مراجعات في السيرة والتاريخ
أحداث بيعة العقبة الثانية
رؤية إدارية وتربوية
(٢/٢)
جمال الحوشبي
في السيرة النبوية دروس وعبر لكل من يتأملها، وقد كنا في الحلقة السابقة
مع رؤية إدارية وتربوية طرحها الكاتب في أحداث بيعة العقبة الثانية؛ حيث تناول
عوامل نجاح ذلك الاجتماع الموفق من خلال رواية كعب بن مالك رضي الله عنه
ثم ذكر الجوانب المهمة من الاجتماع بادئاً بإيضاح المهارة القيادية الفذة وملامحها.
ويواصل بقية الموضوع. ... ... ...
... ... - البيان -
ثانياً: جودة اختيار مكان الاجتماع:
لاختيار المكان المناسب أبلغ الأثر في نجاح الاجتماعات واللقاءات الدعوية؛
ولذا كانت أهميته في فترة الدعوة السرية بمكة واضحة؛ حيث كان الاختيار
المناسب لمكان اللقاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو دار الأرقم بن أبي
الأرقم؛ لأنه كان عَزِباً فلا يشق عليه ذلك، كما كان قريباً من الكعبة؛ ولأن الأرقم
لم يكن في ذلك الوقت معروفاً كغيره من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما. وفي
العقبة كان لاختيار المكان أبلغ الأثر في إنجاح هذا الاجتماع التاريخي العظيم،
وبيان ذلك على النحو الآتي:
١- كان مكان اللقاء في الشّعب من منى والشعب هو: ما انفرج بين جبلين
أي إن المكان كان محاطاً من ثلاث جهات أو من جهتين على الأقل. قال كعب:
(فاجتمعنا في (الشعب) ننتظر رسول الله) .
٢- حُدّد لهم مكان اللقاء مسبقاً، فخرجوا جميعاً صوبه مباشرة، بخلاف ما لو
كان اللقاء في مكان آخر ثم كان التحرك منه للمكان المقصود بهذا العدد الضخم!
٣- كان لدى جميع الأفراد علم تام بالمكان؛ فلم يكن ثَمّ داع لتحركهم جماعات
صوبه.
٤- لم يكن المكان المرشح للقاء بعيداً عنهم؛ لأن ذلك ربما أدى إلى كشف
اللقاء برمته عن التحرك إليه أو أثناء الرجوع منه؛ بل كان قريباً منهم بجانب
الجمرات التي يجاورونها. وتدرك أهمية ذلك عندما نعلم أن الانطلاق للمكان ذاته لا
ريبة فيه؛ لأن الرجل والرجلين ربما ذهبا هناك لقضاء الحاجة.. وهو أمر
متعارف عليه ما دام في حدود منى.
٥- وعلى الرغم من وجود شعاب أخرى في منى جهة مزدلفة وفي جميع
الجهات الأخرى إلا أن اختيار شعب العقبة ينم على مقدرة فائقة في حسن الاختيار؛
ذلك أنه كان الأقرب للأفراد من جهة منى والأقرب لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من جهة مكة؛ فهو بعيد عن أنظار الحجاج من أهل منى، كما أنه الأبعد
عن أنظار المشركين من قريش؛ أضف إلى ذلك المجازفة التي ربما أفسدت
الاجتماع لو كان هذا الشِّعب من جهة المزدلفة مثلاً!
ثالثاً: الدقة في تحديد الزمان:
يراعى قبل عقد الاجتماع التقيد بموعد البدء، وكذلك بزمن الانتهاء، وبالمدة
التي يستغرقها الاجتماع. وعند اختلال أحد هذه الأقسام الثلاثة من الزمن أو الغفلة
عنها يحدث الخلل في بنية الاجتماع وتذهب قيمته.
وفي هذا الاجتماع الكبير روعي بعناية قضية (زمن اللقاء) من حيث:
توقيت ليلة اللقاء.
والدقة في تحديد الساعة التي يبدأ فيها التحرك إلى المكان.
وتوقيت زمن اللقاء وتحديد المدة التي يستغرقها.
وأخيراً توقيت موعد الانتهاء وساعة الانصراف.
وبيان ذلك على النحو الآتي:
١- بالنسبة لتوقيت اليوم أو الليلة: اختير الليل بدلاً من النهار وذلك لهدوئه
ولستره، ولما يكون فيه من سكون، وما يصحبه من بيات الحجاج بمنى وكذلك
أهل مكة.
٢- في قول كعب رضي الله عنه (فواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
العقبة أوسط أيام التشريق ... ) يَرِدُ تساؤلٌ مهم وهو: هل من حكمة في اختيار هذا
اليوم من أيام التشريق؟ بمعنى: لو كان موعد اللقاء قبل موسم الحج أي في التاسع
والعشرين أو الثلاثين من ذي القعدة مثلاً.. هل سيغير ذلك من الأمر شيئاً؟ والواقع
أن هذا الاختيار الحكيم كان الأنسب؛ إذ ينم عن مقدرته القيادية الفذة؛ ويمكننا
تلمّس بعض الحِكَم من جرّاء اختيار هذا اليوم.. ومنها:
أن أوسط أيام التشريق يعني عدم وجود فترة زمنية طويلة بعده ربما ساعدت
في كشف هذا اللقاء واتخاذ التدابير الوقائية ضده قبل استفحال أمره، فلا فرصة إذن
لدخول هذا الاحتمال بعد اختيار هذه الليلة؛ لأنه ليس بعدها إلا الرحيل، بخلاف ما
لو كان الموعد قبل ذلك.
أن أيام منى ولياليها وبخاصة الليالي الأخيرة تكون أدعى للراحة والتفرغ من
الأشغال المادية والنفسية؛ نظراً لانتهاء أعمال الحج؛ ولو كان الموعد قبل ذلك
لكانت الهمم مشغولة بما سيدهمها من أعمال الحج الكثيرة، ولربما أنستها هذه
الأعمال كثيراً من البنود الرئيسة التي كانت في الاجتماع لو كان عقد قبل اليوم
الثامن يوم التروية وكذلك الحال لو كان اللقاء أثناء الحج، أي في اليوم الثامن أو
التاسع أو العاشر.. أضف إلى ذلك صعوبة النتسيق بزمان أو مكان معين لتنقّل
الحجاج لزاماً من هنا إلى هناك كلهم؛ فلا جدوى في الواقع من الانزواء عنهم في
المكان ذاته والزمان نفسه لعقد مثل هذه البيعة التي تتطلب جواً خاصاً.
ومما يظهر الدقة في تحديد هذه الليلة أنه حتى لو كشف الأمر فيما بعدُ فلا
يمكن للمشركين سواء بمكة أو المدينة فعل شيء؛ لأن الفترة المتبقية قصيرة بين
عقد الاجتماع وبين موعد الرحيل، فلا يكفي لتحديد هوية الأفراد جميعاً أو تحديد
هدف الاجتماع؛ وهذا ما تم بالفعل عندما تنطست [*] قريش الخبر وتأكد لها عقد
ذلك الاجتماع؛ إذ كان الركب قد تجهّز للرحيل، ولم يتمكن كفار مكة إلا من اللحاق
برجلين، أما أحدهما وهو المنذر بن عمرو فقد أعجزهم، وأما الآخر وهو سعد بن
عبادة فأسروه عندهم ثم تم إطلاقه بخلاف ما لو كان موعد اللقاء قبل أعمال الحج أو
أثناءه.
كان اختيار هذه الليلة دقيقاً كذلك؛ لأنها كانت من الليالي المقمرة التي يمكن
فيها رؤية الوجوه، ومعرفة ملامحها، ويسهل على الناظر فيها معرفة ردود الأفعال
من وجوه الحاضرين، ومعرفة أسنان الحضور وهيئاتهم.. حتى قال العباس في
تلك الليلة: (هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث) بعدما نظر في وجوه الوفد؛ وما
كان له ليستنتج ذلك لولا وضوح الرؤية في تلك الليلة المقمرة. أضف إلى هذه
المسوغات أن هذا الوفد المبارك القادم من المدينة جاء أصلاً لرؤية النبي -صلى الله
عليه وسلم- والنظر إلى وجهه الشريف.
٣- إذا كان اختيار ليلة اللقاء قد تم بهذه الدقة العجيبة؛ فالأعجب منها هو
توقيت الساعة المحددة للانطلاق نحو المكان في هذه الليلة؛ وبخاصة إذا علمنا عدم
وجود أي وسائل معينة على هذا التحديد الدقيق كالساعات المعاصرة! !
إن هذا الأمر بحق بعيداً عن كل تهويل فوق ما يتصوره كبار القادة
والمخططين لو أنهم اطلعوا على مجريات أحداثه؛ إذ كيف يُتَصوّر خروج هذا العدد
الضخم في وقت واحد من هذه الليلة حتى إنه لم يتأخر منهم أحد ولا توجد لديهم في
ذلك الوقت أي وسيلة مادية تساعدهم على ذلك؟ !
لقد كان المقرر عندهم أن يبدؤوا بالخروج من خيامهم كل بمفرده بعد مضي
ثلث الليل (بالضبط) كما قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا
مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلّل
تسلل القطا مستخفين.
ولك أن تقف قليلاً مع قوله: (نمنا) ليتأكد أن التوقيت المحدد للانطلاق كان
بعد هجوع أهل منى وفي غفلة منهم.. وهذا يعني ذهاب قدر من الليل.
٤- بلغ التنظيم للاجتماع قمته حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمه
العباس من مكة بعد اكتمال العدد (تماماً) لتبدأ عندها فعاليات الاجتماع. وهذا درس
في التخطيط والترتيب حري بالدعاة أن يفيدوا منه عند تنظيم لقاءاتهم واجتماعاتهم
التربوية.
٥- تم تحديد المدة التي يستغرقها الاجتماع بدقة، ولم يترك النبي -صلى الله
عليه وسلم- الأمر حتى يضيق بهم الوقت مع انبلاج الصبح.. بل إن في السياق ما
يفيد أنهم وصلوا قبل الفجر بزمن كاف حتى إنهم تمكنوا من النوم. وهذا يدل على
أن المدة التي استغرقها الاجتماع لم تكن طويلة؛ فلم يحبسهم رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في اللقاء حتى يضيق بهم الوقت، ولم يكثر عليهم من الكلام خلاله؛
بل لقد كان هو أقلهم كلاماً بعدما تأكد له نجاح الاجتماع بعد عقد البيعة.. كل ذلك
منه -صلى الله عليه وسلم- مراعاة للظرف المحيط بهم. ولما أمرهم في ختام
الاجتماع بالانصراف كرر ذلك عليهم مراراً.
قال كعب: (فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا) .
ومما ساعد في ضبط المدة المحددة لزمن اللقاء اتخاذه -صلى الله عليه وسلم-
قرار اختيار النقباء لتسهل البيعة عن طريقهم، وكذا تهدئته للوضع من حوله فكان
يرد باختصار ويوجه ويحذر ويثني خيراً.
رابعاً: ضبط عدد الأفراد المشاركين في الاجتماع، وطريقة تنقّلهم:
كثيراً ما تخفق الاجتماعات الدعوية بسبب الفوضى الناجمة من عدم تحديد
أفراد تلك الاجتماعات أو ضبطها أو مراعاة خصوصيتها. ولو لم يكن من فوائد
لتحديد عدد أفراد الاجتماع إلا ضمان استمراره وتحقيق أهدافه لكان كافياً للاهتمام
به؛ فكيف إذا كانت الفوائد أكثر من هذا، وضرورة هذا التحديد تظهر بعد إخفاق
العديد من اللقاءات الدعوية التي لم يراع فيها هذا الجانب؟ !
ويُعَد تصنيف الاجتماعات من حيث العدد في هذا العصر ضرورياً لتعلقه
بالهدف الذي يُعقد من أجله الاجتماع؛ فهناك: الاجتماع الثنائي، والثلاثي، وهناك
المتوسط والكبير وغيرها من التصنيفات. كل ذلك زيادة في التأكيد على خصوصية
الاجتماعات.
وفي هذا الاجتماع العظيم لم يكن المجال مفتوحاً ليشارك فيه كل أحد، بل لقد
ضبط العدد من قبل أن يغادروا المدينة، وكلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
مصعب بن عمير لينسق هذا الأمر، وكان قد توجه قبلهم إلى مكة ليخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأمر، ثم كانت له اتصالاته الخاصة بهم في منى
وبخاصة مع أميرهم: البراء بن معرور.
وعموماً: تميّز جانب ضبط أفراد اللقاء والتنسيق لطريقة تنقّلهم من وإلى
مكان الاجتماع بشيء كثير من الدقة، والحنكة الإدارية. وبيان ذلك فيما يلي:
١- كانت الطريقة المعمول بها في تنظيم حضور الأعضاء إلى هذا الاجتماع
تقتضي أن يأتوا أرسالاً كل بمفرده أو مع رفيقه، ولم يكن هناك مجال لدخول (أو)
هذه؛ فقد حُدّدَ مسبقاً أن يبيت كل اثنين معاً وكل ثلاثة معاً في خيمة يشاركون فيها
بقية المشركين من وفد حجاج المدينة. ثم في الليلة المحددة وفي الساعة المعينة وفي
لحظة واحدة من الليل تخرج كل رفقة معاً إلى المكان المحدد لعقد الاجتماع.
٢- كما تميّزت طريق تحركهم بالعجب؛ فقد كانت الكيفية التي يخرجون بها
أعجب؛ لأن الخروج من مجمع الناس بمنى من مواقع متفرقة وبأسلوب خفي
يتطلب قدراً من الخفة والهدوء، ولذا شبه كعب خروج الواحد منهم متسللاً في جنح
الظلام بخروج (طير القطا) من وكره، وهو نوع من الطير يتميز بالخفة والهدوء
في الحركة.
٣- لك أن تعجب من حضور العدد جميعه اثنان وسبعون عضواً بينهم
امرأتان لا يزيدون ولا ينقصون: لم يعتذر عن الحضور منهم أحد، ولم يستغرق
في النوم منهم أحد، ولم يصل أحد منهم متأخراً عن الموعد المحدد للقاء ليربك
الجميع في ذلك المكان، كما لم يُفشِ أحد منهم خبر هذا الاجتماع لأحد، ولم يتجرأ
أحد منهم على إحضار شخص آخر لم يكن مقرراً من ضمن ذلك العدد المحدود.
٤- إذا أدركت مدى الدقة في مجيء هؤلاء الأفراد من منى إلى مكان
الاجتماع، وكيف خرج هذا العدد الهائل كل من مكانه دون أن يعلم بهم أحد من أهل
منى؛ فالأمر الذي يدعو حقاً للتأمل هو: كيف عادوا إلى مضاجعهم؟ لأن الخروج
الفردي أسهل؛ لكن العودة الجماعية أشق وأدعى لزيادة الحذر! لكنهم بالفعل عادوا
ولم يدرِ عنهم أحد حتى من رفاقهم المشركين الذين كانوا معهم في الخيام والذين
حلفوا الأيمان المغلّظة في اليوم التالي: ما حدث البارحة شيء! ومعلوم أن منى في
تلك الليالي كانت محاطة بتجار من أهل مكة وغيرهم، وفيها أماكن مكشوفة للأنظار. وهذا النجاح ما كان ليتم لولا توفيق الله وتأييده، ثم الدقة في الترتيب والتحضير
للقاء، والدقة في إنهائه في الوقت المحدد له.
حدث مفاجئ:
في خضم سياق هذا الحدث العجيب، وفي غمرة هذا الإعداد والترتيب
للاجتماع حدث أمر (طارئ) كاد أن يقلب الموازين ويؤدي إلى إخفاق اللقاء برمته.. تمثل ذلك في إدخال عضو غريب في اللقاء المحدد من غير أن يكون مرتباً له
من قبل ليكون من ضمن المشاركين. ذلك العضو هو (عبد الله بن عمرو بن حرام)
أبو جابر الذي كان مشركاً وقت إيذانه بخبر اللقاء. إن تصرفاً كهذا كفيل بنسف
الاجتماع لو كان في حقيقة أمره حدثاً مفاجئاً أو طارئاً كما يظن بعضهم عند القراءة
العابرة لأحداث القصة في قول كعب: (فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي
واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن
حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ... ) إلى آخر
كلامه. ولربما بدر لذهن القارئ تساؤلات ملحة: ألا يرد في هذا الحدث الخطير
احتمال إخبار عبد الله بن عمرو بن حرام بقية القوم أو امتناعه عن الحضور مكيدة، ثم مباغتة القوم في مكانهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمساعدة بقية
أهل منى وأهل مكة من المشركين؟ ثم ما جدوى إدخال عضو جديد وغريب ما دام
العدد متفقاً عليه مسبقاً ولا علم للقائد بهذا التصرف الفردي الطارئ؟ !
إن تصرفاً كهذا كما ذكرت تصرف خطير يؤدي إلى تعطيل اللقاء لو كان
مفاجئاً أو طارئاً.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن.. فهو ليس تصرفاً فردياً لا علم للقيادة
به، ثم إن الدعوة لم تكن لفرد عادي مجهول الحال عند من قام بإخباره؛ ويؤكد ذلك
عدة أمور:
أ- أن كعب بن مالك أعاد الأفعال كلها إلى صيغة الجماعة، ولم ينسب ذلك
لفرد واحد بعينه في قوله: (واعدنا رسول الله.. ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام.. أخذناه معنا.. وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه.. حتى
قوله: وأخبرناه بميعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة..) وهذا يدل
أن هناك إعداداً مسبقاً لهذا الأمر مع أمير القوم البراء بن معرور الذي تولى هو
وصفوة القوم مهمة الحديث مع عبد الله بن عمرو بن حرام حتى أقنعوه.
ب- أنهم لم يخبروه مباشرة بالميعاد ولا بالساعة المحددة، وإنما أخروا عنه
ذلك حتى استوثقوا من إسلامه.
ج- لقد كان عندهم علم مسبق أو غلبة ظن بشخصية عبد الله بن حرام؛ ولهذا
وقع عليه الاختيار وحده من بين وفد المشركين كله. ولعلمهم أنه حتى لو لم يوافق
على الحضور معهم فإنهم لمكانته عندهم يأمنونه.. تماماً كما أمن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- عمه العباس الذي كان لا يزال مشركاً وقتها.
د- لا بد من معرفة توقيت إخباره بالموعد؛ لأن هذا له دور كبير. ومن
السياق يتبين لنا أنهم اختاروا الوقت المناسب لإخباره حتى يضعوه أمام الأمر الواقع
الذي لا يمكنه معه التحرك لفعل أي شيء.. لقد أخبروه في ليلة اللقاء ذاتها.
هـ من أسلوب العرض الذي وُجّه له يتبين لنا مكانة عبد الله بن عمرو بن
حرام في قومه وحرصهم عليه، وشفقتهم أن يفوته هذا الخير. ولهذا قالوا له بلسان
المشفق الناصح: (يا أبا جابر! إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا
نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً..) .
و أنهم كرهوا ردة فعله بعد اللقاء لو أنه علمه فيما بعد لمكانته الرفيعة في
قومه، ولما تميز به من رأي راجح بينهم. ويؤكد ذلك أنهم جعلوه نقيباً من ضمن
النقباء الاثني عشر بعدما أسلم وانضم معهم وشهد البيعة.
كل ذلك يؤكد لنا أن أمر هذا الاجتماع سار وفق المعايير المحددة له.. ولم
تكن في أي حلقة من حلقاته فرصة لحدوث أمر طارئ أو مرتجل من قِبَلِ الأفراد
أنفسهم.
ولأهمية هذه البيعة، ولما ترتب عليها من نتائج قريبة وبعيدة فقد كان
للمبايعين فيها وفي التي قبلها فضل لا يكاد يقل عما لأهل بدر والهجرتين، وبيعة
الرضوان، من شرف وفضل. رضي الله عن الصحابة أجمعين، وصلى الله وسلم
على نبينا محمد.
(*) تنطّست: تجسّست.