للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حتى لا يتكرر المشهد]

ماجد محمد الحمد

عاشت الأمة حيناً من الدهر وهي تنعم بالوحدة والإخاء وسلامة المعتقد واجتماع الكلمة، لا يعكر صفوها انتحال المبطلين ولا كيد الحاقدين ـ وإن لم تسلم من شرهم ـ، حتى إذا انقضى القرن الأول ـ خير القرون ـ بدأت بعض نوابت السوء تظهر للعيان وتجاهر بمعتقداتها الباطلة، وكان من أعظمها أثراً في الأمة فرقة المعتزلة؛ التي كانت تمتاح من وثنية الإغريق، وترى نفسها النخبة التي عجز المجتمع الإسلامي بعلمائه عن مجارات خطابهم العقلاني، الذي وقف حائراً أمام النص الشرعي؛ فأقصاه واستبدله بأقيسة عقلية سقيمة.

حتى إذا بان لهم عجزهم عن استمالة المجتمع لحمل قناعاتهم الفكرية، وضعفت حججهم أمام أهل العلم لجؤوا إلى حيلة أهل الباطل في كل زمان للالتفاف على هذه العزلة التي حاصرهم بها المجتمع المسلم؛ حيث استمالوا السطلة السياسية إلى تبنِّي أفكارهم وحمل الأمة على قبولها بحد السيف، فيما عرف بفتنة خلق القرآن، يفرضون وصايتهم الدينية على الأمة كلها.

فوقف الإمام أحمد في وجه مشروعهم الباطل، وتحمل الأذى في سبيل نصرة الحق، مما كان له أعظم الأثر ـ بعد توفيق الله ـ في إزاحتهم عن مواقع نفوذهم، وانزوائهم في جنبات التاريخ بعد افتضاح باطلهم.

وفي خِضمِّ هذا الصراع بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة؛ خرجت طائفة من أهل الكلام ـ تأثرت بأهل السنة ولم تدرك كنْهَ عقيدتهم على حقيقتها ـ رأت أنها الأقدر على فهم خطاب المعتزلة واستخدام مفردات هذه الخطاب في محاججتهم وكسر شوكتهم، عرفوا فيما بعد بـ (الأشاعرة) ، زعموا أنهم وسطيون بين من يقدم النص وبين من يقدم العقل.

وقد جاء بروزهم وقت استعلاء أهل السنة واندحار المعتزلة لذا جاءت علاقتهم بأهل السنة على مرحلتين:

الأولى: مرحلة الانتساب إلى أهل السنة والجماعة وإظهار ولائهم لهم، كما هو حال أبي الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) حيث نص على أنه: «بما كان يقوله به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون» (١) .

حتى إن الباقلاني، أحد رموز الأشعرية، كان يكتب اسمه أحياناً في بعض أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي (٢) .

ووصف هذه العلاقة خير وصف أبو إسحاق الشيرازي عندما قال: «إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة» (٣) .

وكانت الألفة هي سمة العلاقة بينهم وبين أهل السنة في هذه المرحلة، حيث كانت فجوة الخلاف لم تتسع بعد، وكانوا يداً واحدة في معاداة أهل الاعتزال والتجهم والرفض.

الثانية: في هذه المرحلة اتسعت هوة الخلاف وتطور المذهب الأشعري حتى كاد يلحق بالمعتزلة في معظم أصوله، وحيث إنه تم القضاء على المعتزلة فكرياً، وضعف شأنهم وانكسرت شوكتهم، رجع الأشاعرة إلى الإساءة إلى من أحسن إليهم، فجاهروا بعداوة أهل السنة والجماعة، وسلكوا طريق المعتزلة عينه في تعاملهم مع أهل السنة؛ فبدؤوا بلمزهم بـ (الحشوية) و (المجسمة) لتنفير الناس منهم، ومن ثم تطور الخلاف إلى استعداء السلطة السياسية والتقرب إليها لترويج مذهبهم، حتى أصبحت الأشعرية معتقد معظم الدول في تلك الفترة، وفرضت على الناس اعتناقه، وأقصي مذهب أهل السنة ـ المذهب الحق ـ وحوربوا، بل وصل الحال أن نازع الأشاعرة أهل السنة في أحقيتهم بهذا الاسم؛ فكان إذا أطلق اسم أهل السنة كانوا هم المعنيين به (٤) ، أي (الأشاعرة) ، وأصبح أهل السنة الحقة مشبِّهة جهلة مخالفين لاعتقاد السلف ـ زعموا ـ.

بل استطاعوا في هذه المرحلة التغلغل إلى محاضن الفكر السلفي عينه؛ ألا وهو علم الحديث علماً وتعلماً، فأصبح في عداد كبار أهل الحديث من يتبنى مذهب الأشاعرة، حيث راجت عليهم شبههم؛ فظنوهم سلفية بلبوس عقلي، بل لم يسلم من التأثر بفكرهم بعض علماء الحنابلة كابن الجوزي وابن عقيل (٥) وغيرهما، فانشق الصف السلفي حتى كاد يختفي من الساحة وتمَّحي رسومه لولا عناية الله ولطفه.

فكانت هذه نهاية من رأى تغليب مصلحة مواجهة المعتزلة على إثارة نقاط الخلاف، وهذه عاقبة من لم يحصِّن أتباعه ويحذرهم من خطورة هذه الفرقة.

وليس ثمة شك أن الأشاعرة أقرب المذاهب إلى أهل السنة، وأن لهم جهوداً مشكورة في محاربة المعتزلة والباطنية؛ ولكن ليس من الموازنة في شيء أن نكون قناة لتمرير باطلهم إلى عموم الناس، أو أن نكون مطية لتحقيق المشروع الأشعري في الأمة، حتى إذا اشتد عودهم رموا أهل السنة بالزور وكان الإقصاء هو الخاتمة لهذه العلاقة المتوترة.

وها هو التاريخ يعيد نفسه، والمشهد ذاته تتكرر فصوله تارة أخرى بمسميات أُخر في واقعنا المعاصر.

فهذه الليبرالية تطرح نفسها مشروعاً بديلاً للإسلام في بلاد المسلمين، ساعية جهدها في نشر أفكارها بين الناس، مستعينة بقوى الغرب الكافر ـ الذي رباها على عينه ـ لكسر عزلتها في المجتمع المسلم، مستقوية به لزحزحة ثوابت الأمة والمجاهرة بخلافها لمبادئ الإسلام، محاولة الوصول إلى صانع القرار السياسي لاستعدائه على خصومها من أهل السنة؛ لإقصائهم عن ريادة الأمة، وسعياً لتمرير مشروعها التغريبي في مجمل حياة الناس، وخصوصاً في واقع المرأة والحكم.

وها هو المشهد الأشعري تُعاد فصوله كرة أخرى، فها هي طائفة ممن كانت من أهل الضلال والعلمنة ردحاً من الزمن أعلنت أوبتها إلى الإسلام؛ ولكن تريد أن تكون رأساً في الحق كما كانت في الباطل؛ وإن لم تحمل أهلية لذلك، حيث لا زالت مرجعيتها الفكرية هي هي، وجهلها بالإسلام هو لم يتغير، تريد جهلاً المواءمة بين الإسلام والليبرالية حتى يكون وسطياً كما تزعم، وهي في حقيقتها تريد تطويع الإسلام لمبادئ الغرب الكافر، فيقبل منه ما وافق أهواء الليبراليين، ويرفض أو يؤول ما خالف رغباتهم الفاجرة تحت عباءة تجديد الخطاب الإسلامي.

وهذا التيار الذي اصطلح على تسميته بـ (الليبرالية الإسلامية) أو (العقلانيين) يقع في منطقة رمادية بين الحق والباطل، فهو يحمل بعض الحق وبعضاً من الباطل، فطائفة منهم كالحة السواد، لا تكاد تجد كبير فرق بينهم وبين الليبراليين إلا بعض كتابات في الثناء على بعض قيم الإسلام، فهم في حقيقتهم علمانيون بمسوح إسلامي لمخاتل أهله، وآخر إسلامي تأثر بفكرهم ويروج لمنهجهم في التعامل مع النصوص الشرعية، ومن بينهم ـ للأسف ـ من ينتمي للعمل الإسلامي؛ مما كان سبباً في ترويج هذا الفكر بين شباب الصحوة وبعض مثقفيها، فنتج عنه انتكاسة بعضهم ممن له سابقة في الانتماء للعمل الإسلامي، فعاد حرباً على إخوانه، زاعماً أنه يقوم بنقد التيار السلفي، وتفكيك بنيته التقليدية.

وتكمن خطورة هذا التيار أنه أصبح قناة تُمرر من خلاله الأفكار الليبرالية والعلمانية إلى الإسلاميين، لذا لم يعد مستغرباً سماع الدعوة إلى (الديموقراطية) أو (الحرية الفكرية) بين الإسلاميين، وحين تستنكر هذه المفاهيم الضالة يجيبك هؤلاء: أن هذه المصلطحات ليست بمدلولاتها الغربية؛ بل تم تطويعها لتتواءم مع الإسلام، فالديموقراطية إنما جوهرها ولبها «أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم» ، والحرية الفكرية إنما عني بها أن يطرح الناس آراءهم بحرية، ما لم تخالف الثوابت الشرعية، فلم يبقَ لهذه المصلطحات من اسمها الغربي إلا رسمه، حيث تم أسلمتها، حتى إذا ألِف الناس الخلاف حولها وحسبوه خلافاً لفظياً جاءك من يعيد هذه المصطلحات جذعة كما هي عند الليبراليين، وتعظم المصيبة عندما يكون ذلك من بعض قادة العمل الإسلامي، فأحدهم يصرح أنه: يقبل أن يتولى الحكم في بلاد المسلمين نصراني أو يهودي، وآخر يدعو إلى تطبيق الديموقراطية بحذافيرها؛ فهو يستنكر حرمان الشيوعيين من تكوين أحزاب لهم في بلاد المسلمين؛ بل يدعو إلى تمكينهم من نشر إلحادهم بين الناس، ولا يمانع من نقد الإسلام ذاته من باب تكافؤ الفرص!! وآخر يدعو إلى نشر بعض الروايات التافهة التي أفتى بمنعها الأزهر لما فيها من مساس بالذات الإلهية، ويدعو المؤلف إلى عدم الالتزام بهذه الفتوى؛ لأنها تخالف حرية الفكر، كما يزعم.

عند ذلك تستبين سبب الألفة بين هؤلاء (العقلانيين) و (الليبراليين) ، حيث تلحظ حضورهم المكثف في القنوات الليبرالية، فهم الذي يُدعون إلى المؤتمرات، وهم الذين يُستكتبون في صحافتهم ويُقابَلون في قنواتهم، وهم الذي يقدَّمون للعامة؛ لأنهم أصحاب «فكر إسلامي مستنير» أو «وسطيون» وغيرها من ألفاظ التزكية الليبرالية، أمَّا غيرهم ممن يخالفهم الرأي: فهو ظلامي رجعي سلفي (١) متشدد إقصائي.

عندها تدرك لِمَ مراكز البحث الغربية تدعو إلى دعمهم والعناية بهم (٢) ؛ لأنها علمت أنهم حصان طروادة الذي من خلاله يتم هدم قلاع الممانعة الإسلامية من الداخل.

وهم ـ شعروا أو لم يشعروا ـ أول مراحل هدم قيم الإسلام وإحلال القيم الليبرالية محلها، وهم مطية يتم من خلالها تسويق الفكر العلماني داخل المجتمعات المسلمة سواءَ أدرك ذلك بعضهم؛ فرضي بذلك مقابل الشهرة التي يمنحونها له، أو عن طيبة قلب وسذاجة فكر تم استغلاله، وهو لا يدرك خطورة الدور الذي رُسِم له.

وهنا يسأل البعض: هل من الحكمة جعل هؤلاء كلهم في سلة واحدة ومخاصمتهم، والأمة تعاني من تكالب العداة ومحاولتهم بكل السبل النيلَ من ثوابتها وقيمها؟

بطبيعة الحال ليس من الحكمة فعل ذلك، ولكن إذا استشرى شرهم، وعلا ضجيجهم، وبان أثر فكرهم وخطورة انحرافهم في استقطاب كوادر العمل الإسلامي، والتأثير على محاضنه الفكرية، واستنبات بذور الفرقة داخل الصف الإسلامي بسبب جهل الكثيرين حقيقتهم، عند ذلك تكون الحماقة عينها التغاضي عن هذا الواقع ونحن نصطلي بناره، حتى يصبح المنهج الحق خارج السرب يغرد وحده، وليس من الحكمة في شيء أن نرضى بسرقة الصحوة والعمل الدعوي من قبل هؤلاء العقلانيين تحت ذريعة أنهم الأقدر على التواصل مع الغرب، والأقدر في إدارة دفة الحوار مع الآخر؛ لكونهم يملكون القدرة على تفكيك خطابه، فهم ـ إن سلَّمنا أنهم كذلك ـ من أبعد الناس عن فهم نصوص الشرع وتنزيلها على واقع الخصم.

فإن لم يقم الدعاة ببيان حقيقة هذه الطائفة وتصويف باطلها؛ ساعتها سيجدون أنفسهم مقصيين عن الساحة، تعلو رؤوسهم كلمات النبز واللمز كما فُعِل بأهل السنة من قبل، فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن نلحظ بوادر تكرار للمشهد الأشعري فنتساءل: أَأيقاظ ـ أولئك الدعاة ـ أم نيام؟