خواطر في الدعوة
[مأزق البعد الواحد]
محمد العبدة
بعض الناس إذا سمعوا قول القائل: (الناس أبناء ما يحسنون) أو قول
الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك محموده عن النسب
أو قول أحد الحكماء: «الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية» .. إذا سمعوا
هذا يأخذون منه استبعاد الأنساب وعدم الاهتمام بها وأنها لاتدخل في أي تقويم
للإنسان، والحقيقة أن مثل هذا الكلام إنما يؤتى به لمعالجة من يقتصرون على مآثر
الآباء والانشغال بذكرها والاكتفاء بها، عن الجد والعمل، ولاشك أن صاحب همة
عالية مغمور النسب أفضل من صاحب نسب دنىء النفس.
فالذين يأخذون هذا الجانب (النسب لا أهمية له) يتركون الجانب الآخر وهو
أنه في مجرى العادات، فإن كرم الأعمام والأخوال مظنة الفضائل؛ فإنه لا يكون
النخل من الحنظل ولا العكس.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
فلا تعارض بين قوله تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] وبين السؤال عن
معادن الناس وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم في الجاهلية خياركم في
الإسلام إذا فقهوا» ، وهذا كما في الفرد كذلك في الشعوب والقبائل، فبعض
الشعوب لها خصائص معينة، وفيها ميزات يجب أن يستفاد منها، دون إحياء لنعرة
عنصرية أو قومية ضيقة.
ومن أمثلة الوقوع في النظرة الأحادية الذين يظنون أنه بإصلاح شعبة من
شعب العلوم أو الدعوة تنصلح الأمور كلها، فمن يعتقد أنه بتحقيق المخطوطات
وتصفية التراث سيحل المشكلة فهو مخطئ، ومن يظن أنه بإصلاح الوعظ والخطب
وتبليغ الناس بشكل عام سيحل المشكلة فهو مخطئ، وقل مثل ذلك فيمن يرى أنه
بتأليف الكتب وحدها وإلقاء المحاضرات والدروس، فهذه كلها وسائل للهدف
المنشود، وهناك وسائل أخرى غيرها، وكل واحدة بمفردها لا تستطيع الحل، فلا بد من الشمولية ليس في التنظير فحسب ولكن في التطبيق والعمل، وإذا اجتهد مسلم في جانب من هذه الجوانب وأتقنه وتفرغ له فلا بأس، ولكن عليه أن يعلم بأنه يقوم بجزء وأن إخوة له يقومون بسد باقي الثغرات، فيتعاونون كلهم ويكمل بعضهم بعضاً، فإن هذا الدين لا ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه.