المسلمون والعالم
[أمريكا والعراق.. ما جرى وما سيجري]
أ. د. عماد الدين خليل [*]
ها هي ذي ورقة التوت الأخيرة تسقط عن الجسد الأمريكي المتقرّح، فيتعرّى
أمام العالم.. الويسترن الأمريكي يظهر مرة أخرى ليعتقل الكلمة في الصدور،
وليجعل الرصاص وحده هو الذي يتكلم.. والحبال التي كان رعاة البقر يلوّحون بها
للقطعان، هي نفسها التي يريدون بها اللحظة أن يسوقوا الأمم والشعوب إلى ما
يريدون هم لا ما تريده تلك الأمم والشعوب.
تمثال الحرية المنتصب عند حافات نيويورك يسقط هو الآخر.. ويُدسّ أنفه
ووجهه في بحيرات النفط الأسود لكي يرتشف منها حتى الثمالة فتتفحم ملامحه
وتصير بلون القار..
القرصان الأمريكي الأحمر يجوب البحار متسلطناً في بوارجه العملاقة
وأظافره الملوّثة باليورانيوم، وأنيابه الذرّية التي تنذر بالويل..
ها هم أحفاد المكتشفين الأوائل.. الغزاة الأوائل.. يمضون إلى أهدافهم
بالمنطق نفسه: أنت تقتل الآخر فأنت موجود!
من أجل ذلك لم يصيخوا سمعهم مطلقاً لكل الأصوات التي أحاطت بهم من كل
مكان متوسلة إليهم ألاّ يندفعوا وراء إغراء القوة فيمارسوا الذبح المنفلت عن كل
الضوابط الدينية والخلقية والإنسانية.. فلم يلتفتوا إليها.
الدول والحكومات والمؤسسات والجماعات والشعوب بل حتى الشعب
الأمريكي نفسه رموا بأنفسهم جميعاً صوب (الكلمة) التي كانت في البدء، والتي
يظل بمقدورها أن تصنع المصائر والمقدرات.. ولكن القرصان الأحمر أبى إلاّ
اعتماد السيف حَكَماً بينه وبين المستضعفين في الأرض.
الأمريكي الذي قدر حتى بداية الستينيات من القرن الماضي على الاحتفاظ
بإعجاب من يسمّونهم بأحرار العالم.. ما لبث أن كشف عن وجهه القبيح بعد سنتين
أو ثلاث.. إذ ما لبثت حرب فيتنام أن شهدت واحدة من أبشع المذابح البشرية في
التاريخ..
وما بين حرب فيتنام والهجوم الضاري على العراق ازدادت الدمامل
والتقرحات في الوجه الأمريكي، وازداد دمامة وقبحاً، ولم يعد أحد يحبه أو يميل
إليه، أو يقول: ها هو ذا حامي الحرية في قارات الدنيا الست! حتى الأمريكيون
أنفسهم كرهوا أنفسهم عندما رأوا كيف أن أولئك الذين منحوهم أصواتهم خانوا
الأمانة، ولم تعد تهمهم المصالح العليا لأمريكا بقدر توظيف فرصتهم في الحكم
لحماية مصالحهم المادية، والانحناء للوبي اليهودي الذي يعرف كيف يمتص الدم
الأمريكي، ويمارس مع الحكام الكبار لعبة: أعطني لكي أعطيك..
يقيناً سيجيء اليوم الذي تتكشف فيه أمام المواطن الأمريكي أبعاد اللعبة،
وسينتفض يومها محاولاً أن يمنع الانحدار نحو الهاوية، وأن يوقف مافيات الرئاسة
القابعة في البيت الأبيض من أن تجر أمريكا ومصالحها العليا إلى الدمار من أجل
حفنة من الدولارات..
يقيناً سيجيء اليوم الذي تتكشف فيه الخدعة اليهودية الكبرى في اختراق
المسيحية البروتستانتية بالخرافات والأساطير التي قامت عليها الحركة الصهيونية
وسياسات «إسرائيل» .. وها هي ذي توظف سياسات أمريكا نفسها في السياق
ذاته لخدمة المصير اليهودي في العالم تحت شعار: هرمجدُّون.. المعركة الفاصلة
واليوم الموعود!
ولكن بعد كم سينكشف هذا كلّه، وينهض الأمريكي الذي خدع طويلاً وابتز
كثيراً لكي يقف في مواجهة السرطان الذي يحاصر دينه ودنياه؟ وكم سيذبح
الطاغوت الأمريكي من الأمم والشعوب، ويبتزّ من ثرواتها ومقدراتها قبل أن يوقفه
المواطن الأمريكي نفسه عن المضي باللعبة الخطرة إلى نهايتها المفجعة؟
ثمة أهداف ستة تجعل البيت الأسود يتحدى الإرادة الدولية ومؤسساتها،
ويصمّ أذنيه عن نداءات ملايين المتظاهرين داخل أمريكا وخارجها، ويمضي لكي
يشن حربه الفاجرة ضد العراق، ويوظف آلته الجهنمية، وفق أكثر وتائرها قسوة
ولا إنسانية لتحقيق هدفه.
لنتابع هذه الأهداف واحداً بعد الآخر بالإيجاز المطلوب الذي تسمح به
صفحات كهذه.. ورغم أنه قد قيل فيها الكثير فإنها تتطلب المزيد.
* نفط العراق.. هذا هو أول الأهداف:
أضخم خزين احتياطي في العالم طبقاً لآخر الكشوف الحقلية.. إن وضع
الذراع الأمريكي عليه يحقق لأمريكا ومافياتها المالية والسياسية والأمنية المتسلّطة
ثلاثة منافع بعضها محدود عاجل، وبعضها استراتيجي شامل.
على المستوى الأول يجيء المردود مباشرة لكارتل النفط العملاق الذي تملكه
وتديره الطغمة المتربعة في البيت الأبيض منذ أواخر ٢٠٠١م: بوش الابن (ومن
قبله الأب) ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد، ومسؤولة أمنه القومي رايس
.. وأيضاً لشركات النفط الأمريكية الأخرى التي قدمت جنباً إلى جنب مع أرباب
معامل السلاح لبوش ومجموعته من الرشاوى والعمولات ما جعلهم يصرّون على
اعتماد القوة واحتلال العراق.
هذا إلى ما تعانيه موازنات المالية الأمريكية والدخل القومي من عجز آخذ
بالتزايد سنة بعد أخرى مما يمكن أن يعالج جانباً كبيراً منه المردود المالي لنفط
العراق.
على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى؛ فإن وضع اليد على خزين العراق
سيديم عجلة المدنية الأمريكية وآلياتها لمديات زمنية متباعدة قد تتجاوز القرن من
الزمن، وقد يعينها على التفرّد بقطبيّتها الأحادية من خلال الإمساك برقاب دول
الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان عن طريق التلويح بسلاح النفط، أو
ما يمكن اعتباره الأمن النفطي.
هذا إلى أن فرض السيطرة الأمريكية على العراق سيجعل أمريكا قريبة من
منابع النفط، واحتياطاته، في منطقة الخليج العربي التي ستشكل مع العراق معظم
احتياطي نفط العالم كلّه، وسيمكن أمريكا من رفع عصاها الذريّة فوق كل الرؤوس
التي منحتها ما تريد أو استعصت عليها.
عدة عصافير نفطية بحجر واحد؛ فكيف لا يصرّ البيت الأسود على أن يرسل
قواته إلى العراق لكي تستحم في بحيرات النفط الأسود؟
إن دراسات الخبراء في أحدث معطياتها تشير إلى أن الاحتياطي النفطي
العراقي هو أكبر احتياطي في العالم، خلافاً لما يعلن من أن احتياطي أرامكو هو
الأكبر. ولقد كادت فرنسا وألمانيا أن تحصلا على امتياز الاستثمار في حقل
(مجنون) العملاق جنوبي العراق في أواخر الثمانينيات، ولكن حرب الخليج الثانية
فوّتت الفرصة عليهما، ثم ما لبثت أمريكا أن فرضت نفسها عالمياً كقطب أوحد لا
معارض له، وأرخصت أسعار النفط بما يحفظ مصالح ميزانيتها، حتى قال بعض
خبراء النفط العرب إن ما فقدته البلاد العربية عبر الأسعار المنخفضة عن المقدار
الواجب اللائق، يقدر بأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار خلال هذه السنوات
الأخيرة بعد حرب الخليج الثانية. ثم ها هي ذي أمريكا تندفع اليوم لإكمال سيطرتها
على نفط العالم بعامة ونفط العراق والخليج بخاصة، وتجعل ذلك ركناً في خطتها
الاستراتيجية إلى بوش الابن قبل انتخابه بستة أشهر؛ إذ إن العالم بعد سبع سنوات
من الآن سيستورد من العراق فقط ربع كمية الاستهلاك اليومي، ومن الخليج نصف
الكمية. فإذا أخذنا في الاعتبار أن نفط إيران مستهدف من قِبَل أمريكا، ونفط
الجزائر وليبيا والسودان، فإن اعتماد العالم في المستقبل سيكون بصورة تامة
على النفط العربي إلا قليلاً.
ومن الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس أن أمريكا قد اكتشفت من قبل
أن السودان كله يطفو فوق بحيرة من النفط، لكنها لم تستخرجه، وتركته ليكون
الاحتياطي الرئيس إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس، وكان في
خطتها أن تستخرجه وتمدّ أنبوباً يوصله إلى سواحل غرب أفريقيا ليشحن إليها
بحريّة عبر المحيط بعيداً عن المضايق، فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في
السودان، وتحدّت الإرادة الأمريكية، وبدأت في استخراجه قبل أوانه الذي حددته
الاستراتيجية الأمريكية. ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان. ولعل
أمريكا بعد إنجاز حربها واحتلال العراق، سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو
السودان، لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي
يوفر لها الطاقة.
كذلك تشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب،
بل واستخدامه كسلاح سياسي فعال، ليس تجاه دول العالم الثالث فقط، بل وتجاه
دول أوروبا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا حدثتها نفسها بالتمرد على الإرادة
الأمريكية.
ولقد كشف سقوط طائرة الإغاثة في باكستان قبل فترة وجيزة، خطة أمريكية
سريّة لوضع هندسة مرور أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى عبر أفغانستان
وصولاً إلى الخليج، مما يعتبر الهدف الرئيس من غزو أمريكا لأفغانستان مغطية
إياه بدثار مقاومة الإرهاب.
وجاء في تصريح لبوش أن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند أمريكا
لحساب الشعب العراقي بعد تحريره!! فيما يذكر بأكذوبة بريطانيا عندما غزت
فوكلاند قبل عشرين سنة تحت شعار: توريد الديمقراطية إلى الأرجنتين، وهي
الآن تستخرج النفط من تلك الجزيرة النائية التي دهش المغفّلون من اهتمام بريطانيا
بها يومذاك، وصار المثل الفوكلاندي واضحاً في قيادة حروب النفط بشعارات
التباكي على الديمقراطية..
وبداية اللعبة أخذت تكشف عن نفسها منذ لحظات الغزو الأولى للعراق، بل
قبل تنفيذه بأسابيع: إن نفقات الغزو، على ضخامتها الأسطورية ستسترد من العائد
المالي لنفط العراق!!
هل شهد التاريخ قرصنة كبرى كهذه، أن تغزو بلداً وتدمّر مقدراته وتقتل
شعبه، ثم تفرض عليه أن يدفع لك من أمواله، نفقات الحرب التي أجهز بها
عليك؟! .
* تفكيك العراق.. والإنسان في العراق:
هذا هو الهدف الآخر للحرب.. وهو أشد وأنكى؛ فإن النفط قد يعوّض
بمعادن أخرى وقدرات زراعية هائلة يعد بها العراق بما يتمتع به من ثروات معدنية
ومائية لم يستثمر منها حتى الآن سوى أقل من القليل: الكبريت، والفوسفات،
واليورانيوم، والزئبق الأحمر، والمياه الجوفية، والتربة الخصبة، وشبكة الجداول
والأنهار.
لكن ما لا يمكن تعويضه، في المديات الزمنية المنظورة على الأقل، هو
العراق نفسه، وشعبه، والإنسان المواطن فيه.. بما يتميز به هذا الأخير الذي
يخفق ويتحرك على خارطة العراق، من إيمان ونبل وجديّة، وذكاء وشهامة وثقافة،
وقدرة على التعلّم قلّ نظيرها لدى شعوب العالم الثالث.
ويقف في قمة هذه المنظومة من المزايا: النزوع الديني الأصيل في تكوين
المواطن العراقي الذي قاده ويقوده إلى حمل هموم الأمة الإسلامية على أكتافه،
وبذل الغالي والرخيص في سبيلها، والعداء المتأصّل في عقله ووجدانه ضد كل ما
يمتّ للاستعمار بشتى صيغه وللصهيونية ودولتها «إسرائيل» ..
والآن وعبر العقدين الأخيرين: ضد كل ما هو أمريكي يسعى للتفرّد بالمصائر
والمقدّرات وفق نزعة مصلحية صرفة تتحرك منفلتة عن كل ما يمت للقيم الدينية
والأخلاقية والإنسانية، بأيما صلة على الإطلاق..
وما قدّمه العراقيون، مدنيين وعسكريين، للقضية الفلسطينية منذ بداياتها
الأولى وحتى اللحظات الراهنة، ربما يكون أحد أسباب إلحاح الإرهابي شارون
على زميله الإرهابي الآخر بوش لشن الحرب على العراق.
وبمجرد إلقاء نظرة طائر على المدن العراقية في ساعات الصلاة، سيجد
المرء نفسه أمام حشود لا تعدّ ولا تحصى، تتدفق على الجوامع والمساجد في كل
مكان.. والذين يذهبون متأخرين بعض الوقت إلى هذا المسجد أو ذاك لسماع
محاضرة أو حضور مناسبة لا يكادون يجدون لهم موطئ قدم حتى في أروقة المسجد
وحدائقه.
والصحوة الإسلامية في العراق تمضي لكي تنشر الحشمة والحجاب، وتزرع
الفضيلة وقيم السلوك الوضيء الملتزم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم.. ولكي تمارس شبكة من الأنشطة الدعوية بين الرجال والنساء والأطفال،
تعد بتحوّل مجتمع بكامله إلى ما يريده هذا الدين.
هذا كلّه تسعى الهجمة الأمريكية الشرسة لاغتياله، باعتماد أي أسلوب مهما
كان بعيداً عن بداهات القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية.
ومن جرّب ليس كمن لا يجرّب، فإن الكميات الأسطورية لليورانيوم التي
صبّتها الطائرات الأمريكية على العراق في حرب الخليج الثانية ساقت أجيالاً من
العراقيين إلى الموت، أو ما يوازيه ويؤذن به من دمار جسدي ونفسي.. ولا تزال
آثارها تعمل في افتراس الإنسان هناك، وربما إلى مديات زمنية قد تطول كثيراً.
إن نصف مليون طفل يتعرّض للتشوّه أو الموت، وإنَّ ارتفاعاً مخيفاً في
نسب الإصابة بالسرطان لهي الشاهد العدل على ما نقول.. والبقية تأتي.
والذي سيتمخض عن حرب بوش الابن سيكون أكثر شؤماً بكثير، وزبانيته
استخدموا، دونما أي رادع إنساني على الإطلاق، اليورانيوم المنضّب، وأم القنابل
ذات الأطنان التسعة، والقنابل العنقودية، والصواريخ التي تخطئ تصيب..
والحق أن الأهداف النفطية والسياسية التي تريد أمريكا الوصول إليها عبر
الحرب، تعتبر ثانوية بالنسبة إلى الهدف الرئيس الأهم المتمثل في محاولة تحطيم
العراق وجيشه، وتدمير البنية الصحية والنفسية المعنوية للشعب العراقي..
ولقد صمّمت أمريكا مواصفات حصار العراق وامتداد وقته بحيث تحصل حالة
سوء تغذية في عموم الشعب طويلة الأمد تؤدي إلى وهن عام وإحداث طفرة وراثية
تنتج المرض المنغولي وأنواع الإعاقة والتخلّف إلى درجة يضمر معها الذكاء وعموم
مستلزمات الأداء الحربي لشعب العراق، وتحصل حالة انكفاء عام واهتمام بالآلام،
فينام اليهود عندئذ بأمان.. ولكن الله سلّم وشاءت حكمته أن يكون التمر الكثير في
العراق أفضل غذاء غني بأنواع المعادن والفيتامينات، فأنجد أهل العراق، وأخفق
الحصار في تحقيق هدفه، وصار تحطيم هذا الشعب من مهمات الحرب
الاستعمارية الأمريكية الجديدة؛ بحيث صممت لنشر الموت الذريع في هذا الشعب
الأبي، أو الإعاقة الدائمة عبر استعمال آلاف الصواريخ والقنابل الذكية الليزرية،
وقنابل أخرى تسمى قنابل المايكروويف تعطل جميع الأجهزة الإلكترونية وتحرق
جلود الناس.. مما يؤيد الشكوك في أن الحرب إنما تراد لتحطيم الشعب والبنية
الصحية والطاقات الصناعية والزراعية، وحرق النخيل الذي يتحدى التجويع، ثم
تتولى خطة إفقار العراق على المدى الطويل لإتمام المهمة الشريرة حيث تكون
الكارثة الصحية ويحصل الانهيار المعنوي.
ولقد صرح مدير برنامج الغذاء العالمي بأن المتوقع أن الحرب ستصيب ما
بين خمسة إلى عشرة ملايين عراقي بنقص الغذاء، وأن جمعيته لا تستطيع إلا
مساعدة تسعمائة ألف فقط!!
* نزع الهوية الإسلامية للشعب العراقي:
وهو السياق الآخر للتفكيك عبر المناهج الدراسية والتلقين الإعلامي الكثيف،
وغرس تربية غربية جاهلية بديلة، أمريكية الأنماط والأذواق، وفرض هزيمة
معنوية وشعور باليأس، واستسلام للعدو، بل وإعجاب برؤيته المادية المنفعية
الصرفة للحياة والوجود، ولوظيفة الإنسان في العالم.
وهناك، إلى جانب هذا، السكين الأخرى: تقسيم العراق على مرحلتين عبر
تكوين الفيدراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى الاستقلال؛ حيث تنصرف
كل دويلة إلى همومها الداخلية، تنسى هموم الأمة، ومكائد الاستعمار، وأفاعيل
«إسرائيل» النكراء في الساحة الفلسطينية.
هذا إلى البعد التدميري للزراعة؛ فإن أمريكا تريد تعميم استخدام الحنطة
كسلاح ضغط على جميع الأمم، مارسته بنجاح في إسقاط الاتحاد السوفياتي،
وتمارسه اليوم تجاه مصر حيث لا تفرّغ بواخر الحنطة الأمريكية حمولتها في
الموانئ المصرية إلا بعد فراغ المخزون المصري واضطرار القاهرة لتقديم تنازلات
سياسية.
وقد ثبت أن «إسرائيل» بعد معاهدة كامب ديفيد قد استخدمت مجالات
التعاون الزراعي مع مصر لتدمير النظام الزراعي المصري الموروث، وإفساد
التربة، وتسميم الأسمدة من أجل تجويع الشعب المصري وتسويق الحنطة
الأمريكية.
وفي ضوء ذلك كله فإن تدميراً أمريكياً لمنتج الحنطة العراقي، والزراعي
بشكل عام، يوشك أن يكون، لطعن خطة الأمن الغذائي العراقي والتحوّل إلى
الاعتماد على الحنطة الأمريكية التي لن تكون بغير ثمن سياسي جديد مع كل شحنة
تصل الميناء.
ومع هذا وذاك هناك الاستنزاف المالي، والإفقار الطويل الأمد؛ إذ يتحتم
على العراق أن يدفع تعويضات للكويت وغيرها تزيد على مائتي مليار دولار، وأن
يدفع لأمريكا نفقات الحرب التي تبلغ أكثر من مائتين وسبعين مليار أخرى. ولو
أضيفت إليها مديونيات العراق لروسيا وغيرها يكون عليه أن يدفع أكثر من
خمسمائة مليار دولار مع فوائدها؛ مما يجعل ثلاثة أجيال عراقية قادمة أو أربعة
تعيش تحت خط الفقر المدقع وبلا أمل ولا عمل حتى نهاية القرن الحادي والعشرين.
ويزداد الضرر عبر سريان الاستنزاف إلى الدول العربية التي أعلنت البنوك فيها
فقط أنها ستخسر ستين مليار دولار بسبب الحرب. وكل ذلك يشكل كارثة إنسانية
لم تقع في الحياة البشرية بهذا الحجم عبر طرق الضغط السياسي الدولي.
ولن ننسى كذلك كارثة الابتزاز المائي؛ فالماء بند رئيسي في الخطة الأمنية
الإسرائيلية؛ إذ هي برغم تفوقها العسكري توشك أن تختنق عطشاً، وسيتبع
احتلال العراق احتلال سورية أو إجبارها على توقيع معاهدة صلح مع «إسرائيل»
يكون من أهم بنودها السماح بمدّ القنوات أو الأنابيب عبر أراضيها من تركيا إلى
«إسرائيل» لنقل معظم مياه الفرات ودجلة إليها. والذين سيعطشون في المستقبل
هم العراقيون الذين يُعد بلدهم من أغنى دول العالم في ثروته المائية.
ثم..
من هو الذي سيتولى الإشراف على هذا الدمار كله، ويحكم العراق رغماً عن
الادّعاءات الكاذبة بمنح العراقيين الحرية والديمقراطية؟
إنه (جاي جارنير) الجنرال المتقاعد الذي اختاره رامسفيلد ليكون الحاكم
المدني للعراق بعد الحرب، وهو جنرال مقرّب من صقور الإدارة الأمريكية، ومن
اللوبي الصهيوني الأمريكي، ومن حزب الليكود الإسرائيلي، وله ارتباطات بالمعهد
اليهودي لشؤون الأمن القومي «جينسا» . وكان آمراً لوحدة صواريخ باتريوت
الأمريكية في «إسرائيل» خلال حرب الخليج الثانية (١٩٩١م) ، وتولى بعد
ذلك قيادة الدفاع الصاروخي والفضائي، وهو يملك شركة لصناعة الصواريخ
تستفيد من نفوذه، ويحيل إليها طلبات شراء الصواريخ في قضايا مفتوحة ساعدت
إدارة بوش على إغلاقها!!
* تصفية القضية الفلسطينية:
وهو هدف آخر للحرب بعد أن استعصى الفلسطيني على بني «إسرائيل»
في واحدة من أشد الملاحم في تاريخ البشرية إثارة للدهشة والإعجاب.. ملحمة
ينعدم فيها تماماً التكافؤ بين الطرفين.. ومع ذلك تواصل الاستمرار، وترتفع
وتائرها يوماً بعد يوم، وتكسر حاجز السنتين، وتمرّغ أنف الإرهابي شارون،
وتسقط وعده الكاذب بإنهاء الانتفاضة في مائة يوم! وتلحق بـ «إسرائيل»
المغتصبة الخسائر المتلاحقة في الأنفس والأموال، وتدمّر الأمن الإسرائيلي،
وترغم اليهود على القيام بهجرة جماعية مضادة على النقيض تماماً مما يريده الليكود
ويحلم به كهنته بخصوص «إسرائيل» الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل.
ها هي ذي الحرب الأمريكية على العراق تفتح الأبواب على مصاريعها أمام
الطاغوت الإسرائيلي لكي يذبح الفلسطينيين ويدمّر بنيتهم التحتية على هواه،
ويتوعدهم بالتهجير.
كان هدف أمريكا المعلن هو إزالة الأسلحة العراقية الهجومية المتقدمة (التي
تسميها كذباً وزيفاً أسلحة التدمير الشامل) ، والتي تشكل تهديداً لـ «إسرائيل» ،
مما يؤكد قيام أمريكا بهذه الحرب، في جانب منها، نيابة عن «إسرائيل» ، خوفاً
من احتمالات المستقبل.
وأمريكا إذا أتيح لها الإمساك بزمام العراق فإنها ستواصل منع صناعة السلاح
العراقي المتطور، وتحجيم قدرات العراق العسكرية، وتصفية تشكيلاته المقاتلة،
وذلك كله من أجل منح الغطاء الأمني الذي تحتاجه «إسرائيل» لتدمير المقاومة
الفلسطينية، وتمرير سياسات التطبيع والاختراق، انتهاءً بعقد الصلح معها. لا بدّ
من تدمير القدرات العسكرية للجيش العراقي لكي يصبح عاجزاً تماماً عن دخول
حرب مع «إسرائيل» .. وأمريكا - مرة أخرى - تقوم بهذه المهمة نيابة عن
«إسرائيل» ؛ حيث يجد اليهود في التلمود أن خراب دولتهم الثانية هذه سيكون
على أيدي جند أولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج نبوخذ نصّر
الذي خرّب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى.
وإمعاناً في الاحتياط وفي تحقيق الأمن الإسرائيلي بصورة تامة، تجنح الخطة
الأمريكية إلى استثمار الانتصار الحربي لإجبار الحكومة العراقية العميلة التي
سينصبونها على انتهاج ثلاثة خطط سلبية تمنح «إسرائيل» أمنها الملحّ:
أولها: الاعتراف الرسمي بـ «إسرائيل» وعقد معاهدة معها على غرار
معاهدات السلام التي وقّعها السادات وغيره، والقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي
والاجتماعي مع اليهود، وبذلك تتوفر حماية دائمة لـ «إسرائيل» وفق القانون
الدولي، وأنظمة الأمم المتحدة، وحلف الناتو، تمنع العراق من شن حرب في
المستقبل على «إسرائيل» ، أو إلحاق أي نوع من الأذى بها مهما صغر.
والجدير بالذكر أن رسائل كوند اليزا رايس، مستشارة الأمن القومي
الأمريكي، إلى أقطاب المعارضة العراقية، اشترطت عليهم صراحة وجوب
الاعتراف بـ «إسرائيل» .
وثانيها: تسريح الجيش العراقي وبعثرة خبرته القتالية، وتشتيت معادنه
القيادية، ونزع أسلحته، ومنع احتمالات تطويرها. وهذا واضح أيضاً في رسائل
مستشارة الأمن القومي، وفيه ما فيه من توفير الأمن لـ «إسرائيل» .
أما ثالث الخطط فهو تقسيم العراق فوراً، وبلا مقدمات، وعلى مرحلتين،
عبر تكوين الفيديراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى انفصال تام يمزق
العراق إلى ثلاثة كيانات هزيلة في الجنوب والوسط والشمال.
وبذلك تتضح خدمة خطة التقسيم، وتسريح الجيش، وتقنين السلاح، لعملية
تحطيم الشعب العراقي جسدياً ونفسياً كركن من أركان الاستراتيجية الأمنية
الإسرائيلية كما رواها قبل ما يعرف من نصف قرن الصحفي الهندي (كارنجيا)
في كتابه (خنجر إسرائيل) نقلاً عن بعض رؤساء الدول وقادة «إسرائيل»
أنفسهم.
* فرض الإرادة والمصلحة والثقافة الأمريكية على العالم:
وهو هدف أخير وليس آخراً ويرمي إلى تأكيد النظام ... وتأكيد النظام العالمي
أحادي القطبية، وتسخير العولمة لتحقيق هذه الأهداف كافة.
إن السبب الذي تسترت وراءه أمريكا من زعمها إزالة أسلحة التدمير الشامل
للعراق، اختلط بالمصالح الأمريكية المحضة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسيطرتها
العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية، على المنطقة العربية كلها،
وبقية العالم الإسلامي، تبعاً لخططها الاستراتيجية التي حدّدت مفهومها للنظام
العالمي الجديد والعولمة ذات القطب الواحد.
وتشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب،
بل واستخدامه كسلاح سياسي فعّال، ليس تجاه دول العالم الثالث فقط، بل وتجاه
دول أوروبا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا كانت تشاكس أمريكا وتتمرّد على
سياساتها، وهذا هو جانب من سرّ الموقف الذي اتخذته فرنسا وألمانيا وروسيا من
رفضها للحرب، بل وإعلان بعضها أنه سيعتمد حق النقض (الفيتو) لإجهاض
القرار الأمريكي بتمرير الجريمة ضد العراق تحت غطاء الشرعية الدولية وكلها لم
تفعل.
ولسوف يكون العراق حقلاً لإشاعة النموذج الأمريكي في الحياة، والفلسفة
المادية النفطية التي بني عليها المجتمع الأمريكي الراهن، وسوف تلغى المدارس
الإسلامية، وتبدّل مناهج التربية الإسلامية كلها بما يخدم ويؤكد هذا التوجّه.
وكانت معاهدة كامب ديفيد قد أتاحت تخريج ثلاثة آلاف طالب دكتوراه
مصري، بمنح دراسية من جمعيات صهيونية أمريكية، تركتهم يؤمنون بالسلام
والتطبيع، وتحقّق بذلك اختراق يهودي كبير لفئة المثقفين المصريين الذين وقفوا
مواقف بطولية واعية ضد التطبيع بقيادة الإسلاميين. وهؤلاء الذين خرجتهم المنح
الدراسية الصهيونية، مدّخرون لإحداث هذه النقلة الثقافية التي تريد أمريكا تطبيقها،
بعد الحرب، في العراق وعموم العالم العربي.
والمخفي أعظم من المعروف، وأغلب الظن أن قمعاً لكل الحركات الإسلامية
ستمارسه المخابرات الأمريكية ضمن ترويج هذا النموذج الثقافي المادي، وتتم
محاصرة كل داعية وعالم ومفكر وباحث وأديب، ويسود زمن النكرات والخونة
والمهازيل.
وتشاء إرادة الله سبحانه أن يبدأ بالتشكُّل قطب دولي ثان منافس لأمريكا، من
فرنسا وألمانيا وبلجيكا وروسيا، وهو أمر ضروري لكبح جماح أمريكا وإنهاء
انفرادها بالعالم، ومجابهة مفهوم النظام العالمي الجديد وخطط العولمة.
لقد أفرز الاندفاع الأمريكي الأرعن وراء إغراءات القوة والتجبّر في الأرض،
طرفاً جديداً ينافس واشنطن ويقود تكتلات أخرى في آسيا والعالم الإسلامي
وبعض دول العالم الثالث التي تعاني من الكبرياء الأمريكية وحلفها الاستراتيجي مع
«إسرائيل» .
وخبراء السياسة يُجمعون اليوم على أن الغرور الأمريكي سيتضاعف ويسعى
إلى إفقار العالم كله، ما لم ينشأ هذا القطب الدولي الثاني الذي يتحدى ويقول: لا
للصلف الأمريكي.
(*) مؤرخ ومفكر عراقي يعمل أستاذاً في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة الزرقاء الأردن.