للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تل أبيت أم (تل حبيب) ؟]

يحيى أبو زكريا

تتنافس القيادات العربية الرسمية التي عجزت عن إذابة الخلافات فيما بينها، على الجهر بحبّها العذري والفاحش للدولة العبريّة التي لم تتغيّر قيد أنملة، وما زالت محافظة قلباً وقالباً على ثوابتها كما هو الحال في متغيراتها.

وبدأ الرسميون الصهاينة يكشفون عن العلاقات السرية بينهم وبين مجمل العواصم العربية التي كانت تكذب على شعوبها صباحَ مساءَ، وتخفي على شعوبها حقيقة هذه العلاقات القائمة والفاعلة في كل الاتجاهات، وهنا يسجّل الكيان الصهيوني لحسابه بعض النقاط على الأنظمة العربية؛ ففي الوقت الذي يبلّغ فيه هذا الكيان شعبه اليهودي بحركته الدبلوماسية الاتجاه نحو العواصم العربية، فإنّ هذه الأخيرة تخفي عن شعوبها ليس هذه المعلومات فحسب، بل تخفي عنه كل شيء، وتعتبر أنّ الحديث عن هذا الأمر يندرج في سياق الأمن القومي.

وتتصوّر بعض تلك القيادات العربية الآيلة إلى السقوط أنّ الشعوب العربيّة لا تعرف شيئاً عن هذه العلاقات السرية والودية بين الكيان الصهيوني وهذه القيادات التي رفعت من سقف ودّها لهذا الكيان.

والتطوّر البسيط الذي حدث في مشهد العلاقات العربية ـ العبريّة هو أنّ المصافحات والقُبَل واللقاءات السريّة باتت تتمّ في العلن وقبالة مصوِّرات (الديجيتال) الرقمية الدقيقة والتي لا تبقي مجالاً للشكّ في أنّ هذا المسؤول العربي وذاك وهو يبتسم للمسؤول الإسرائيلي أنه يفعل ذلك من أعماق قلبه، ونخاعه وكأنّه بذلك قد حقق نصراً لسياسة بلاده على الصعيد الدولي، كيف لا؛ والرضا الأمريكي يُحاز عليه من بوابة تل أبيب التي أصبحت وبعد الإصرار العربي الرسمي على التطبيع مع الكيان الصهيوني (تل حبيب) ؟

وقد زايد بعض الرسميين العرب كالعقيد معمّر القذافي على هذه القيادات العربية بقرب قيامه بزيارة مفاجئة إلى تل أبيب معيداً إلى الأذهان ما قام به ذات يوم الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات الذي ما فتئ القذافي يلعنه، واستبدل اسم القاهرة بالمقهورة بعد تلك الزيارة المشؤومة.

ويبدو أنّ القذافي مصاب بداء التطرف والمزايدة فيما يُقْدِم عليه؛ فالرجل الذي كان متعصباً لعروبته ثمّ لإفريقيته ارتدّ عن كل ذلك ليتطرّف ويغالي في إبراز حبه للكيان الصهيوني.

وإذا كان الشرط الأمريكي للبقاء في السلطة والحصول على تأشيرة الحكم والتسلط هو التطبيع مع الكيان الصهيوني، فلْتُرْجَم المبادئ، ولْيُدَسْ على رقاب الناس، ولْتذهب القضية الفلسطينية إلى الجحيم!

إنّ حالة العري السياسي التي باتت أهمّ ميزة تلك القيادات السياسية الرسمية، والتراجع عن كل المبادئ والقيم والمنطلقات السياسية، والارتماء في أحضان الكيان الصهيوني بلا ثمن لن تفضي إلى تماسك هذه القيادات وبقائها في السلطة كما تخطط لذلك، بل على العكس من ذلك ستتسع الفجوة بينها وبين شعوبها وهي المقدمة الأساس باتجاه السقوط.

لقد مدّ العرب ـ الرسميون طبعاً ـ جسور التواصل مع الكيان الصهيوني؛ فرئيس وزراء الكيان الصهيوني (آرييل شارون) جزّار صبرا وشاتيلا بل جزار المخيمات في الأراضي المحتلة بات مرحباً به في عموم المغرب والمشرق العربيين، و (شالوم) وزير خارجيته لكثرة لقاءاته بالمسؤولين العرب من المغرب العربي ومشرقه وخليجه بات يتقن اللغة العربية، وهو يدعو كل الرسميين العرب الذين التقاهم أن يعلنوا عن ولائهم وحبهم وتشبثهم بعلاقة قوية مع الكيان الصهيوني.

والعجيب أنّ الذين كانوا يخطبون بصوت جهور، ويطالبون بإنصاف الشعب الفلسطيني كانوا ينافقون، وربما يكون النفاق السياسي والغدر بالشعوب هو أبسط وأقلّ ما يمكن إلصاقه بهذه القيادات العربية.

لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو: لماذا هذه الهرولة الآن باتجاه الكيان الصهيوني والتعري المباشر أمام الشعوب؟

مبدئياً تجب الإشارة إلى أنّ الرسميين العرب الذين كانوا يزورون واشنطن كانوا يسمعون توجيهاً واضحاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش الصغير مفاده ضرورة التنسيق والتعاون مع الكيان الصهيوني، وكانت الدول العربية المطبّعة والعريقة في التطبيع والتي أفادت ماديّاً من تطبيعها بحصولها على مساعدات إضافية من الإدارة الأمريكية كانت تلبي على الفور، وفي اليوم التالي كانت تبعث أحد كبرائها إلى (تل أبيب) أو (تل حبيب) للبرهنة على التنفيذ الفوري للرغبة الأمريكية باعتبار أنّ الرغبة الأمريكية أمر واجب التنفيذ، وخصوصاً أنّ هذه الدول العربية المطبعة ضليعة في فهم مفردات ودلالات الفقه الأمريكي فيما يجب ولا يجب أمريكياً إلى درجة أنّ بعض هذه العواصم وقبل أن تدلي واشنطن بتصريح معيّن تتنبأ بذلك وتلتزم بالأمر الأمريكي قبل صدوره.

أما الدول المطبعة في السر والمناضلة في العلن، فتطلب بل تترجى من واشنطن أن لا تحرجها أمام الشعوب لأنّ الموضوع حسّاس ويتطلب بعض الكذب الإضافي على هذه الشعوب. أما الدول غير المطبعة لا في الجهر ولا في السرّ وهي قليلة ونادرة فالرسالة الوحيدة التي تتلقاها من واشنطن هي ضرورة التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل الاحتفاظ بالسلطة.

غير أنّه ومع الهيجان الأمريكي بدأت الدول العربية تتخلى عن بعض الاعتراضات، وتلتزم قولاً وفعلاً بالرغبة الأمريكية في ضرورة إعلان عرس التطبيع مع الكيان الصهيوني.

ومن باب إرضاء واشنطن والحصول على تزكيتها، ومن ثم تأشيرتها للبقاء في الحكم، زادت الدول العربية المطبِّعة من تطبيعها، ورفعت سقف التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى الحدود القصوى، وخرجت الدول المطبعة في السرّ عن صمتها وأعلنت أنّ الوصال قائم بينها وبين الكيان الصهيوني، وأعلنت ترحيبها بـ (شارون) والسفارات والممثليات التجارية العبرية في العواصم العربية.

والدول المقاطعة وبعد أن تعلمت الكثير من المشهد العراقي وسقوط نظام صدام حسين أعلنت ترحيبها بالحركة الصهيونية في الجوار العربي، بل في الخارطة العربية، إذا كان ذلك سيجلب العز، وزيارة القذافي المرتقبة إلى (تل أبيب) ستكون البداية لزيارات عدة لرؤساء دول عربية طالما رددوا: لن نخذل فلسطين.

لقد تسنى لي أن أقابل السيدة (حنان عشراوي) في العاصمة السويدية ستوكهولم، فقلت لها: يا أستاذة! أنت جئت إلى الغرب للبحث عن دعمٍ للقضية الفلسطينية؛ فالأوْلى أن تعيدي تذكير الرسميين العرب بالقضية الفلسطينية وأن يدرجوها في أجندتهم من جديد.

لكن يبدو أنّ هذه النصيحة قد انتهى مفعولها مع بداية حجّ بعض الرؤساء العرب إلى (تل حبيب) حيث سيحصلون فيها على التزكية السياسية التي تجعل واشنطن تغضّ الطرف عن ظلمهم لشعوبهم، ووأدهم لحقوق الناس، وسرقتهم لموارد الأرض العربية ظاهرها وباطنها.


(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.