للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات اقتصادية

آراء وتأملات في فقه الزكاة

(١)

بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني

يتميز الإسلام بمنهجية متفردة، حيث يعمل على تحقيق التوازن بين الحاجات

المادية والروحية، ضمن تنظيم يعطي للحياة الدنيا دورها والآخرة دورها، بدون

تفريط ولا إفراط، [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ]

[القصص: ٧٧] ، [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ] [الأعراف: ٣٢] .

تتمثل هذه المنهجية في الاهتمام بالفرد باعتباره مناط التكليف، لذلك: فقد

وضع قواعد وسن شرائع تمثل في مجموعها نمطية السلوك الذي ينبغي على

الإنسان المسلم التزامه، حتى تتحقق خلافته لله في الأرض، كما يريدها الله، وفق

العهد الذي أخذه الله على بني آدم.

يتميز دين الإسلام بأنه الدين الذي جمع في إهابه الواجبات التي ينبغي للفرد

القيام بها تجاه خالقه، والواجبات التي عليه القيام بها تجاه أخيه الإنسان، فتنتظم

الحياة الإنسانية، فلا يكون انفصال بين متطلبات الحياة الآخرة ومتطلبات الحياة

الدنيا، وإنما هناك رابط يجمع بينهما.

من الشواهد على حقيقة الارتباط بين عبادة الله وأداء الحقوق المالية تجاه

المجتمع: ما نجده من اقتران الصلاة والزكاة في آيات القرآن الكريم، حيث نلاحظ

أن الصلاة، التي هي الشعيرة المحسوسة لتأكيد خضوع الإنسان لله تقرن دائماً

بالزكاة، التي تمثل الجانب المالي في تنظيم المجتمع، يقول الله (تعالى) : ... [وَأََقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] [البقرة: ٤٣] ، ويقول: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً] [مريم: ٣١] .

الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو الركن الذي لا يصبح

الإنسان مسلماً حقّاً إلا إذا أداه، فهي واسطة العقد، وهي الرابطة بين صحة

الاعتقاد والعبادة، فالصلاة والصيام والحج عبادات بدنية، والزكاة تمثل جسر

الإيمان الذي يربط بين ظواهر ومؤشرات ودلائل الاعتقاد.. وواقع الحياة، حيث

يتحقق التلازم بين الاعتقاد والعبادة من جانب، والتكافل الاقتصادي لأفراد المجتمع

من جانب آخر، فيتحقق مفهوم الإسلام الذي يقوم على أساس أن الدين لا ينفصل

عن واقع الحياة، وأنه يعمد إلى إسعاد الناس في حياتهم الدنيا كما يسعدهم في

حياتهم الآخرة.

إن دور الزكاة في تحقيق التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي دور مهم، لكن واقع المجتمعات الإسلامية في هذا العصر لا يعطي لهذا الأمر أهمية، فتُرك

الأمر للأفراد في تأدية الزكاة، وغُيِّر وجهها، واستبدلت الضرائب وغيرها من

وسائل الجباية بالزكوات، وأصبحت التنظيمات المالية الحالية لا تعطي أهمية لدور

الزكاة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتكافل الاجتماعي، وتحقيق ما ينادي به

الاقتصاديون المعاصرون من إقامة دولة الرفاهية، فحلت الأنظمة المالية القائمة

على النظام الربوي محل النظام المالي الإسلامي، الذي يقوم على منهج مغاير للفكر

الفلسفي الذي تقوم عليه التنظيمات المالية المطبقة حالياً، والمقتبسة من النظام ... الغربي [١] .

المفهوم السائد لدى كثير من الناس عن الزكاة أنها نوع من التصدق لا علاقة

لها بتنظيم شؤون الدولة المالية، وليست جزءاً من التنظيم الاجتماعي، وبالتالي:

فإن الزكاة هى جزء من التراث الأخلاقي الذي لا يمكن أن يقوم عليه البناء المالي

للمجتمع، هذا المفهوم الخاطئ يرجع في أساسه إلى عدم فهم حقيقة الزكاة، والجهل

التام بالتراث الفقهي المالي، مما ينتج عنه هذا المفهوم القاصر لدور الزكاة في

المجتمعات الإسلامية.

إن الزكاة هي التنظيم المالي الوحيد في التشريعات المالية التي عرفها البشر

المخصصة للإنفاق على احتياجات الأفراد الذين لا يجدون كفايتهم، ولم تقتصر

الزكاة على نوع معين من الدخل، بل شملت كل مصادر الدخل، كما أنها تميزت

بشمولية المشاركين في دفعها، حيث ظلت الحد الأدنى الذي إذا بلغه المال وجبت

فيه الزكاة، مع ملاحظة طبيعة المال، فربطت وجوب الزكاة في بعضه على مرور

الحول مثل النقدين والتجارة والأنعام، وبعضه الآخر في تاريخ تحققه مثل الزروع

أو الركاز أو المعادن.

إن الزكاة هي التنظيم المالي القادر على تحقيق التوازن الاقتصادي في

المجتمع، والتقليل من التفاوت بين مختلف الأفراد والجماعات، وغرس روح

التعاطف والمودة بين مختلف الأفراد، لذا: فلا بد من معرفة أحكامها وكيفية تحديد

وعائها، ومقدارها حسب الأموال التي تجب فيها، وحسب واقع الأنشطة

الاقتصادية المعاصرة، والتي تعددت وتنوعت، وما صاحب ذلك من ازدياد حجم

الثروات ووسائل تبادلها، مع بروز أشكال من الأعمال الاقتصادية لم تكن معروفة

في الماضي؛ مما يوجب دراستها وبيان التخريج الفقهي الملحِق لها بنوع المال الذي

ورد فيه النص، وبالتالي: مقدار نصاب زكاتها والأحكام المتعلقة بذلك.

إن الغاية من نشر هذه المجموعة من الحلقات هو دراسة ومناقشة أحكام الزكاة

المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية المعاصرة، التي من أمثلتها: مزارع الدواجن،

والخضروات، والعقارات، والمصانع، والمناجم، وشركات الخدمات، ومقاولات

البناء، والصيانة.. وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية التي يثور حولها كثير من

التساؤلات فيما يتعلق بكيفية تحديد زكاتها.

مفهوم الزكاة وشمولها:

لفهم أحكام الزكاة باعتبار أنها الركن الثالث من أركان الإسلام: لا بد من

تحديد معنى الزكاة لغة، حيث يفيد اللفظ معنى النماء والزيادة، فأصل (الزكاة) :

من زكا الشيء، إذا نما وزاد، وفي لسان العرب: فإن الزكاة تعني الطهارة والنماء

والبركة، ولقد وردت هذه المعاني في القرآن والحديث، أما المفهوم المرتبط بالمال

وفق المدلول الشرعي فيوضحه ابن قدامة بقوله: (الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت

النفقة إذا بورك فيها، وهي في الشريعة: حق يجب في المال، فعند إطلاق لفظها

في موارد الشريعة ينصرف إلى ذلك) [٢] .

من الألفاظ الدالة على الزكاة وفق المفهوم الشرعي التي إذا استخدمت عُرف

أن المقصود هو الركن الثالث من أركان الإسلام: لفظ (الصدقة) ، ولتداخل المعنى

بين لفظي الصدقة والزكاة، فقد حدد الإمام الماوردي معنى التطابق للفظين، فهو

يقول: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، ويفترق الاسم ويتفق المسمى) [٣] .

ويؤكد هذا المفهوم (ورود لفظ الصدقة بمعنى الزكاة) ما جاء في القرآن الكريم، حيث جاءت آيات الصدقة وقصد بها الزكاة، كما في قوله (تعالى) : [خُذْ مِنْ

أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة: ١٠٣] ، وقوله: [وَمِنْهُم مَّن

يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ]

[التوبة: ٥٨] .

لكن العرف صرف معنى الصدقة، فأصبحت عنواناً على التطوع، وما تجود

به النفس على المتسولين وغيرهم، وأصبح لا يُدرَك مدلول الآيات القرآنية لدى

عامة الناس عند تلاوتها، حيث ارتبط مفهوم الصدقة بالتطوع لا بالإلزام والوجوب.

إن دلالة لفظ (الصدقة) يُفهم من أصل مادة الكلمة، يقول القاضي ابن العربي

بهذا الخصوص: إن مدلول لفظ الصدقة حسب مادتها (مأخوذ من الصدق في مساواة

الفعل للقول والاعتقاد) [٤] .

إن هذا المفهوم الذي أشار إليه ابن العربي (رحمه الله) يرتكز على مفهوم

أساس يقوم عليه الإسلام، وهو التلازم بين الفعل، والقول، والاعتقاد، فلا يكمل

الاعتقاد بدون قول، كما لا يكمل القول بدون فعل، فالتلازم بين هذه الأمور الثلاثة

لحمة عقيدة الإسلام ومرتكزها.

إن ارتباط الزكاة بالعقيدة وكونها جزءاً أساساً لا يكتمل الإيمان إلا بها.. يدل

عليه ما ورد من آيات عن الزكاة في العهد المكي، حيث لم تتكون بعد الدولة

الإسلامية، ولم تتحدد أنواع الأموال والمقادير الواجب إخراجها، إنما كانت الإشارة

إلى الزكاة في هذه الفترة باعتبار أنها جزء من الاعتقاد، مما يوضح ويؤكد مدى

التلازم بين الإيمان بالله والعبودية، والالتزام تجاه الجماعة المسلمة في الحياة الدنيا، ففي سورة الأعراف أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله (تعالى) : [وَاكْتُبْ لَنَا

فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أََشَاءُ

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأََكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا

يُؤْمِنُونَ] [الأعراف: ١٥٦] ، لقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن بني

إسرائيل وطلبِ موسى (عليه الصلاة والسلام) المغفرة من ربه، حيث كانت الإجابة

بنفيها عن قومه لأسباب، من أهمها: أن المغفرة لا تعطى إلا لمن اتقى وآتى الزكاة، فغضب الله يحيق بأولئك الذين لايعطون حق الله في أموالهم التي منحهم الله أياها، هذا الارتباط بين الإيمان القلبي والسلوك المادي تؤكده كذلك سورة مريم حكاية

عن عيسى (عليه السلام) ، في قوله (تعالى) : [وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ

وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً] [مريم: ٣١] ، وفي السورة نفسها عندما

مدح الله نبيه ورسوله إسماعيل (عليه الصلاة والسلام) أشار إلى هذه الحقيقة بقوله:

[وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً] [مريم: ٥٥] .. وغير

ذلك من الآيات التي تتحدث عن الزكاة في العهد المكي، حيث أوضحت أن الزكاة

جزء أساس لاستكمال حقيقة الإيمان.

إن رسالة الإسلام هي إيجاد المجتمع المؤمن الذي يرعى أغنياؤه فقراءه،

وتربية للفئة المؤمنة التي التحقت بالركب الإسلامي في مكة، بأن عقيدة الإسلام لا

تفصل واقع الحياة عن العقيدة، وأن التكافل الاجتماعي أحد المقومات الأساس

للمجتمع الذي يريده الإسلام، كما إنها تأكيد للأجيال المسلمة ممن يدخل الإسلام بعد

تكوين دولته وقيام السلطة المسؤولة عن تنفيذ أحكام الله أن الإسلام دين لا يؤدي

دوره الفاعل في الحياة الإنسانية إذا لم يقم المال بدوره في تحقيق الحياة الآمنة

المستقرة.

إن آيات القرآن الكريم التي نزلت في المدينة أعلنت بكل وضوح وجوب

الزكاة، في سورة البقرة جاء أمر الوجوب في قوله (تعالى) : [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]

[البقرة: ١١٠] ، بعد الإشارة إلى الرغبة لدى أهل الكتاب في صرف المسلمين عن

الإيمان في قوله (تعالى) : [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ

كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاًتِيَ

اللَّهُ بِأَمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [البقرة: ١٠٩] ، وكأن الله ينبه المؤمنين

إلى أن الإيمان الذي يرغب الكفار في صرف المسلمين عنه تتمثل مظاهره في

الصلاة والزكاة، فتَرْك واحدة من هاتين العبادتين تحقيق لأمنية الكافرين.

كما نجد هذا المفهوم يظهر أكثر وضوحاً عند تحديد الإطار التنظيمي لجماعة

الأمة المسلمة، بأنها تلك الجماعة الملتزمة بأداء الصلاة والزكاة، وأن المشركين لا

يمكن دخولهم حظيرة الجماعة إلا إذا أدوا هاتين الشعيرتين، ويحدد في سورة التوبة

أن الزكاة جزء من إطار العلاقة التي تُبنى عليها الجماعة المسلمة، والتي تتميز بها

عن بقية الجماعات الأخرى، في قوله (تعالى) : [فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا

المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا

وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: ٥] ، وفي

السورة نفسها: حدد مفهوم الأخوة الإسلامية، وإطار بنائها، ومن هو الذي يحق له

الانتماء إليها ممن لا يكون منها، وذلك عندما تحدث عن المشركين، وعهودهم،

وما تضمره قلوبهم، وأن شرط دخولهم في حظيرة الجماعة المسلمة يتحدد وفق ما

جاء في قوله (تعالى) : [فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ

وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] [التوبة: ١١] .

لهذا نجد كيف فهم خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق

(رضي الله عنه وأرضاه) هذا التلازم بعد أن التحق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى

وارتدت بعض قبائل العرب وزعمت أن الزكاة شيء كان يأخذه رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- منهم وبموته ينتهي هذا الالتزام، فقد أطلقها مدوية في سمع التاريخ

قائلاً: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو

منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها.

إن من المفاهيم الأساس للزكاة، التي ينبغي إدراكها ومعرفتها: أن الزكاة من

أهم المقومات التي يتميز بها المجتمع المسلم، وتعطيل الزكاة والتهرب من أدائها

علامة من علامات انحراف المجتمع، وبروز النفاق، ويؤكد القرآن هذا المفهوم في

قوله (تعالى) : [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ

سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: ٧١] .

أما المنافقون: فهم أولئك القابضون على أيديهم، فهم لا ينفقون، مخالفين

لكل ما فيه خير وصلاح، يقول (تعالى) : [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ

يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ

المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ] [التوبة: ٦٧] .

تجب الزكاة وفق هذا المفهوم كما أجمع عليه علماء الإسلام على كل مسلم،

بالغ، عاقل، حر، مالك نصاب الزكاة وفق شروطها، فالزكاة لا تجب على غير

المسلم، فلا يطالب بها الكافر، ولهذا: وجب فصل موارد الزكاة عن الموارد

الأخرى التي تتحصل عليها الدولة؛ لأن طبيعة الزكاة وأغراضها والأهداف التي

من أجلها شُرعت تختلف عن الأموال الأخرى التي قد يقوم ولي الأمر بجبايتها

لمصلحة ظاهرة، فالزكاة لا تسقط بعدم وجود الحاجة إليها ولا تسقط باستبدالها

بموارد أخرى، فهى تملك خصوصية ارتباطها بطبيعة التنظيم الاجتماعي للجماعة

المسلمة الذي يسعى إلى تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي القائم على الأخوة الإيمانية،

بجانب ارتباطها بالاعتقاد، فإخراجها يرتبط بالإيمان، فهي لا تدفع لقاء منفعة

مباشرة كما في الرسوم والضرائب وغير ذلك من أنواع الجبايات التي تفرضها

الدول على رعاياها لتحقيق مصلحة ومنفعة عامة.

لم يحدد القرآن الكريم جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا شروط

وجوبها ولا مقاديرها، ولكن السنة النبوية القولية والعملية فصّلت ما أجمله القرآن،

وبينت ما أبهمه، وخصصت ما عمّمَهُ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مكلف

ببيان ما أنزل الله من القرآن، وهذا ما يقرره قوله (تعالى) : [وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: ٤٤] .

لقد أشار القرآن إلى بعض أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة، وأجمل بقية

الأموال بكلمة عامة، وهي كلمة (أموال) ، كما في قوله (تعالى) : [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ

صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] [التوبة: ١٠٣] ، وفي قوله (تعالى) : [وَفِي أَمْوَالِهِمْ

حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] [الذاريات: ١٩] .

أما الأموال التي حددها فهي:

أولاً: الذهب والفضة، كما في قوله (تعالى) : [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] [التوبة: ٣٤] .

ثانياً: الزروع والثمار، كما في قوله (تعالى) : [كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ

وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] [الأنعام: ١٤١] .

ثالثاً: الكسب من التجارة وغيرها، كما في قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ

آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] [البقرة: ٢٦٧] .

رابعاً: الخارج من الأرض من معدن وغيره، كما في قوله (تعالى) : [وَمِمَّا

أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ] [البقرة: ٢٦٧] .

إن شمولية الزكاة لجميع الأموال يعود إلى المفهوم اللغوي لكلمة (المال) كما

جاءت في القرآن الكريم، والذي يُدخل كل ما يرغب الناس في اقتنائه وامتلاكه،

وقد جاء في لسان العرب: (المال: ما ملكته من جميع الأشياء..، والجمع:

أموال، وفي الحديث: نهى عن إضاعة المال، قيل: أراد به الحيوان، أي:

يُحسَن إليه ولا يهمَل، وقيل: إضاعته: إنفاقه في الحرام والمعاصي وما لا يحبه

الله،.. قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، ثم أُطلِق

على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم) [٥] .


(١) لمعرفة أسلوب التنظيم المالي للدولة وفقاً للشريعة الإسلامية، يرجع إلى كتابنا (المالية العامة على ضوء الشريعة الإسلامية) ، نشر: دار عالم الكتب بالرياض.
(٢) المغني، لابن قدامة، ج٢، ص ٥٧٢.
(٣) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي، ص ١٤٥.
(٤) أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، ج٢، ص ٩٤٦.
(٥) لسان العرب، ج١١، حرف اللام، ص ٩٣٥ ٩٣٦.