناس، ولكن عليه أن يرفع نفسه عن مواقف

الذل والهوان.