[سيف في العراق]
صلاح بن مختار بن محمد
كنت جالساً مع بعض أصحابي مشغولاً، وهم يتجاذبون أطراف الحديث، أسمع بعضه ويغيب عني أكثره.. حتى قال أحدهم: لقد أُعلن في الأخبار أن شخصاً عثر على سيف صلاح الدين في العراق وباعه دون علم بقيمته بخمس «دولارات» ، كان المتحف قد اشتراه «بمليون دولار» .
أحقاً أيها السيف! وأنت أيها المقبض! أيدنِّس ملمسَك اليوم توافٍهُ القوم، أم قد دارت عجلة الزمان بإذن الله، حتى تكون في يد الحثالة والرعاع، بعد أن كنت يوماً تهتز في يد العظماء، أو أنت من كان يوماً يشدُّ على مقبضك البطل الفذ صلاح الدين.. الأسد الذي زأر زأرةً زلزلت أقدام قوم تعاظموا حتى خالوا أنفسهم وحوشاً كبيرة، فعادوا حشراتٍ صغيرةً وضيعةً، لا مكان لها في النور، كتب عليها أن تعيش بين الحفر، ترتقب غفلة الأسد، لتطل برأس الشر على دنيا المجد وصفحات العز التي صنعها رجالٌ أفذاذ، وأبطال عظام تشرف بهم كتب التاريخ؟
حدثني أيا سيف! عن ذلك الهمام الذي صنع مجداً، ورسم عزاً، وحقق نصراً. حدثني عن الفاتح، فاتح القدس: كم خاض بك أيها السيف حتى يصارع المحال، وينزله من عليائه ليجعله واقعاً مشرقاً يرتوي منه كل واردٍ نهر التاريخ، فيرى عزة سطرتها سيوف مشهرات، ودماء زاكيات؛ بإيمان يصرع أعتى قوى الباطل.
حدثني عن هذا الرجل الذي خرج في زمنٍ طغت فيه الظلمات، وعمّت فيه الدويلات؛ فلم تكن هناك دولة تجمع شتات قوم فرقتهم دنيا زائلة، وكراسٍ فاتنة. خرج صلاح الدين ليغير ما بنفسه أولاً، فغير الله على يديه، أتى الكرامة من بابها متسلحاً بعقيدة الإيمان وبين جنبيه قلب أسد هصور، فجعل من هذا الضعف قوة، ومن تلك الفرقة صفاً واحداً، وبات يحمل همّاً يفوق ثقل الجبال على أكتافٍ شديدة لا تعبأ بجهد ما تحمل في سبيل مجدٍ منتظر، ونصرٍ مؤزَّر.
حدثني أيها السيف! أي شرف نلت حين عايشت عصوراً بلغت بك عنان السماء رفعةً وارتقاءً؟ وأي حالٍ صرت فيه الآن لترى أناساً ما عرفوا منك إلا مفاخرةً بقِدَمك، وازدهاءً بتراثك؟!
وما أنت أيها السيف اليوم إلا قطعة حديد لا قيمة لها، وهل خلّد اسم البتَّار إلا أن خير يدٍ على وجه الأرض هي من جعلته بتاراً؟ وهل أبقى اسم السكب في الكتب إلا أنها كانت خيلاً لأعظم فارس عرفه التاريخ محمد -صلى الله عليه وسلم -؛ فعَلامَ لوم القوم إن باعوك بلا قيمتك، أو حتى رَمَوْك؟ فما السيفُ إلا بيدٍ تحمله، ومجدٍ يصنعه.
وما تفيد يا ترى مائة سيف يحملها جبان. اتخذ السيف زينةً، به يباهي، وبعراقته يفتخر؛ فإذا ما أراده في شدة: ما يُعلم: أحاملٌ الرجلُ السيفَ؛ أم أن السيف يحمله؟
إيه.. يا سيف! وا أسفاه عليك! تعود لغمدك اليوم مدنساً بنظراتٍ وأيدٍ تلمست فيك شكلاً، ورأت فيك جمالاً، بعد أن كنت يوماً لا تنام في غمدك إلا وقد سُطِّرَت بك أمجاد.. وخُلِّدت بك أسماء!
إيه يا سيف! أوَ تذكر صفحة حطين؟ ستبقى مفتوحة في كتاب التاريخ ليقرأها رجالات هذا الزمان؛ أخبرهم أيها السيف! أن صلاح الدين استعاد القدس بعد أن تدنست إحدى وتسعين سنة في يد شرذمةٍ من الصليبيين اجتمعت على ضعف أمة في حين رقدة من أسودها؛ وقد عجز أبناء صلاح الدين اليوم عن تحريرها وقد مضى عليها سبع وخمسون سنة.. في براثن ثلةٍ نجسة.
أخبرهم أيها السيف المُغْمَّد! بأن الصبر قد طال والدمع تجمَّد، وأن الجرح ما زال ينزف والقلب تبَلَّد. أخبرهم أن لا مأمن لذئب، ولا وفاء عند الثعلب. قل لهم يا سيف! أين وجدوك. قل لهم عسى أن توقظ همةً نائمةً وضميراً مغتالاً قل لهم بأعلى صوتك: لقد وُجِدْتُ في أنقاض بغداد؛ وما يفي الكَلِم، وما تكفي المحابر، وما تتسع الأوراق للحديث عن بغداد.
أيها السيف! ألا فلتبك لو استطعت البكاء؛ وما بكاء الحديد إلا لظى ونار، ولْتبك على أبناء الأسود، ولتبك على قوم أضاعوك كما أضاعوا مجدهم، وتناسوك كما نسوا أنفسهم، ولو زأر أحدهم لبى له الدهر، وأجابت له الدنيا؛ ولكن..
ولكن خفي الزئير..