[أساليب ومضامين الخطاب الإسلامي]
د. أحمد حسن محمد
إن الواقع المعاصر ما زال في حاجة إلى مضمون الخطاب النبوي على الرغم من تباين الأنظمة والتشريعات؛ فإن الرسالة الإسلامية إنما تتعامل مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها؛ مما يؤكد صلاحية الخطاب الإسلامي للمجتمع المعاصر وفق مقاييس جديدة وأساليب مستحدثة، لكنها لا تخرج عن ثوابت العقيدة وحقائق الشريعة القطعية المعروفة.
وتظهر أهمية هذا المضمون الإسلامي للخطاب الإعلامي عندما تدرك خطورة المواجهة بين الغرب العلماني والمجتمعات الإسلامية، والتي أصبحت تحمل كل أساليب الدعاية والاتهام لكل ما هو منتسب للدين عامة والإسلام بصفة خاصة. وساعد على ذلك عدة أسباب نذكر منا:
١ - عداء الحضارة الغربية للكنيسة في وقتٍٍ ما؛ مما أصَّل عناصرها ومظاهرها بعيداً عن قيم العنصرية ذاتها، وانسحب ذلك أيضاً على الدين الإسلامي من وجهة نظر الغرب.
٢ - لم يستطع العالم الإسلامي أن يقدّم النموذج المطلوب لحضارة تقوم على أسس الدين والشريعة بما يقنع الغرب واقعياً بصلاحية الإسلام ليكون مكون نهضة وحضارة معاصرة، وكان ذلك لعجز المسلمين، وليس مطلقاً لعجز الإسلام أو الدين.
٣ - القصور الإعلامي في كثير من الدول الإسلامية أتاح للمشروع الغربي أن يدعم تصوراته وأفكاره على حساب الخطاب الإسلامي الصحيح والذي كان في شبه غيبوبة عن الساحة الإعلامية الدولية.
٤ - اختلاف الرؤى الفكرية والإعلامية في كثير من بلاد المسلمين ودوله وخصوصاً حيال الأحداث العالمية والإقليمية، بل المحلية في وسائل إعلام هذه الدول. وافتقد الخطاب الإسلامي وجهته ووحدته المطلوبة، وظهر كأنه في تضارب وتعارض أمام المتلقى الغربي والأجنبي، ولعل ما حدث في أزمة الخليج ـ الحرب على العراق ـ وأزمة أفغانستان ما يصلح دليلاً على هذا التناقض، ويأتي اليوم ليكون شاهداً من خلال أزمة فلسطين، وهذه المواقف لعلها قد أفقدت العالم الإسلامي وحدة الطرح الإعلامي للأحداث؛ مما كان له تأثيره السلبي على الرسالة الإعلامية الصادرة.
لهذه الظواهر وأسبابها كان الأمر يستدعي عودة إلى الأصول والاهتداء بالخطاب النبوي الذي كان يصدر عن قواعد وثوابت العقيدة وسلامة التصور ووحدة الفكر.
إن عالمنا الإسلامي لم يعدم مطلقاً هذه الثوابت، بل هي ظاهرة ومتحركة في عقول وقلوب أبنائه، ولكنه في حاجة ماسة إلى مشروع يرتكز على قاعدتين أساسيتين:
أولاهما: قاعدة قوية أبناؤها مؤمنون يحملون أمانة الدين وأمانة الدعوة، تتنامى روح الإسلام والغيرة عليه في قلوبهم وأرواحهم، يتربون على معاني الفضيلة والصدق والالتزام بقواعد الإسلام وشرائعه وأصوله اهتداءً بما قام به سيّد المرسلين في إعداد مثل هذا الصنف من الرجال الذين: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: ٢٣] ، فكانوا بحق إسلاماً حياً وقرآناً يتحرك. فإذا ما توفر هذا العنصر الأساس؛ فإن عليهم دراسة المجتمع القائم وطبيعة الفكر المعاصر وأساليبه، والاطلاع والتحليل لثقافة الغرب. ومعرفة أصولها ودواعيها؛ بما يمكنهم من قدرة الحديث بلغة يفهمها أهل الغرب، ومن خلال الخطاب الإعلامي لمثل هذه العقول والثقافات يُقدِّم الإسلام السلوكَ والعملَ حتى يقتنع الرأي العام بالرسالة الموجهة، ويلمس أثرها.
ثانيتهما: النص الإعلامي المحمول على وسائل وأنظمة تقنية حديثة بالأخذ بكل الإمكانات المتاحة التي تعين على توصيل الخطاب الإعلامي المسلم إلى الجمهور المستهدف؛ وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفضل الخلق إحساناً للكلمة وتصويراً لها، كذلك جاء الصحابة مع أخذهم بكل الوسائل المتاحة آنذاك في الإبلاغ والشرح وضرب الأمثلة وإيصال كلمة الله للناس. والإعلامي المسلم اليوم مطالب بالأخذ بكل أسلحة العصر في مجال الإعلام، وإتقان صناعة الرسالة الإعلامية والمعلومة المفيدة والسبق بها في ميادين المعرفة؛ بما يعطي للرسالة الإسلامية لغة العصر وسلطة العصر (١) .
- مضامين الخطاب الإسلامي:
لا بد من تمايز المضمون الذي يحمله الخطاب الإسلامي؛ بحيث يتميز عن المضمون الذي تحمله الرسائل الغربية، وهذا أمر طبيعي لاختلاف منابع الثقافتين؛ حيث إن الإسلام ينطلق من منابع الإيمان بالله رب العالمين؛ وبذلك فإن قضية الإيمان تعتبر إطاراً أصيلاً لمضمون رسالي؛ لأن الغرب قد فقد في معظمه هذا الشعور، شعور الإحساس بوجود الله ونور السماء، ففقد بذلك الإجابة الصحيحة عن حقيقة وجوده في الحياة ومعاشه في هذه الأرض؛ فسخر وجوده لملذاته وشهواته، ووضع قوته لإذلال الآخرين، ولم يفكر يوماً بأنه سيموت ويُبعث ويحاسب، ويعني ذلك أن مخاطبة الرأي العام الغربي لا تكون مطلقاً بفكر مكتسب ونظام مقتبس، بل لا بد أن يحمل الخطاب الإسلامي بما فيه من أصالة وجذور وتعاليم ومفاهيم تجبر المتلقي الغربي على الالتفات إليها على اعتبار أنها شيء جيّد لم يألفه من قبل.
فالغرب ليس إلا الفكر القومي والتكتلات الاقتصادية والأحلاف العسكرية سعياً وراء حضارة تسود وتعلو وتستمر، وهنا يبرز دور المفكر ليقدّم مفهوماً جديداً للوحدة الإنسانية من خلال قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] . وهذا المفهوم يحقق نظاماً اجتماعياً له نسق متميز لا يقوم على الجنس أو اللون أو التراب، بل يستمد مقوماته من قيم عقيدة ومثل عليا.
إن المتلقي عندما يدرك هذه الحقيقة من خلال رسالة ناضجة متميزة يؤمن بأنه فرد في مجموعة تتسم بصفة أخلاقية، ومعانٍ سماوية؛ فلا يحقد على أحد، ولا يعادي أحداً، بل الجميع أمام الرّب الأعلى ـ سبحانه ـ سواء، وتقوم الوحدة في ظل الأخوة وليس في ظل الصراع أو الغلبة للأقوى، وهذا أمر يفضح الفكر اليهودي الذي يجعل من اليهودي بشراً ومن الآخرين غير بشر، ويرفض الفكر النازي الذي يقول (ألمانيا فوق الجميع) ، ويستنكر مفهوم العنصرية التي قطَّعت العالم والشعوب.
إن مفهوم الوحدة الإنسانية تحت مظلة العبودية لله والإيمان به تنفي ثغرات الفرعونية والزنجية والتفرقة العنصرية، وهذا ما تعانيه الحضارة المعاصرة اليوم.
- مفهوم آخر هو مفهوم حقوق الإنسان:
وهو ما تقوم به وسائل الإعلام في الغرب وتعتبره إنجازاً حضارياً غير مسبوق؛ فإن الخطاب الإعلامي الإسلامي لا يستمد مادة هذه القضية من أصولها الغربية التي نبعت أصلاً عن مشاعر سلبية نتيجة للفوارق الاجتماعية والجنسية، فأصبحت تحمل مفاهيم تحيد بالإنسان عن دوره الاجتماعي في الحفاظ على القيم والمبادئ ومصالح الآخرين.
ولعل من مظلة هذا المفهوم الغربي استباحة الأعراض وتبرج المرأة وإشاعة الفواحش، وحرية التصرف للصغير والكبير؛ فأوقعت المجتمع الأوروبي في هذه الدوامة من المشكلات السلوكية والتمرد العائلي والتشرد، والوقوع في مصيدة المخدرات حتى تبنت هذه الحضارة نفسُها ـ أي الحضارة الغربية ـ بعضاً أو كثيراً من هذه الفواحش والسلوكيات لتكون حقوقاً تُمنح للشعوب تحت مظلة معاهدات دولية [مؤتمرات المرأة.... إلخ] .
والعرض الإسلامي للخطاب الإعلامي يحمل مفهوماً متميزاً لهذه القضية؛ حيث إن حقوق الإنسان إنما هي سبيل للحق والحياة الكريمة من خلال هدي القرآن في تكريم الإنسان وتفضيله على كثير من خلقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: ٧٠] . ومن ثم كانت الحقوق بالقدر الذي يصون للمجتمع أمنه وسلامته ورخاءه. فأعطى الإسلام حقوقاً لا تعرفها الحضارة الغربية اليوم: كحق الوالدين على أولادهما، وحق الزوجة على زوجها، وحق اليتيم على المجتمع، وحق السائل والمحروم، وحق المحكوم على الحاكم. إنها مفاهيم جديدة لم يألفها مجتمع الغرب، تصلح أن تكون رسائل إعلامية تحملها وسائل الإعلام ضمن برامج متعددة: تشمل: المسرحية، والكلمة المباشرة، والمقالة المكتوبة، واللوحة المرسومة، والكتاب المطبوع.
وإذا كانت هاتان القضيتان: قضية الوحدة الإنسانية، وقضية حقوق الإنسان من قضايا الإعلام المعاصر فإن هناك الكثير من قضايا العالم يحتاج إلى طرح إسلامي يلفت نظر الغرب إلى هذا الدين؛ فقضية المرأة ومكانتها في الإسلام بعد أن أصبحت سلعة يتاجَر بها في الغرب، وفقدت أنوثتها، وقضية الحرب والسلم والصراع العالمي بالسلاح، وما يُصرف عليه من أموال وميزانيات، وكيف أن الإسلام جعل السلم أساس الحياة، والحرب والقتال إنما الأصل فيهما إقرار السلم والحياة الهانئة.
قضية المال والاقتصاد والصراع الربوي والذي أمكن للإسلام ـ بفضل الله ـ أن يعيد الفطرة إلى المال؛ باعتباره مال الله، وحرم الربا ودعا إلى التكامل، وغير ذلك من القضايا التي يجب أن يتبناها الخطاب الإعلامي الإسلامي وفق الشرطين الأساسين السابق الإشارة إليهما وهما:
١ - تقديم النموذج العملي.
٢ - استخدام الوسائل المتاحة المقدمة.
- متطلبات الخطاب الإسلامي:
لا شك أن المفكر المسلم الصادق لا يفتقر إلى الجانب الإسلامي في قوة الطرح لفكره؛ حيث إنه يعتمد على قوى تستمد قوتها من السماء، ويتميز بسمات واضحة:
١ - فكر صادر وفق هَدْيٍ عن خالقٍ عالمٍ بالنفس الإنسانية، وطبيعتها قادر على كشف ما خفي وما ظهر من عالم بالغيب في الحاضر والمستقبل.
٢ - فكر يتلاءم ويتماشى مع الحياة العصرية ومستحدثاتها المتقدمة وفق ضوابط أصولية تحرص على الإيجابيات، وتبتعد عن السلبيات، وتخضع لمقاييس ثابتة وأصول واضحة في الوقت الذي يرفض فيه التخلف والانحطاط والرذائل.
٣ - فكر يربط تعمير الأرض ونمو المجتمع وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية بتعمير القلوب وطهارة النفوس ونقاء الوسائل، بل يعتبر التقصير فيما تتطلبه الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية من نماء وعمارة يعتبر تخلفاً وإثماً يستحق عقاب الله؛ فالعمل عبادة تقرّب إلى الخالق سبحانه.
بمثل هذه العناصر الأساسية ينطلق حامل الرسالة الإعلامية ليخاطب المجتمع الأوروبي في حالته التي يشعر فيها أنه قد تحضر وتمدن، وأن الدين تخلُّف ورجعية؛ ليعلن أن الإسلام وهو دين يطرح بقوة فكرة تعمير الأرض والانتقال من مرحلة التخلف، ولا يرفض أقصى مراحل التقدم دون أن يتجاهل الرابط القوي بين السماء والأرض وبين الخالق والمخلوق.
بهذه المنطلقات يمكن للخطاب الإسلامي أن يخرج للعالم بوضوح وقوة تحقق التفاف الجمهور المستهدف، وتوجد رأياً عاماً جديداً تقنعه الفكرة، ويعجبه السلوك العملي.
إن على الإعلامي المسلم صاحب الرسالة الإسلامية أن يدرك أن العالم اليوم لا يعيش أزمة مال ولا رجال، ولكنه يعيش أزمة قيم ومفاهيم رسالية هادفة تحملها أفكار سليمة من عقائد لها قدرة نقل الإنسان إلى شاطئ أمان بعد أن دمرت الحضارة الحديثة معاني الأمن والأمان في نفوس الأفراد والأمم.
(*) أستاذ مشارك ورئيس قسم الإعلام بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة إفريقيا العالمية ـ الخرطوم.