المسلمون والعالم
[تفاهم ماشاكوس.. حل أم مشكلة؟!]
مصعب الطيب بابكر
[email protected]
في ٢٠/٧/٢٠٠٢م وقّعت الحكومة السودانية مع حركة التمرد (الحركة
الشعبية لتحرير السودان) ما يسمى بـ (تفاهم مشاكوس) باسم الضاحية الكينية
التي جرى فيها التفاوض، وهو الاتفاق الذي يمثل (مفاجأة) حتى بالنسبة (للتجمع
الوطني الديمقراطي) الذي تنتمي إليه الحركة وتشكل ذراعه العسكري، ولمصر
وليبيا صاحبتي (المبادرة المشتركة) اللتين تربطهما علاقة خاصة بـ (الحركة)
و (التجمع) . الاتفاق الذي بدأ وانتهى في ٢٤ ساعة بشكل (مسرحي) بعد ٣٤ يوماً
(فاشلاً) من المفاوضات وبعد أكثر من ١٩ جولة ولقاءً فنياً (فاشلاً أيضاً) تحت
مظلة (الإيقاد) . والاتفاق الذي يُنتظَر أن ينهِي أطول حروب إفريقيا التي أزهقت
أرواح ما قدِّر بمليوني قتيل، وشردت ٤.٥ مليون نازح وكلّفت ما معدّله مليوني
دولار يومياً (تمثل أكثر من ٧٥% من الناتج القومي السوداني) كما جاء في تقرير
المبعوث الأمريكي القسيس (جون دانفورث) عن السودان. فما الجديد إذن؟
ولماذا الآن؟ وماذا تعني الاتفاقية، وما الذي يترتب عليها؟ جزء كبير من هذه
الأسئلة وغيرها سيظل قائماً ينتظر الإجابة، وجزءٌ آخر ربما تنكشف بعض إجاباته
في السطور التالية.
* الوضع الميداني قبل (مشاكوس) :
بعد الهزائم الكبيرة التي تلقتها (الحركة الشعبية المتمردة) فيما سمي بعمليات
(صيف العبور) عامي ١٩٩١ - ١٩٩٢م واسترداد جيش الحكومة لأكثر من ٤١
حامية عسكرية فإنّ جيش الحركة الذي يضم حوالي ٣٠.٠٠٠ مقاتل حسب تقدير
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن لم يستطع أن يقلب الميزان العسكري
لصالحه رغم وجود عوامل إقليمية ودولية وداخلية تعزز مواقفه.
و (الحركة الشعبية) تحظى بدعم الدول الغربية كافة، وبدعم أكثر من ١٦٠
منظمة غربية وعبر برنامج (شريان الحياة) الذي أنفقت عليه أمريكا بين عامي
١٩٨٩ - ٢٠٠١م أكثر من ٢ مليار دولار ذهب جلّها لصالح الحركة.
إنّ جيش الحركة لا يستطيع أن يحسم خياراته عسكرياً كما يقول (دانفورث)
في تقريره، بل إنه (ليس له القدرة ولا الوحدة على تعطيل الخطط الحكومية
لاستغلال النفط) كما جاء في تقرير الإيكونومست ١٢/٤/٢٠٠١م.. بل إنّ وضع
الحركة يصبح أكثر حرجاً عندما تستخدم الحكومة صفقة طائرات ميج ٢٩ والدبابات
الروسية والصينية المبرمة في ديسمبر ٢٠٠١م، وعندما تستثمر الوضع الإقليمي
والداخلي في صالحها.
إنّ التمرد قبل مشاكوس كان يعيش في واحدة من أسوأ أوضاعه بعد (صيف
العبور) وهو أحوج ما يكون إلى عملية (السلام) فإما أنْ يستثمر ما تبقى من قوته
في تحقيق المكاسب من اتفاق هو فيه ليس الطرف المهزوم، وإما أن يهادن حتى
يعيد تجميع صفوفه، ولربما تأتي له الأحداث بما يستفيد منه.
* ماذا لدى دول الطوق؟
«تشترك الولايات المتحدة و (إسرائيل) وتلتقي مصالحهما في التدخل
ومحاربة السودان عبر دول الجوار لاحتواء النظام الإسلامي الحاكم في الخرطوم؛
وقد يرى صناع القرار السياسي في أمريكا أنه في تسليم قرنق وسيلة ناجحة
للمعالجة (صحيفة نيويورك تايمز ٣/٣/١٩٩٦م) ، وهذه السياسة أعلن عنها في
أكثر من مناسبة مستشار الأمن القومي السابق (أنطوني ليك) ووزيرة الخارجية
السابقة (مادلين أولبرايت) .
وهكذا فابتداءً من ١٩٩٤م ساءت علاقة السودان بكل من إرتيريا وأثيوبيا ...
رفعت أثيوبيا شكوى ضد السودان لمجلس الأمن عقب محاولة اغتيال الرئيس
المصري حسني مبارك في يونيو ١٩٩٥م وصدر بموجبها القرارات العقابية
(١٠٤٤/١٠٥٤/١٠٧٠) وفي يناير ١٩٩٧م عند احتلال منطقتي الكرمك وقيسان
بعث السودان شكوى لمجلس الأمن اتهم فيها القوات الإرترية (٦٠٠٠ مقاتل و٢٢
دبابة) باحتلال مواقع داخل الحدود السودانية.
وقد أعلن الرئيس الإرتري أكثر من مرة:» إنّ إسقاط هذا النظام لا مجاملة
فيها، ونحن لا نعمل في الخفاء إزاء هذا الأمر « (صحيفة الحياة يناير ١٩٩٦م) .
وفي أبريل ١٩٩٥م قطعت يوغندا علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم، واتهمها
السودان بغزو أراضيه في أكتوبر عام ١٩٩٥م.
وفي مارس ١٩٩٧م نشرت دورية analysis Africa التابعة للاستخبارات
البريطانية ١٧/١١/١٩٩٥م تقريراً عن إنشاء واشنطن لخلية متحركة تتبع الجيش
اليوغندي بغرض محاصرة السودان. ولكنّ قيام بوادر الحرب بين أثيوبيا وإريتريا
غيّر تماماً نمط علاقتهما بالسودان لخطورة دوره وموقفه بالنسبة لهما.
أما يوغندا فقد وقعت اتفاقية مع الحكومة عام ١٩٩٩م برعاية الرئيس
الأمريكي (كارتر) والكيني (موي) تقضي بالتوقف عن دعم المعارضة المسلحة
لأي من الدولتين، وأقفل الجيش اليوغندي معسكرات التدريب (العلنية) لحركة
التمرد، ثم أعادت يوغندا فتح سفارتها بالخرطوم في سبتمبر ٢٠٠١م ... وهكذا
احترقت ورقة الضغط عبر الجيران التي تبنتها الإدارة السابقة، وتبخَّر قدر كبير
من الآمال في إسقاط نظام الخرطوم و (الحل الناجع) بتسليم جون قرنق حكم البلاد.
* النفط ورياح المصالح:
تمكن التمرد بقيادة (قرنق) من ضرب أعمال شركة (شيفرون) الأمريكية
للتنقيب عن البترول في فبراير ١٩٨٤م، وضرب أعمال الشركة الفرنسية لحفر
(قناة جونقلي) التي كان يؤمل أن توفر ٤ مليارات متر مكعب سنوياً من مياه النيل؛
وعليه توقف العمل في استخراج النفط.
ومن مارس ١٩٩٧م بدأت ثورة نفطية جديدة بالسودان حتى وصل إنتاجها
الآن ٢٣٠ ألف برميل يومياً (كلها من منطقتي هجليج والوحدة فقط) بمساحة تقدَّر
بـ ٥٠.٠٠٠ متر مربع وتعادل ٦% من المساحة الكلية (المرخصة فقط) والتي
يقدَّر أنها تحتوي على كميات تجارية من خام البترول الذي يتوقع أن يكون احتياطي
السودان منه يتراوح بين مليار إلى أربعة مليارات برميل أو تزيد ... وقد وفر عائد
النفط للحكومة ٧١% من إجمالي الناتج المحلي، وحقق فائضاً في الميزانية يزيد
عن ٢٠٠ مليون دولار.
ويملك امتيازات هذا الإنتاج شركات كندية وماليزية وصينية وسودانية كما
يعمل في هذا المجال شركات من النمسا وروسيا وفرنسا والهند والإمارات
وقطر.
إنّ دخول النفط في جو الحرب سيعيد تشكيل الأحداث بحيث إنه:
- سيعضد موقف الحكومة، ويضمن لها التفوق في إمداد الحرب، وإنعاش
الاقتصاد، وإغراء الفصائل المعارضة للانضمام لها.. يقول (جون برندر جاست)
مسؤول الشؤون الإفريقية بالخارجية الأمريكية السابق (الأوبزيرفر ١٢/٥/
٢٠٠٢م) :» إنّ خيارات الحركة محدودة، وقوتها العسكرية معرَّضة للتراجع
مع تحسُّن موقف الحكومة بتدفق العائدات النفطية «.
- سيعزز وضع الحكومة الدولي عبر تأسيس شراكات وتحالفات ومصالح مع
الدول المؤثرة إقليمياً وعالمياً.
- سيحرك اللوبي الاقتصادي والنفط الأمريكي في سبيل تغيير السياسة
الأمريكية تجاه السودان؛ بما يضمن له مصالحه النفطية. وهو ما كان يعنيه
المبعوث الأمريكي (دانفورث) عندما صرح في ٢٠/٧/٢٠٠٢م قائلاً:» إنّ
نجاح محادثات السلام في نيروبي؛ سيحوّل السودان من منطقة نزاع إلى مصدر
رئيسي للنفط « ... إنها رياح المصالح (العاصفة) التي تسير بها سفينة السياسة
الأمريكية.
* ماذا وراء المبادرات الأمريكية؟
بدأت أول مبادرة أمريكية حول حرب الجنوب في ديسمبر ١٩٨٩م بنيروبي
رعاها الرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) ، ومنذ ذلك الحين تعدّدت المبادرات
والمبعوثون الأمريكيون: هيرمان كوهين.. جورج موس.. ميلسيا ويلز ... هاري
جونستون ... جيفري ميلينغتون.. وغيرهم. وهي مبادرات لم تتمخض عن شيء
يُذكر سوى المزيد من تجريم الحكومة وفتح خطوط للإغاثة (الموجَّهة) ومتابعة
أحوال النصارى وحمايتهم.
إنّ موقف الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه السودان يتشكل تحت تأثيرات عدة:
- تيار (اليمين الديني والجمعيات الأصولية النصرانية) وهي قاعدة الحزب
الجماهيرية التي تؤثر عبر الكونجرس ومجلس النواب ومؤسساتها الإعلامية
والمنظمات التي تديرها وأعضائها في الإدارة، وهذا التيار ذو دور قوي ومؤثر.
ومن رَحِمِه خرجت مبادرات عدةٌ منها:
- مشروع (سلام السودان) الذي أُجيز في مجلس النواب في مايو ٢٠٠١م
الذي يُوصِي بالدعم المباشر (العسكري) و (المدني) لحركة التمرد، والضغط
على الحكومة، وصيانة الحريات الدينية، ومنع معاقبة الشركات الأمريكية العاملة
في نفط السودان، وقد أيّدت الحكومة بنود المشروع، ولكنها تحفظت على بند
العقوبات ضد الشركات مما أدى إلى إبعاده.
- تعيين القس الأمريكي (جون دانفورث) في سبتمبر ٢٠٠١م جاء بضغط
من (لجنة حماية الحريات الدينية بالكونجرس) وهي إحدى أذرع تيار اليمين
الأصولي الأمريكي.
- مجموعات الضغط الصهيونية التي تسعى لدعم (الحركة) والتمكين
لمشروعها (الحالم) في السودان، وإعدادها (كحليف إفريقي) لإسرائيل في منطقة
استراتيجية وهامة؛ حتى لقد غدا شأن (جنوب السودان) مادة يتقرّب بها الرئيس
بوش لليهود في ٣/٥/٢٠٠١م عندما شبه معاناة الجنوبيين في السودان بمعاناة اليهود
في مطلع القرن السادس عشر ... ثم تعهد بدعمهم.
- اللوبي الاقتصادي والنفطي الذي يهمه في المقام الأول دخول السوق
السودانية النفطية، وتوسيع استثماراته. ومما يوسع مساحة تأثير هذا التيار أنّ
الإدارة الحالية (بوش ونائبه) تنتمي لهذه المجموعة ... لقد كان هذا اللوبي وراء:
- إسقاط مشروع (سلام السودان) في مرحلة العرض على الكونجرس.
- مشروع (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية) في مارس ٢٠٠١م
(والذي أعده خمسون خبيراً) عن السلام في السودان. وفكرته الأساسية هو قيام
دولة واحدة بنظامين ودستورين، واقتسام السلطة والثروة (النفط) بين الحكومة
والحركة بالإضافة إلى حماية الحريات الدينية.
- مجموعة الأمريكيين السود التي تتأثر بما يُروّج عن دعاوى الاستعباد
والرق والسُّخرة لمواطني جنوب السودان وهذه المجموعة تعمل بالتضامن مع اليمين
الديني.
* المفاوضات قبل مشاكوس:
أول لقاء جمع بين (حكومة الإنقاذ) و (الحركة الشعبية) كان عبر المبادرة
الإثيوبية في أغسطس ١٩٨٩م تلاها المبادرات النيجيرية (أبوجا الأولى ١٩٩٢م)
و (الثانية ١٩٩٣م) ثم ظهرت مبادرات الإيقاد في سبتمبر ١٩٩٣م.
وقد قبلت الحكومة طمعاً في ضغط دول الجوار على (الحركة) حينما كانوا
على وفاق مع الحكومة، وفي ظل غياب دور عربي أو إسلامي آخر.
في مايو ١٩٩٤م تقدّم وفد الحركة لأول مرة بمقترح (تقرير المصير) الذي
ضمن في مقترح الوسطاء الذي سمي بـ (إعلان المبادئ) وقد رفضته الحكومة
في حينه. وحينما وافقت الحكومة على (إعلان المبادئ) في جولة أكتوبر ١٩٩٧م
طرح وفد الحركة مقترح الكونفدرالية وقضية توسيع حدود الجنوب؛ وهو ما
رفضته الحكومة أيضاً.
* حقيقة تفاهم مشاكوس:
قبيل إبرام الاتفاق كانت الأمور تسير وكأنها موعودة بشيء جديد، وأنّ هذه
الجولة ليست كباقي الجولات؛ فالرئيس السوداني ومستشاره للسلام ووزير
الخارجية السوداني أبدوا تفاؤلاً بلا تحفظ على نجاح هذه المفاوضات (مثلاً الرأي
العام ١/٧/٢٠٠٢م) ، وتحدث قادة الحركة عن إمكانية أن يقبلوا دولة بنظامين في
أكثر من مناسبة مثلاً (ياسر عرمان) الناطق الرسمي لحركة التمرد في لقاء الشرق
الأوسط ٥/٧/٢٠٠٢م أما الولايات المتحدة فقد صرح وزير خارجيتها (كولن باول)
في ١/٧/٢٠٠٢م لقناة FOX قائلاً:» إنّ واشنطن تدفع بقوة لإنهاء الحرب في
السودان عبر المفاوضات الجارية الآن في نيروبي «وفي جلسة استماع أمام
(اللجنة الفرعية للشؤون الإفريقية) بالكونجرس الأمريكي في ١١/٧/٢٠٠٢م تحدث
(وولتر كانشتاينر) مساعد وزير الخارجية للشؤون الإفريقية عن أنّ» المفاوضات
الجارية الآن في نيروبي تمثل فرصة إيجابية للغاية لتحقيق السلام في السودان «.
لقد تعزز الموقف الأمريكي بعد نجاح وقف إطلاق النار واتفاق جبال النوبة
في ١٩/١/٢٠٠٢م برعاية (دانفورث) وتمّ نشر الوجود الأمريكي في جبال النوبة
تحت مسمى: (لجان المراقبة والإغاثة) كخطوة أولى للمبادرة الأمريكية، أما
الخطوة الثانية فكانت جنوب السودان عبر (مشاكوس) .
إن مقترح (مشروع التفاهم) صاغه خبير القانون الدستوري الجنوب إفريقي
(نيكولاس هيسن) الذي حضر بصفة مستشار، وقدمه المبعوث الكيني الجنرال
(لازروس سومبابو) الذي هدد بأن الطرف الذي سيرفض التوقيع سيتحمل تبعات
ذلك؛ وهكذا وقع الطرفان مشروع (التفاهم) الذي لونه وريحه وطعمه أمريكي،
وهو لا يختلف كثيراً عن (مركز الدراسات الاستراتيجية) بواشنطن ولا عن
المسودة التي قدمها السياسي الجنوبي المتعاطف مع الحركة أبيل ألير في أغسطس
٢٠٠٠م وهو ما صرح به (دانفورث) للصحافة في ١٧/٢/٢٠٠٢م وهو طرح
الحركة تقريباً لولا الصياغة (اللطيفة) التي تجنبت المصطلحات المثيرة.
أما الاتفاق فقد كان ضبابياً ومبهماً؛ إلى الحدّ الذي تضاربت فيه تفسيرات
أعضاء الوفد الواحد، وأصبحت له أكثر من قراءة، وعلى كل حال فهو يتضمن
ثلاث قضايا:
١ - علاقة الدين بالدولة (الشريعة والدستور) .
٢ - تقرير المصير (الانفصال) .
٣ - الفترة الانتقالية وهيكلة السلطة.
* علاقة الدين بالدولة في (مشاكوس) :
لقد قال المبعوث الأمريكي (دانفورث) في٢٠/١/٢٠٠٢م إنه» لا يتوقع قيام
دولة علمانية في السودان، والمطلوب هو الحفاظ على حقوق غير المسلمين «..
وعلى هذا فأمريكا يمكن أن تقبل بدولة (غير علمانية) في السودان، ولكن تحت
شرط (واسع) هو الحفاظ على حقوق غير المسلمين.
أما (الحركة) فقد تقبل بقيام (الشريعة) في الشمال بشروط:
أولاً: أن يكون ذلك في ظل (كونفدرالية) : دولة بنظامين ودستورين وإدارتين.
وثانياً: أن يكون الدستور الاتحادي علمانياً.
وثالثاً: أن تكون العاصمة الاتحادية علمانية (في تصريح قرنق نفسه في ١٦/٥/
٢٠٠٠م) و (الحكومة) قدمت كل ما يمكن أن تقدمه فدستور السودان لعام ١٩٩٨م
(المواد ٢١، ٢٤، ٢٥، ٢٧، ٣٧) قد أعطى (بسخاء) كل حقوق التساوي
وحرية العقيدة والعبادة والفكر والتنصير والدعوة والمجموعات الثقافية ومنع التمييز
بحسب الدين والسكوت عن دين الرئيس. واتفاقية الخرطوم للسلام الموقعة في
أبريل ١٩٩٧م مع ست فصائل جنوبية قد استثنى الجنوب من أحكام (الشريعة)
المادة (٥ ب) . والحقيقة أنّ الأحكام المعمول بها في دستور ١٩٩٨م التي ينصّ
الدستور على أن مصدرها هو (الشريعة الإسلامية) لا تمثل ما يتطلَّع إليه
المسلمون من إقامة شرع الله لا تقنيناً ولا تنفيذاً؛ وإنّ من الرزية أن يهزأ مثل هذا
المتمرد (قرنق) بعقائد المسلمين فيقول في تصريح له نشرته صحف الخرطوم في
٩/٨/٢٠٠٢م:» لقد تم حسم أمر الشريعة رغم أننا كنا نريد استبعادها، لكن
الوضع تغير فأصبح تطبيق الشريعة في الشمال أمراً يخص الشماليين وعليهم أن
يكونوا جادّين في ذلك «.
وبحسب (الاتفاقية) فإنّ علاقة (الدين بالدولة) تكونت من قضيتين:
أولاً: قسم يتعلق بالحقوق والواجبات (البند ٦) وهذا بند واضح يماثل ما
جاء في دستور ١٩٨٨م مع تفصيل زائد.
ثانياً: قسم يتعلق بالدستور (البند ٣) وهو نص (رمادي) يحتمل التأويلات:
فالفقرة (١) تتحدث عن (دستور قومي أعلى) يجب أن يتوافق مع كل القوانين.
والفقرة (٢) تتحدث عن (تشريعات وطنية) إذا طبقت خارج الجنوب (باقي
السودان) فمصدرها الشريعة واجتماع الشعب ... وإذا طبقت في الجنوب فمصدرها
إجماع الشعب والعادات. وتتحدث نقطة تالية عن (التشريعات الوطنية ذات
المصدر الديني) لولاية لا يدين غالبها به؛ فهذه إما أن تُغيّر عبر موافقة ثلثي
(مجلس الولايات) أو عبر مؤسسات في الولاية متماشية مع الدين فيها.
إن موضع الاتفاق في هذا (التفاهم) بين توضيحات وفدي الحركة والحكومة
هو أنّ الشمال يحكم (بالشريعة) الواردة في دستور ١٩٩٨م والجنوب بقوانين
(غير الشريعة) صادرة عن مؤسسات (أو جهات) تكونها (الحركة الشعبية) مع
الجنوبيين.
أما موضع الاختلاف بين الوفدين فهو قائمة طويلة تبدأ من قضية وجود أو
عدم وجود (دستور اتحادي ثالث) ! ثم هل الدستور الاتحادي علماني أم إسلامي؟
وهل يعني إلغاء دستور ١٩٩٨م أم تعديله؟ وهل العاصمة القومية ستكون ضمن
الدستور العلماني أم (الإسلامي) ... إلخ.
وكيفما كانت تفاصيل الاتفاق على أهميتها فإنّ مجرد وجود (الحركة الشعبية)
في سدة السلطة الاتحادية بثقلها وثقل من يقف وراءها سيفرز واقعاً جديداً لا يمكن
التنبؤ بمآلاته. نسأل الله حسن العاقبة.
* مسألة الانفصال:
تتحدث الفقرة (٢٢) من (المنافستو) الذي خرجت به (الحركة الشعبية)
أول ظهورها:» لا بد من التأكد بأنّ هدف الحركة ليس هو فصل الجنوب عن
الشمال ... إنّ الجنوب سيظل أبداً جزءاً لا يتجزأ من السودان ... لقد تم تقطيع
أوصال القارة الإفريقية بواسطة المستعمرين في الماضي ... ولا تخدم الحركات
الانفصالية إلا أهداف أعداء القارة «وهذا النص في الواقع لا يعكس (الوحدوية)
التي يدعيها (قرنق) بقدر ما يعكس النزعة التوسعية لتسلطه التي يعبر عنها أحياناً
(بالسودان الجديد) ... إنّ معظم القادة الجنوبيين لا يمكن تسجيل رأي (واحد
ودائم) لأي منهم حول قضية الانفصال، وعندهم أنّ لكل مقام مقالاً ولكل حادث
حديثاً.. وفي الوقت الذي تتحدث فيه (الحركة) عن الوحدة فإنها تطالب بتقرير
المصير في سائر مفاوضاتها، و (الذي يرغب في الوحدة لا يطالب بتقرير
المصير) على حد تعبير السياسي الجنوبي (جناح الفصيل المتحد) د. لام أكول.
أما الكونفدرالية فقد طرحتها الحركة في (أبوجا الثانية) تم أعادت طرحها
مرة ثانية في جولة أكتوبر ١٩٩٧م عبر (الإيقاد) وبعدها قال قرنق (لصحيفة
الخرطوم ٧/١٢/١٩٩٧م) : إنّ (الكونفدرالية ليست من خياراتنا) وقال إنه جاء
بها لنسف المفاوضات.. ثم عاد ليقول في الذكرى (١٧) للحركة بتاريخ ١٦/٥/
٢٠٠٠م إنّ (الكونفدرالية هي الحل الأكثر نجاعة لمشكلة السودان) !
* خاتمة:
إنّ واحدة من أبرز مشكلات الجنوب سواء مع الوحدة أو الانفصال هو وجود
عشرات الفصائل الجنوبية ومئات القادة الميدانيين (الذين يسيطرون على آلاف
المقاتلين) والذين تختلف أعراقهم ومشاربهم وطموحاتهم وآراؤهم وهي أعقد بكثير
من أن تسعهم صياغة للحكم ولو كانت (سخيّة) كما هو واضح في دراسة قام بها
كاتبان: (جوك مادوت) و (شارون ألين) عن حرب الجنوب توصلت إلى أنّ
عدد الضحايا في الصراعات (الجنوبية الجنوبية) أكبر بكثير من ضحايا
الصراعات (الشمالية الجنوبية) .
ليس من شك أنّ لكل خيار من (الوحدة أو الانفصال) مخاطره ومحاذيره،
وأنّ صراعاً بهذا التعقيد يفتح مجالاًً واسعاً جداً (للاحتمالات والمفاجآت) التي كان
من آخرها قيام قوات المتمردين باقتحام مدينة توريت الاستراتيجية الحصينة بعد
قصف مكثف استمر لمدة يومين، وقد تم ذلك بأن زجّت حركة التمرد بما يزيد عن
تسعة آلاف من الجنود المدعومين بالدبابات ليتمكنوا من احتلال المدينة وقتل أعداد
كبيرة من القوات الحكومية والمتطوعين والاستيلاء على كميات من العتاد الحربي
والذخائر.
وبينما أعلنت الحكومة تعليق المفاوضات وطلب الرئيس البشير من الوفد
الحكومي الرجوع إلى الخرطوم احتجاجاً على هذه العملية فإن حركة التمرد اتهمت
الحكومة بالنكوص عن الاتفاقية والتهرب من التزاماتها، وأضافت إلى ذلك مطالبتها
بفصل الدين عن الدولة وتعريف حدود الجنوب إلى مناطق جنوب النيل الأزرق
والأنقسنا والميرم وأبياي في غرب كردفان وجبال النوبة، كما أكدت إصرارها
على تعيين مدينة ملكال عاصمة للاتحاد الكونفدرالي بين الشمال والجنوب.
إن هناك تخوفاً كبيراً أن تكون مشاكوس بداية (مشكلة) تأزم الموقف وأن
تدخل البلاد في دوامة أشد وأنكى يحمل تبعاتها أجيال بعد أجيال.
وعلى حكومة السودان الحرص واليقظة من غدر (قرنق وأتباعه) فالرجل
صاحب اتجاه مناوئ للسودان، وصاحب أيديولوجية صليبية، وهو مدعوم من
الغرب ومن أذنابهم في القارة ومهما تظاهر بالموضوعية وأدعى الوحدة فبرنامج
حركته انفصالي، وهجوم قواته بعد التفاهم يدل على نوايا خبيثة ومحاولة ضرب
وحدة الشعب السوداني.
ونعتقد بأن الاتحاد والوحدة بين فئات الشعب السوداني كفيلة بالقضاء على
مخططات المغرضين والحاقدين وأهل الأهواء وأعداء الاتجاه الإسلامي.