الافتتاحية
وأملي لهم ... إن كيدي متين
... ... ... ... ...
... ... ... ... ... [١]
إن تاريخ الحكومات الثورية ثم الديمقراطية! مع الصحوة الإسلامية المعاصرة
تاريخ قديم حافل بكل ألوان الصراع والملاحقة والكبت وإحصاء الزفرات.. ولكن
العجيب أنّ الأيام والمحن لا تزيد الصحوة الإسلامية إلا ثباتاً ورسوخاً وتجذراً،
وفي كل يوم تمتد تلك الأغصان الكريمة وتتنامى بصورة مدهشة جداً..
لقد جن جنون الساسة والعلمانيين وفقدوا القدرة على التركيز والتفكير، وظنوا
أن الحل الوحيد الذي يُخرجهم من هذا المأزق هو العصا الغليظة التي تلهب الظهور
وتدمي الجباه..!
ظنوا أن الخيار الأمثل هو بناء السجون والمعتقلات في الصحاري اللاهبة
التي تنتهك فيها آدمية الإنسان، ويُمارس فيها شتى ألوان القهر والجبروت..!
ومع ذلك كله لم يتوقف المد المبارك؛ فالشارع الإسلامي على الرغم من
سياسة التجهيل وإعلام المرتزقة وسماسرة الصحافة يزداد التفافاً حول علمائه ودعاته
المخلصين.
ولكن.. ماذا بعد؟ ! وإلى متى تستمر الأنظمة (الديمقراطية!) في عدائها
الصارخ المتطرف للصحوة الإسلامية ورجالاتها؟ ! إلى متى يستمر الجري اللاهث
إلى هذا النفق المظلم..؟ !
مع الأسف الشديد لم تستفد هذه الأنظمة من خبراتها السابقة، بل استمرت لغة
السجون والعصي هي الأسلوب الوحيد الذي تجيده بكل إتقان وجدارة، فهل انحلت
المشكلة ووصلوا إلى مطلوبهم..؟ !
لقد ولّد العنف الرسمي عنفاً مضاداً، وأثمر التطرف تطرفاً مقابلاً، وأصبحت
القضية تدور في حلقة مفرغة تماماً، فالأدوات البوليسية التي تستخدمها السلطة
أصبحت وقوداً مستمراً للعنف والعنف المضاد! ! كم هو مؤسف أن تبقى تلك
العقول الصغيرة المتخثرة تجتر السياسة نفسها..؟ !
حقاً إنه الإفلاس المفرط الذي أدخلها في دوّامة العنف والقمع والتغطرس.!
[أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا]
[الفرقان: ٤٤] .
لقد نجحت الأنظمة الثورية في وأد بعض الأحزاب العروبية المتهرئة، لأنها
وجدت رموزاً نخرة يمكن أن تباع وتشترى بثمن بخس دراهم معدودة، ولكنها
فشلت فشلاً ذريعاً في ترويض تلك الجياد الأصيلة التي اشترت ما عند الله والدار
الآخرة.
إن ثمة حقيقة كبرى يغفل عنها أولئك الملأ الذين غرّتهم عساكرهم، وهي أن
حرب الصحوة الإسلامية ليست حرباً لأشخاص بأعيانهم تنتهي قضيتهم بتصفيتهم أو
خنق أصواتهم، ولكنها حربٌ مع السنة الكونية، فالله (سبحانه وتعالى) أنزل هذا
الدين لكي يبقى إلى قيام الساعة، [يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمَ نوره
ولو كره الكافرون] [الصف: ٨] . كما أنها حرب مع الله (تعالى) ؛ فقد جاء في
الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» [١] .
ومن ثم: فإن أي محاولة لاستئصال الصحوة الإسلامية وتجفيف منابعها تعد
محاولة خاسرة يائسة، مآلها بحول الله (تعالى) إلى التآكل والموت؛ قال الله (تعالى) : [إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم
حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون] [الأنفال: ٣٦] .
إن العقيدة الإسلامية لا يمكن أن تحارب بقوة السلاح وطغيان السلطة، وإن
استطاع السلاح في يومٍ من الأيام أن يؤذي رجال هذه العقيدة أو يعطل مسيرتهم
لبعض الوقت، فإنها تبقى راسخة حية تعمر قلوب المؤمنين، ولابد أن يظهر نورها، فكيف يعرف الخوف أو الإحباط طريقاً إلى صدور المؤمنين وهم يقرؤون الأنفال
والتوبة وآل عمران..؟ ! !
[٢]
قال الله (تعالى) : [وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري
فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني
لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا
لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين *
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا
لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين] [القصص: ٣٨-٤٢] .
إنها قصة موسى (عليه أفضل الصلاة والسلام) مع فرعون بني إسرائيل،
ولكنها قصة حية تتجدد بتجدد الفراعنة والطواغيت، فهم كثيرون تجمعهم عقلية
الاستعلاء والاستكبار والاغترار بالجند؛ قال الله (تعالى) : [أمَّن هذا الذي هو جند
لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور] [الملك: ٢٠] ...
شعارهم واحد لا يختلف: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) ! .
ولكن سنة الله (تعالى) تتجدد مع تجدد الفراعنة، فإن الله يُملي للظالم حتى إذا
أخذه لم يفلته؛ قال الله (تعالى) : [والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا
يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين] [الأعراف: ١٨٢-١٨٣] .
وبعد هذا الصراع كله: [فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون] ؟ ! !
أهم أولئك الجبابرة الذين ملكوا العبيد! وفتحوا السجون، يأمرون وينهون بلا رقيب
ولا حسيب؟ ! أم هم أولئك المخبتون الصادقون؟ !
قال الله (تعالى) : [الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون] [الأنعام: ٨١، ٨٢] .
الأمن الذي يعمر قلوب الدعاة.. حتى وهم مسلسلون في ظلمات السجون..!
الأمن الذي ملأ نفوسهم.. حتى وهم يجلدون وتسيل الدماء على وجوههم..!
الأمن الذي سكنت به جوارحهم.. حتى وهم معلقون على أعواد المشانق..!
فصبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
(١) البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، ح/٦٥١٢.