للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

حول الاستفتاء الشعبي للرئاسة

باكستان.. ألم تصل سن البلوغ بعد؟

ولي خان المظفر [*]

من الطبيعي أنه لا يمكن أن توجد مماثلة تامة، وموافقة كاملة، ومطابقة كلية

بين فكرين أو بين رأيين، فأنت تفكّر حول شيء لخلفيات، والآخر يفكر حول

الشيء نفسه لأسباب أخرى؛ فكل تصور حينما يتصور أو يطرح للمناقشة تختلف

فيه المخيلات والأذهان، ولو بقليل، وهذا هو السبب الحقيقي لاختلاف الآراء.

فالمجتمعات الجمهورية والبيئات الديمقراطية يحق فيها لكل فرد أن يختلف

عن الآخر، ويُظهر رأيه المناقض له، ولا يُعدُّ هذا عيباً أو جريمة أو جُناحاً،

ولذلك ترى في الدول الجمهورية الكبرى اختلاف عامة الناس وبخاصة عن كبار

مسؤولي الدولة في الحكومة، حتى الوزراء والرؤساء، ويستخدم المخالف سائر

وسائل الإعلام والإبلاغ ما أمكن له منها.

فانطلاقاً من هنا أود أن ألفت أنظار قرائنا الأعزاء في أنحاء العالم بإشارات

إلى مسرحية الاستفتاء الشعبي (Referendum) للرئاسة في باكستان يوم ٣٠

إبريل الماضي.

هذه المسرحية قُدمت للمرة الثالثة في باكستان على شاشة السياسة العسكرية:

١ - قدمها الجنرال أيوب خان سنة ١٩٦٠م، وادعى أنه قد أحرز النجاح

بنسبة ٩٣% من بين جميع الأصوات الملقاة في صناديق التصويت.

٢ - ثم قام بتقديمها الجنرال ضياء الحق، ونادى أنه حصل على ٩٧% من

النسبة المئوية عام ١٩٨٤م.

٣ - وأخيراً جاء دور الجنرال برويز مشرف الذي يزعم أنه تقدم على سابقيه

في الفوز بالنسبة المئوية، وهي ٩٨% في استفتاء أبريل الماضي.

مع أن كل واحد من هؤلاء الجنرالات أزاح حكومة وعزل حاكماً إصلاحاً

للنظام السياسي حسب دعمهم فاستولوا على كراسي الحكومة لأوقات محددة إقامة

للانتخابات الشعبية حسب قولهم لكن لما نالوا سمعة الرئاسة، وتملق المرتزقين

السياسيين ومجاملة الإداريين الحكوميين عزموا على البقاء على كرسي السلطة

والركوب على فرس الأمر والنهي، فاحتالوا في ذلك حِيَلاً، وسوغوا تسويغات،

وزينوا أعمالهم الدراماتيكية كصنائع وطنية، متمسكين بأهداب الحكم والاقتدار كل

تمسك، رافضين وراءهم الدستور الوطني، والقيم الخلقية، والأعراف الدولية،

والمناهج السياسية، والمواثيق الشعبية، إلى أن افتضحوا وخجلوا، وصاروا عظة

وعبرة لمن بعدهم، وما استقالة أيوب، ولا اغتيال ضياء الحق من العارفين ببعيد!

المشكلة العظمى والمصيبة النكراء أنه لا يتعظ أحد من الحكام بمصير من

سبقه في الحكومة ومن عقبه ممن تقدمه في السلطة؛ وإلا فميدان تاريخ السياسة لهذه

الدولة مليء بالصرعى، والقتلى، والجرحى، والمنهزمين. فدونك على سبيل

المثال الرئيس غلام محمد سنة ١٩٥١م الذي سيطر على الحكم بعد اغتيال لياقة

علي خان، ورشح الخواجة ناظم الدين لرئاسة الوزراء، ثم أسقط حكومته سنة

١٩٥٣م سخطاً عليه، وانتخب محمد علي بوغره رئيساً للوزراء، فلما أراد هذا

الأخير تقليل اختيارات الأول شعر به فألغى المجلس الوطني إنهاء لحكومة بوغره

سنة ١٩٥٤م، فوصل إسكندر مرزا إلى دهليز القصر الرئاسي، فشرد الغلام

وتسلط على كرسي رئاسة البلاد، فانتخب شوهدري محمد علي للوزارة العظمى،

ثم أبعده بعد سنة وأجلس على ذلك الكرسي محمد حسين السهروردي، ثم بعد سنة

زحزحه وجاء بآي تسندريغر وعزله بعد ٦٩ يوماً، واستبدله بفيروز خان نون،

ولم يطمئن قلبه هنا فأشار على الجنرال أيوب خان أن ينفذ الحكم العسكري

(Law Martial) في البلاد استحكاماً لغطرسته على الرئاسة عام ١٩٥٨م، ولكن

سرعان ما ظهر أن الثاني كان جائعاً مثله، فدحر الأول عن قصر الرئاسة ذليلاً،

وظهر على جبين باكستان كديكتاتور جديد، وفعل ما فعل سابقوه من الاستهزاء

برأي الشعب، وتذليل كبار قادة السياسة، وتغيير بعض القوانين الإسلامية في

الدستور الوطني، وإيقاع الدولة في الحروب مع جيرانها و ... و....، لكن متبنيه

الجنرال يحيى خان الذي قام بفصل عضو من الدولة عنها (بنجلاديش) حال بينه

وبين الرئاسة عام ١٩٦٩م، وأمره بإخلاء القصر الرئاسي، ثم هذا الأخير فوض

النظام الإداري إلى ذو الفقار علي بوتو الذي وعده على إبقاء رئاسة الدولة له سنة

١٩٧١م، فلما استحكم إدارياً رمى بالجنرال من سرير الحكم، وأخذ مكانه،

وتغطرس في أرض الله تعالى، حتى رغب في تغيير البلاد من جمهورية إسلامية

إلى شيوعية اشتراكية، فجاء الجنرال ضياء الحق وأعدمه عام ١٩٧٧م، ونبذ

محمد خان جونيحو عن الوزارة العظمى بعد انتخابه، وقام بالاستفتاء الشعبي لتمديد

فترته الرئاسية، فعين غلام إسحاق خان رئيساً للبلاد من نافذة مجلس الشيوخ فحذا

حذو السابقين حتى قدّم بي نظير كأول وزيرة عظمى في البلاد الإسلامية التي كانت

تتصور أنها سوف تكون ملكة للدولة طول الحياة، فلما أسخطته فنفاها من إسلام

أباد إلى كراتشي في لمحة واحدة، وجاء بعدها بنواز شريف متبني ضياء الحق

سياسياً، ثم بفاروق اللغاري الذي ألغى المجلس الوطني لحكومة بي نظير التي

نصبته رئيساً للبلاد، وجاء بنواز بصفقة سرية حول تمديد فترة الرئاسة له، فأخلفه

الثاني الوعد بعد مجيئه إلى السلطة حتى أجبره على الاستقالة مستبدلاً به محمد

رفيق تارر، فصعد على رأس نواز سدة الحكم في هذه الدولة المنكوبة، فبدأ بعزل

رئيس القوات يوماً، وكبير القضاة يوماً آخر، ويغير وزيراً بوزير، وسفيراً بسفير،

وجنرالاً بجنرال، وله أعمال من دون ذلك كان لها عاملاً حتى أراد أن يعزل

رئيس القوات الجديد (برويز) الذي نصبه هو بنفسه، فلم يتمكن، ووصل الأمر

إلى ما وصل، حتى ذاق مرارة السجن مدة طويلة وليس هو فقط، بل أفراد أسرته

جميعاً، إلى أن رآه الشعب على شاشة التلفاز باكياً في السجن حيناً وناعباً في

المحكمة حيناً آخر، وأخيراً غُرِّب من الوطن ونُفي من البلاد صفر اليدين، وسُلبت

أمواله، وقبضت قصوره وعقاراته.

والآن ترون في الملعب الجنرال برويز وحيداً فريداً، الذي خلع صانعه

الأكبر نواز وأخذ زمام الدولة بيده، وسمّى نفسه باسم غريب في سياسة هذه البلاد

رئيس السلطة التنفيذية (Executive Chief) ، ثم بعد عام أشار عليه أخدانه

أنه لا تليق بكم إلا رئاسة الدولة، فأمر تارار أن يربط عفشه وينتقل إلى مولده دار

لاهور، وعلى هذا المنوال لم يقتنع، حتى أعلن عن عقد استفتاء شعبي حول

رئاسته لمدة خمس سنوات مقبلة، وأنفق عليه ٥٠٠ مليون روبية باكستانية لهذا

الشعب الفقير، ونجح أم لم ينجح؟ والناس أسهموا في التصويت أم لم يشتركوا؟

وهل التزويرات ظهرت فيه كالسابق أم لا؟ وهل عدت وكالات الأنباء المحلية

والخارجية طرق الانتخاب شفافة أم مزورة؟ وهل أكرهت الإدارات الحكومية حتى

محاكم العدل في المجال أم لم؟ وما إلى ذلك من الجوانب الأخرى؟

هذه تساؤلات أجوبتها منشورة ولا تزال تنشر يومياً في الجرائد والصحف

المحلية والعالمية، نحن لا نريد أن نُطيل الكلام بذكرها إلا أننا حينما نلقي نظرة

عابرة على تاريخ الدولة فنرى مشاهد دراماتيكية، ومناظر مسرحية وصراعات

بهلوانية، مرحلة إثر مرحلة، وما أحسن ما قاله المتنبي، وما أجمله انطباقاً على

حكام دولتنا واحداً تلو الآخر:

تملكها الآتي تملُّك سالبِ ... وفارقها الماضي فراق سليب

فباكستان لم تصل سن الرشد سياسياً بعد، ولذا فإنها تفقد الاستقرار السياسي

منذ تأسيسها إلى اليوم؛ فهي أشبه ما تكون بمدرسة تدريبية لمختلف الأنظمة

السياسية، كالنظام الرئاسي، والوزاري، والجمهوري والعسكري والديكتاتوري،

ولم يكمِّل فيها أحد مدته الدستورية من رئيس ولا وزير، بل ومن المؤسف أنه لم

يخرج أحدٌ من قصرها الرئاسي ولا من دار وزارتها العظمى سالماً آمناً، معززاً

مكرماً، لأجل استغلالهم الشخصي، واستهلاكهم الذاتي دائماً، ولذا هي اليوم مهددة

من كل الجوانب داخلياً وخارجياً، رغم وجود شعب أبيٍّ غيور مجاهد.

فالآمال التي عُلقت بها للمسلمين في أنحاء العالم لم تثمر ولم تنتج كل الثمار

وكل الإنتاج؛ فنسأل الله العلي القدير العفو والغفران، وأن يرزقنا صلاحنا، قبل

أن نكون مصداقاً للآية الكريمة: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا

فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: ١٦) [**] .


(*) نائب رئيس التحرير لمجلة الفاروق، ومدير معهد اللغة العربية والدراسات الإسلامية، بالجامعة الفاروقية بكراتشي.
(**) نحسب أن عهد الرئيس الأسبق ضياء الحق مع ما فيه من سلبيات هو من أحسن العهود التي نالت فيها باكستان القوة والوجاهة غير أن المحاولة الإجرامية لاغتياله - رحمه الله - قد قضت على الأمال الطيبة التي كان المسلمون ينتظرونها لهذا البلد الإسلامي، وسبق للمنتدى الإسلامي أن أصدر دراسة وثائقية عن ضياء الحق وعهده فيها الكثير والكثير من الإيجابيات عن ذلك العهد ومن ذا الذي لا يسيء قط ومن له الحسنى فقط.