قصة قصيرة
وكان بطلاً
ممدوح القديري [*]
عندما اختلط الزمان وفقد ذاكرته، وهوى المكان وفقد هويته، برز ضابط
مسلم برتبة رائد - من بين جموع الأسرى - فأرجع للزمان ذاكرته، وللمكان
هويته.
كان ذلك في وقت الانتكاس والارتكاس في حزيران ١٩٦٧م. كانت الشمس
تكوي الأجساد نهاراً؛ وصقيع ليل الصحراء في النقب يجمد الروح ويحبس
الأنفاس، وجنود العدو تنعم بالظلال في أبراجهم نهاراً، وبالدفء ليلاً في غرفهم،
أما جموع الأسرى فكانت تلعق الحرارة الممزوجة بالغبار والإحباط وأحياناً الألم في
معتقل التجميع الميداني المكشوف القريب من بئر السبع؛ حيث في داخله المئات
من ضحايا الحرب، وسط ذهول لم يبرح الوجوه من المفاجأة التي لم يتوقعوها.
كانت الأرواح تتفكك إلى حد سلب ذواتها حتى الموت والقطيعة. وفي صباح
باهت مكفهر كانت العيون تشرب الحزن الدفين في النفوس، والرشاشات
الأتوماتيكية تعزف (كونشرتو) الدمار، والموت فوق الرؤوس الشُّعْث التي تبحث
عن مجهول ما جرى.
زعق ضابط من الأعداء مغرور غَدَوْدَن يتشبه بالرجال، ونادى على جميع
المقهورين - داخل المعتقل - لكي يقفوا لتحية علم دولته، وبدأ جندي يرفع ذلك
العلم بغطرسة واضحة، همهم بعضهم خوفاً وهم يتحركون بتثاقل عنيد ليقفوا، كان
ضابط العدو يتيه بوقفته أمام الضعفاء - ومسدسهُ يحميه - بتفاخر النصر المجاني
الرخيص.. طار صوابه حين شاهد الضابط المسلم الذي ما زال في ملابسه
العسكرية، بعد أيام قليلة من الحرب المباغتة جالساً لم يقف، وكان ينظر حوله
وعيناه تتحديان الموقف.. كنت بجانبه واقفاً.. قلت له وقلبي مفعم بالمرارة مختون
النفس: هل أنت متعب أو مريض؟
نظر إليَّ.. فعرفت أنه صحيح الجسد.. رغم زمن القهر.. فصمتت
جوارحي.. وضابط العدو يأمره بجنون أن يقف.. لم يتحرك الضابط ابن الحضارة
العريقة.. كان يرفض الهزيمة رغم كل شيء.. تشجعت مرة أخرى وقلت له
هامساً: إنهم في دائرة الوهم العظيم.. وتصرفهم طائش زنيم..
لم يرد عليَّ وبقي جالساً، شعرت بجريان نفسي وانثيالها.. ونسيج عواطفي
تدب فيه حياة جديدة خلتها أنها ضاعت مني.. تقدم بعض جنود العدو بسرعة..
جذبوه بعنف وقوة.. قال بصوت كأنه الرعد أذهل الجميع: لن أقف إلا للملك
الديان! !
انهال عليه الجنود بكعوب رشاشاتهم.. حاول المقاومة.. بقي صامداً فوق
الأرض العربية.. ممدداً وقد بدا عليه الإعياء.. لم يقف.. تمت تحية علمهم وسط
هرج ومرج وتمرد مكتوم في الصدور.. سحبه الجنود بلا رحمة، كانت خطواته
غير منتظمة، لكن روحه المعنوية رغم كل شيء بقيت عالية، علت أصوات
احتجاج هنا وهناك.. انطلق الرصاص فوق الرؤوس.. وعلت الأصوات عندما
أوقفوه في مكان معروف لدينا.. كنا نطلق عليه (مقصلة الباستيل) مع فارق
المكان والزمان.. كانت عبارة عن مصطبة صخرية.. مضرجة بالدماء الجافة
القانية المائلة إلى السواد من أثر الشمس.. هكذا وقف.. خُيل إلينا أنه عملاق ازداد
طولاً وعرضاً.. وبدا حوله جنود العدو أقزاماً قميئة.. كان يمسح بعض الدماء
والعرق عن وجهه الوضيء.. لم يهتز بقي واقفاً شامخاً كالجبل.. تقدم منه الضابط
الذي أمر بتحية العلم.. لطمه.. فبصق عليه بطلنا الجسور فملأ البصاق وجهه..
رأينا ذلك وانتشينا.. أخرج الإسرائيلي مسدسه وأطلق الرصاص على رأس البطل
الشجاع.. لدهشتنا أنه لم يسقط.. بقي واقفاً بعض الوقت.. ظننا أن روحه مباركة
لم يؤثر فيها الرصاص الإسرائيلي.. شعور بالمرارة والأسى تملكنا جميعاً.. حين
هوت جثته بكل شمم.. وبدأت طقوس معروفة لنا تماماً.. مجموعة من الأسرى
تحفر الأرض لتواري القتيل.. كنت هذه المرة واحداً منهم.. كانت ضربات الفأس
بالأرض تقدح شرراً حزيناً.. والأرض تفتح رحمها بحنان الأم.. تستقبل البطل
بحفاوة واعتزاز.. كانت دموعنا تغسله ونحن نواريه التراب.. لقد نبه فينا روح
المقاومة.. رغم ما نحن عليه.. كان الجميع منا في مأتم كبير يدعون له؛ وكيف
لا وقد علمنا كيف نختار باستمرار ونسلك طريق الزمان الذي تناثرت فيه أشلاء
الحق منذ أن بدأ الدمار وفقدنا بعض أشيائنا الثمينة؟ ! .. كان مثالاً يُحتذى.. لا
يحتاج إلى وعظ.. فقد كان يكفي وجوده.. فهو نداء ودعوة.. لقد كان أحد أسرار
الحياة المخبوءة.. علّمنا كيف نموت من أجل حقائق قد لا نجسر على السير فيها
في حياتنا والواقع المرير.. أجلت بناظري في المكان.. أحسست بأن روحه
ترفرف فوقنا كان - رحمه الله - رمزاً للكون كله.. فقد كان بطلاً، وحسبه أنه
ضحى بنفسه في مواجهة العدو المغتصب.
(*) كاتب فلسطيني، أبها.