[الانتخابات النيابية والبلدية في موريتانيا]
أحمد ولد محمد ذو النورين
يصل عدد سكان موريتانيا (بلاد الشنقيط) قرابة ثلاثة ملايين نسمة، يسكنون في مساحة قدرها ٤١٩٢١٢ ميلاً مربعاً وهو ما يعادل (١٠٣٧٥٠٠ كلم٢) .
يتكون النسيج الاجتماعي الموريتاني في معظمه من القبائل العربية (٤/٥) ، وبعض المجموعات العرقية (الزنوج) ، وقد ظلت اللُّحمة قوية بين فئات هذا المجتمع المسلم رغم التعدد العرقي، وذلك للرباط الإسلامي الذي يدين به الجميع.
مع بداية القرن العشرين الميلادي تم احتلال موريتانيا من قِبَل الاستعمار الفرنسي الذي انتهج كافة السبل لقطع صلتها بالإسلام، وعمل على إذكاء جذوة الأعراق، والعزف على وتر القوميات ... تجسيداً لسياسة السيادة على حساب التشتت.
لم يتمكن الفرنسيون من تحقيق مآربهم وإن أحرزوا بعض النقاط على الطريق.
بعد ثلثي قرن من السيطرة الاستعمارية رحل الاستعمار في الظاهر، وترك ممثلين مظهرهم المواطنة ومخبرهم العمالة، كما هو الشأن في جل البلاد الإسلامية التي رزحت تحت نير الاستعمار، ورغم أولئك فإن الهوية الحضارية للبلد ظلت راسخة أمام عواصف التغريب.
بعد ما يناهز العقدين من حكم المدنيين لموريتانيا كانا من أكثر فتراتها استقراراً دخلت البلاد سلسلة انقلابات كان أسوأها من حيث الخطر الفكري والأيديولوجي على المجتمع؛ ذلك الانقلاب الذي جاء بولد الطايع سنة ١٩٨٤م إلى سدة الحكم.
منذ وصول ولد الطايع إلى السلطة طفق يبذل قصارى جهده من أجل بتر أي صلة للمجتمع الموريتاني بالإسلام، وقد عمل ذلك بشكل مؤسَّس ومنظم تدعمه رياح العولمة المشؤومة.
فبادر بالعلاقة مع الكيان الصهيوني، وعمل على فرنسة التعليم، وغيَّر المناهج، وأغلق المعاهد الإسلامية، وغيَّب العلماء والدعاة في غياهب السجون، وسن قانوناً لتعطيل المساجد، واستخف بشعبه واستهزأ بالإسلام وحَمَلَته.. وعادت البلاد إلى أجواء الانقلابات من جديد حتى كادت بلاد شنقيط بعد أن كانت تعرف ببلاد المليون شاعر تتحول إلى بلاد المليون انقلاب (كناية عن كثرتها) .
وفي غمرة ذلك جاء انقلاب الثالث من أغسطس/ آب عام ٢٠٠٥م بزعامة أحد ركائز النظام السابق.. عاش الناس في اللحظات الأولى لهذا الانقلاب فرحة عارمة دون أن يهتموا بما ستؤول إليه الأمور؛ لأنهم يرون أن مجرد التخلص من ولد الطايع ونظامه يعد إنجازاً لا نظير له.
وفور مجيء المجلس العسكري أطلق وعوداً بإرساء الديمقراطية من خلال إجراء انتخابات نزيهة وشفافة.. وهو الأمر الذي دفع الفرقاء السياسيين إلى الدخول في حلبة سباق محموم مدفوع بجملة من القناعات والمصالح والآمال المشوبة بالحذر، يريد كل امرئ منهم أن يجد موطئاً في هرم السلم.
لقد خطا المجلس العسكري بعد الانقلاب خطوات جيدة على طريق الإصلاح، سوى أن تلك الخطوات ظلت تعاني من ملحوظات خطيرة عدة، كان من أهمها:
الاحتفاظ بمجموعة من السجناء الإسلاميين لأسباب لا تمت إلى إقامة الحق والعدل بصلة.
تأكيد هذا المجلس العسكري على لسان رئيسه في كل مناسبة ـ من غير حياء ـ على أهمية العلاقة مع الكيان الصهيوني، ودفاعه المستميت عن تلك العلاقة معه، والتي تعد وصمة عار في جبين كل الوعود والإنجازات؛ وبخاصة أنها كانت قد اتخذت منعرجاً خطيراً في أيام ولد الطايع؛ حيث وصلت إلى توقيع بروتوكولات بين تجار موريتانيين والصهاينة كما وقع بين أحد البنوك الموريتانية والصهيونية.
رغم تلك المآخذ بدأت البلاد تستعد لاستقبال سلسلة من الاستحقاقات الانتخابية في سابقة لم تشهد مثلها؛ إذ تجاوزت اللوائح البلدية ٢٠٠ لائحة، وقاربت النيابية ٤٥٠ لائحة، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة على مستوى التربية السياسية والتعاطي مع الجو الديمقراطي، في تحد للثقافة التقليدية وجفاء الصحراء والتمايز الطبقي وأمواج المعاناة العاتية.
إننا في هذا السياق ـ لا نزكي الديمقراطية أبداً ـ بل نراها إيديولوجية أرضية الابتكار، وثنية المنشأ، دنيوية الأمل، علمانية المحضن، غربية المنطقة، نصرانية الحماية، قائمة على الكيل بمكاييل متعددة، وهي قبل هذا وذاك من تشريع البشر وتجسيد لحاكمية غير الله.
إلا أننا نرى أن ترك الحرية للناس في مسؤولياتهم عن شؤونهم ومشاركتهم في واقعهم يعتبر أقل شيء في حقهم.
ظل الموريتانيون يتوقون إلى أي شيء يجدون من خلاله متنفساً بعد عقدين من حبس الحريات ومصادرة الآراء وفشوِّ الاستبداد وانتشار الظلم وقتامة الظروف وسوء الأحوال.
بدأ المجلس العسكري مساراً إصلاحياً حامت حوله شُبَهٌ كثيرة، لما اعتوره من انتقادات حادة، ظلت تصدر بين الفينة والأخرى من مختلف الفرقاء السياسيين فساءت الظنون ... ورغم ذلك وُجدت إصلاحات سياسية تمثلت أهم محطاتها فيما يلي:
تعديل الدستور بشكل يسمح بتحديد الفترة الرئاسية مرة واحدة.
إصلاح الإعلام وإلغاء المواد المقيدة لحرية الصحافة.
سن رزمة من القوانين تجسد أهمها في القانون الانتخابي ونظام الترشح.
وكان أغرب النظم تلك: تخصيص (٢٠%) من المقاعد البرلمانية للنساء، ذلك النظام الذي هو تحقيق لنبوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم ... » .
إن نظام (الكوتا) النسوية هذا موغل في التقليد الأعمى للديمقراطيات المصطنعة في البلدان المتخلفة، وهو في واقع الأمر ليس إلا قراراً ارتجالياً استباقياً سينتج بتطبيقه في الغالب انتخاب نوعية من النساء، ضاربة أطنابها في الأمية الدينية، قاصرة عن تدبير شؤونها الخاصة وبالأحرى القضايا العامة، وقد عُد هذا القرار مأخذاً على هذه الانتخابات، وأثار حفيظة الأحزاب السياسية التي لم تجد بداً من التسليم به.
فالمتابع للواقع الموريتاني له أن يتساءل ـ نظراً لتواضع التجربة الدستورية وبساطتها ـ عن حقيقة إمكانية الانتقال إلى نظام تسوِّقه نخبة تمتلك القدرة على إنجاز برامج إصلاحية من شأنها النهوض بالمجتمع على كافة الأصعدة.
ذلك التساؤل المستشرف لحقيقة تلك الوعود التي ظلت تحوم حول الوفاء بها شكوك جمة، زادت من تلهف الناس إلى خطوة إقامة انتخابات بلدية وتشريعية حرة ونزيهة، وضاعفت من تَوَقانهم إلى تلك الانتخابات بقدر كبير من الاهتمام والترقب، فغدا كثيرون يتطلعون بشغف بالغ إلى ما ستؤول إليه هذه الانتخابات، باعتبارها المحك الحقيقي والمسار الرئيس الذي يتيح فرصة الحكم على أهم وعود المجلس العسكري، الذي أنشأ هيئة مستقلة تم اختيارها بالتشاور مع مختلف الشركاء السياسيين، وظيفتها الإشراف على الانتخابات المذكورة، كما التزم بفتح المجال أمام مراقبين محليين ودوليين. وقد وفَّى المجلس بما وعد، فتم الاقتراع في موعده المحدد (١٩ نوفمبر ٢٠٠٦م) ، وجاء أهم ما تميزت به على النحو التالي:
فجأ الحياد التام من قِبَل الإدارة والعسكر في عمليات الاقتراع كافة من في الميدان، وأجمعت ألوان الطيف السياسي أن العملية جرت بنزاهة وشفافية، ولم يسجل تدخل مؤثر من ِقبَل الجهات الحكومية في سير الانتخابات التي لم تترشح فيها أي شخصية رسمية، وإن سعت فلول من بقايا النظام السابق إلى إشاعة مسلكيات غير متحضرة كالخروقات التزويرية واللعب على عقول الناخبين من خلال الإشاعات المغرضة والضغوط المادية والمعنوية، وهو الأمر الذي كان مبرراً آخر للتخوفات السابقة والتي سبقت الإشارة إلى أنها نشأت لدى الأحزاب بعد ترشحات بعض المستقلين، الذين كانوا قد أذهلوا المشهد السياسي بتسارع استقالاتهم من الأحزاب وخاصة الحزب الحاكم سابقاً، وسابقوا إلى الترشح كمستقلين.
لقد انجلى واقع كثير من الأحزاب التي بلغت (٢٥ حزباً) ، واتضح أن بعضها ليس سوى حوانيت تجارية تفتقر إلى القواعد الشعبية، ذلك ما أبرزته نتائج الاقتراع، مما يعطي انطباعاً بأن الجدير بالبقاء من هذه الأحزاب أقل من النصف.. تلك الأحزاب التي تبوأت من النتائج صدارتها وهي:
ـ حزب التكتل: بقيادة أحمد ولد داده، ويعد من أهم وأعرق أحزاب المعارضة ـ التحالف الشعبي ويرأسه (مسعود بن بلخير) هذا الحزب الذي يقال إنه قام على زواج بين الشرعية الناصرية (القوميين) وشعبية الحراطين (الزنوج) !.
ـ الإصلاحيون الوسطيون: وهم كتلة سياسية تمثل تيار الإسلاميين، الذي لم يسمح له بإنشاء حزب، فعمل تحت مظلة مستقلة شبيهة بالحزب السياسي.. هذه الجماعة التي تتهمها جهات متنافسة معها في الميدان السياسي باستغلال الدين لمصلحة السياسة، وتنبزها جهات سلفية بالخضوع للعمل الاستبدادي، والتشنيع على المجاهدين والرضى بتحكيم شرائع من عمل البشر، سوى أن بعضهم يردُّ بأن الإسلام سياسة، وأن الجهاد يحتاج إلى دعوة بالحسنى تصاحبه، وحوار مرن يتم في ظله إبرام معاهدات مع العدو.
ـ الحزب الجمهوري: وهو الممثل لكتلة السياسيين من بقايا نظام ولد الطايع، والمزوَرّين خلف النهج الليبرالي المتربص بالإسلام، هذه الكتلة مدعومة من قِبَل رجال أعمال ومتنفذين ووزراء سابقين.
ـ حزب حاتم: الذي يعتبر امتداداً لحركة فرسان التغيير، وأغلب قادته من العسكريين الذين حاكمهم ولد الطايع إثر محاولاتهم المتكررة للإطاحة بنظامه، وهو برئاسة صالح ولد حننّ، وقد حقق هذا الحزب رغم حداثة نشأته مساحة من الثقة لا يستهان بها، خاصة لدى الشباب والطبقات الفقيرة في مناطق من البلاد.. وهناك أحزاب أخرى.
ومن الملاحظ أن نطاق الترشحات في هذه الانتخابات قد اتسع بشكل لافت للنظر؛ حيث فاق عدد المترشحين كل التوقعات، فتم إيداع (٤٤١) قائمة انتخابية للتنافس على مقاعد الجمعية الوطنية البالغ عددها (٩٥) مقعداً، موزعة بين لوائح حزبية وصلت (٢٦٠) ، و (١٢٤) قائمة مستقلة، و (٣٢) وطنية. أما عدد الترشحات للمجالس البلدية فقد وصل (١٢٦٤) لائحة حزبية ومستقلة أو متحالفة للتنافس على (٢١٦) بلدية.
رغم حياد الإدارة وشفافية الانتخابات فإن التحالف القبلي والحضور النسبي لأصحاب النفوذ التقليدي كان له بعض الأثر خاصة في المناطق النائية.
لقد وصلت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات زهاء (٧٥%) ، وهو أمر مثير للانتباه، والراجح أنه يعود ولو جزئياً إلى كثرة المتنافسين، كما اتسمت أجواؤها بالهدوء، ولم تسجل فيها حوادث أمنية، ولم تستغل فيها وسائل الدولة كما كان يحدث أيام ولد الطايع.
جاءت نتائج هذه الانتخابات قلباً للمعادلة السياسية، حيث تبوأت أطراف معارضة هرم الاستحقاقات بعد أن ظلت تعاني من التهميش والإبعاد، في حين تقهقر الحزب الجمهوري الذي جثم على زمام السلطة قرابة العشرين سنة استأثر خلالها بكل مقدرات البلاد، ودأب على نشر الظلم والفساد.
تميزت هذه الانتخابات بالمشاركة المعتبرة للإصلاحيين الوسطيين (الإسلاميين) خاصة في العاصمة نواكشوط التي فازوا في ثلاث من أكبر مقاطعاتها التسع، وأخذوا مقعداً من مقاعد نوابها الأحد عشر، واحتلوا المرتبة الثالثة فيها بعد أكبر حزبين معارضين هما حزب التكتل والجمهوريين.
لقد تميزت هذه الانتخابات بغياب أغلبية لأي حزب، نظراً لتشرذم الأصوات بين الطوائف المتعددة والأطياف المختلفة، مما ينذر بوجود صعوبة بالغة في تشكيل حكومة منسجمة، واستحالة قيام حكومة ذات قرار مركزي.
إن مرور هذه الانتخابات بشكل نزيه وشفاف فتح آفاقاً واعدة، وأعطى انطباعاً جيداً عن وفاء المجلس العسكري بالتزامه، كما نزع جزءاً من الغشاوة التي دارت حول وعوده، بعد الشُّبَه التي أثيرت تجاه تصرفات رأى فيها بعضهم تحيزاً وتملصاً من الضمانات.
وجاءت هذه الانتخابات تعبيراً عن مستوى نضج النخبة السياسية الموريتانية، كما أنها بعثت آمالاً وأومضت إشارات اطمئنان لما سيكون عليه النزال الرئاسي بعد أربعة شهور.
إن الأمل كبير في ظل ما تم من إنجازات لحلحلة بعض النقاط التي لا تزال محتاجة إلى التسوية من قِبَل المجلس العسكري، كما هو الشأن بالنسبة لملف الإسلاميين المعتقلين دون تقديمهم للمحاكمة، وكذلك الإصرار الفج على العلاقة المقيتة مع الكيان الصهيوني.
لكن السؤال الذي يبقى عالقاً مفاده: هل الديمقراطية بقضها وقضيضها وأيديولوجيتها في مصلحة هذا الشعب المسلم المسالم ذي النسيج الاجتماعي المتنوع؟
أم أن العودة إلى الإسلام الصحيح في شوريته وتطبيقاته السبيل الأمثل والمنهج الأكمل الذي ضمن خلال قرون آصرة هذا المجتمع في أبهى صورها ونقائها، وفي أكثر عصوره رفاهاً وازدهاراً؟
وهو الوحيد (الإسلام) القادر على منحه تلك الصورة في حركته الحضارية الحديثة.
إن في الإسلام حرية مؤطرة بالعبودية لله وحده، ومساواة لا نظير لها، وعدالة لا يشوبها ظلم، وإنصافاً لا يخالطه حيف.
فبه تمام النعمة وكمال السعادة، وهو هداية وبشرى. قال ـ تعالى ـ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: ٣] . وقال جل شأنه: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . [المائدة: ١٥ - ١٦]