للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات قرآنية

مصادر التفسير

(٤)

تفسير الصحابة للقرآن

- الحلقة الثانية -

بقلم: مساعد بن سليمان الطيار

كانت الحلقة السابقة هي الأولى من تفسير الصحابة، والرابعة من هذه

السلسلة، وقد تحدث فيها الكاتب عن: قدر الصحابة، ثم عن أهمية تفسيرهم، ...

ويواصل في هذه الحلقة بقية الموضوع.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

مصادر الصحابة في التفسير:

للتفسير مرجعان:

الأول: ما يَرْجِعُ إلى النقل.

والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال [١] .

ويمكن توزيع مصادر الصحابة على هذين المرجعين؛ لأن تفاسير الصحابة:

منها ما يرجع إلى النقل، ومنها ما اعتمدوا فيه على استنباطهم، وهم فيه مجتهدون.

تفصيل مصادر الصحابة:

أولاً: ما يرجع إلى النقل، ويندرج تحته قسمان:

الأول: ما يرجع إلى المشاهدة، وتحته ما يلي:

١- أسباب النزول.

٢- أحوال من نزل فيهم القرآن.

وهذان بينهما تلازم في حالة ما إذا كان سبب النزول متعلقاً بحال من أحوال

من نزل فيهم القرآن.

الثاني: ما يرجع إلى السماع، ويندرج تحته ما يلي:

١- ما يروونه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من التفسير النبوي الصريح.

٢- ما يرويه بعضهم عن بعض.

٣- ما يروونه من الغيبيّاتِ.

ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) ، ويندرج تحته ما يلي:

١- تفسير القرآن بالقرآن.

٢- تفسير القرآن بأقوال الرسول مما ليس نصّاً في التفسير.

٣- التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) .

٤- المحتملات المرادة في الخطاب القرآني، أو ما يرجع إلى احتمال النص

القرآني أكثر من معنى.

تفصيل هذه المصادر:

أولاً: ما يَرْجِعُ إلى النّقْلِ:

الأول: ما يتعلق بالمشاهدة:

ويعتبر هذا مما تميّز به الصحابة (رضي الله عنهم) ؛ لأن المشاهدة لا يمكن

أن تتأتّى لغيرهم؛ ولذا: فإن الأصل أن ما ورد من هذا الباب فإن مَحَلّهُ القبول بلا

خلاف.

ويدخل فيما يتعلق بالمشاهدة ما يلي:

١- أسباب النزول:

لقد سبق الحديث عن أن مشاهدتهم لأسباب النزول كانت من أهم أسباب

رجوع من جاء بعدهم إلى تفسيرهم، والاعتماد عليه في فهم الآية.

والمراد بسبب النزول: ما كان صريحاً في السببية، ويظهر ذلك من خلال

النصّ المروي في السبب؛ كأن يقول الصحابي: كان كذا وكذا فنزلت الآية، أو

يقع سؤال فينزل جوابه، أو غيرها مما يمكن معرفته من خلال النص بقرائن تدل

على السببية الصريحة.

٢- معرفة أحوال من نزل فيهم القرآن:

إن معرفة هذه الأحوال تفيد في درايتهم بقصة الآية، الذي هو أشبه بسبب

النزول، بحيث لو فقدت هذه المعرفة لوقع الخطأ في فهم المراد بالآية، كما وقع

لعروة بن الزبير (رضي الله عنه) في فهم قوله (تعالى) : [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن

شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] ... [البقرة: ١٥٨] .

قال عروة: (قلت لعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا يومئذ

حديث السّن أرأيتِ قول الله (تبارك وتعالى) : [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ

فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] [البقرة: ١٥٨] فما

أرى على أحدٍ شيئاً ألا يطّوف بهما.

فقالت عائشة: كَلاّ، لو كانت كما تقول كانت: (فلا جناح عليه أن لا يطوّف

بهما) ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يُهِلّون لمناة وكانت مناة حَذْوَ قُدَيدٍ

وكانوا يتحرّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: [إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ

فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..] [البقرة: ١٥٨] ) [٢] .

ويلحظ من هذا المثال: أن سبب النزول قد يكون من أجل حالٍ من أحوال من

نزل فيهم الخطاب من العرب أو اليهود، وبهذا يكون المثال صالحاً للتمثيل به في

الأمرين.

ومما نزل بسبب حال من أحوال اليهود، ما روى جابر (رضي الله عنه) قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: [نساؤُكُمْ

حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..] [البقرة: ٢٢٣] [٣] .

تنبيه:

للصحابة فيما يتعلق بالمشاهدة حالتان:

الأولى: أن يكون الصحابي ممن حضر سبب النزول، أو عايش الأحوال

التي نزل بشأنها القرآن، وهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث هنا.

الثانية: أن يكون سمعه من صحابي آخر، وبهذا فإنه يدخل في القسم الذي

بعده.

الثاني: ما يتعلق بالسماع:

يشمل هذا القسم كل الروايات التي يرويها الصحابي عن غيره، ويدخل في

هذا القسم ما يلي:

١- الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

والمراد به: ما يروونه من التفسير النبوي الصريح، وقد يقع تفسيره جواباً

لأسئلتهم، أو أن يفسّر لهم ابتداءً.

* ومن الأول: ما رواه مسلم في تفسير قوله (تعالى) : [.. لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ

عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ..] [التوبة: ١٠٨] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر

المسجد الذي أسس على التقوى؟ .

قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت

بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال:

فأخذ كفّاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لِمسجد

المدينة.

قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) [٤] .

* ومن الثاني: ما رواه البخاري عن أبي ذرّ، قال: (كنت مع النبي -صلى

الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين

تغيب الشمس؟ .

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله (تعالى) :

[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] ) [٥] .

٢- ما يرويه الصحابي عن الصحابي:

قد تكون الرواية عن الصحابي مجردة من السؤال، بحيث يورد الصحابي

تفسير الصحابي إيراداً من غير سؤال، أو تكون عن سؤالٍ؛ ومنه: ما رواه

البخاري عن ابن عباس في قوله (تعالى) : [.. وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] [التحريم: ٤] .

قال ابن عباس: أردت أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمكثت سنة، فلم أجد له موضعاً، حتى

خرجت معه حاجّاً، فلما كنّا بظهران ذهب عمر لحاجته، فقال: أدركني بالوضوء، فأدركته بالإداوة، فجعلت أسكب عليه، ورأيت موضعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا؟

قال ابن عباس: فما أتممت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة) [٦] .

ويدخل في باب الرواية: ما كان من أسباب النزول، أو أحوال من نزل فيهم

القرآن، إذا كان الصحابي لم يحضر السبب أو الحال، فإن طريقه في ذلك:

الرواية، وروايته مقبولة في ذلك، وإن لم ينسبها إلى من رواها له من الصحابة،

وذلك لأن الصحابة عدول باتفاق الأمة.

ويمكن التمثيل لهذا بما يرويه صغار الصحابة أو من تأخر إسلامهم من أحداثٍ

لم يحضروها أو يعاصروها.

ومن أمثلة ذلك: ما رواه: أبو هريرة، وابن عباس في تفسير قوله (تعالى) : ... [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] [الشعراء: ٢١٤] من أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- صعد الصفا، ونادى بطون قريش.. إلى آخر الحديث [٧] .

وذلك أن أبا هريرة أسلم في المدينة، وابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث

سنين، والحدث الذي يرويانه في تفسير الآية كان بمكة، وكان في أوائل سني

البعثة.

٣- ما يروونه من المغيّبات:

تشمل الأمور الغيبية ما مضى، وما سيكون، والأخبار الماضية إما أن يكون

مصدرها الرسول، وهذا هو المراد، وإما أن يكون مصدرها أهل الكتاب، وهذا

يدخل في البحث السابق.

أما الأخبار المستقبلية، فالغالب أنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،

وقد يرد منها ما هو عن أهل الكتاب.

وها هنا مسألة تحتاج إلى بحث، وهي: كيف نُميّزُ ما روي عن أهل الكتاب

مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ .

الجواب: (................) [*] .

هذا.. وما يُروى عن أهل الكتاب، فقد اصطلح العلماء على تسميته بـ

(الإسرائيليات) . وهي عند الصحابة على قسمين من حيث التحمّل في الرواية:

الأول: السماع منهم، وهذا يأخذونه عن بعض مسلمة أهل الكتاب: كابن

سلام من الصحابة، وكعب الأحبار وأبي الجلد من التابعين.

ويظهر من استقراء المرويات الإسرائيلية أن الصحابة لا يسندون مروياتهم

في الغالب مما يجعل الباحث لا يجزم بالأخذ المباشر عن مُسِلمةِ بني إسرائيل، بل

قد يكون مما اطّلعوا عليه وقرؤوه، والله أعلم.

ومن أمثلة الرواية عن عبد الله بن سلام: ما رواه ابن مُجلّز، قال: (جلس

ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد، لم تفقّده سليمان من بين الطير؟

فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسيرٍ له، فلم يَدْرِ ما بُعْدُ

الماء، فقال: من يعلم بُعْدَ الماء؟ ، قالوا: الهدهد، فذلك حين تفقّده) [٨] .

الثاني: ما يكون من طريق الوجادة، وهو ما يقرؤونه من كتب أهل الكتاب، كما حصل لعبد الله بن عمرو بن العاص من إصابته زاملتين فيها كتبٌ من كتب

أهل الكتاب [٩] .

اسْتِطْرَادٌ:

مما يحسن توجيه النظر إليه في هذا المبحث، أن بعض المعاصرين قد شنّ

غارة على وجود مرويات بني إسرائيل في تفسير الصحابة، وعدّ ذلك من عيوب

تفسيرهم.

والذي يجب التنبّه له أن الحديث عن الإسرائيليات يَطَال سلف الأمة من

المفسرين: صحابةً، وتابعين، ولقد كان هؤلاء أعلم الناس بالتفسير، وأعظم

الذائدين عن الدين كل تحريف وبطلان.

لقد تجوّز سلف هذه الأمة في رواية الإسرائيليات، أفلم يكونوا يعرفون حكم

روايتها ومنزلتها في التفسير؟ .

ألم يكونوا يميّزون هذه الإسرائيليات التي استطاع المتأخرون تمييزها؟ !

وإذا كان ذلك كذلك؟ فما الضرر من روايتها؟ .

ألا يكفي المفسر بأن يحكم على الخبر بأنه إسرائيلي، مما يجعله يتوقف في

قبول الخبر؟ .

إن بحث (الإسرائيليات) يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بمنهج سلف الأمة

في روايتهم لها، ومن أهم ما يجب بحثه في ذلك ما يلي:

١- جَمْعُ مروياتهم فيها، وجَعْلُ مرويات كل مفسرٍ على حِدَةٍ.

٢- محاولة معرفة طريق تحمّل المفسر لها، وكيفية أدائه لها، فهل كان

يكتفي بعرضها ثقةً منه بتلاميذه الناقلين عنه؟

أو هل كان ينقدها، ويبين لتلاميذه ما فيها؟

٣- ما مدى اعتماد المفسر عليها؟

وهل كان يذكرها على سبيل الرواية لما عنده في تفسير هذه الآية، من غير

نظر إلى صحة وضعف المروي؟

أوْ هل كان يرويها على سبيل الاستئناس بها في التفسير؟

أو هل يعتمد عليها، ويبني فهم الآية على ما يرويه منها؟

تلك المسائل وغيرها لا يتأتّى إلا بعد جمع المرويات، واستنطاقها لإبراز

جوابات هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يَثُورَ مع البحث.

ثم بعد هذا يمكن استنباط منهج السلف وموقفهم من الإسرائيليات في التفسير.

والله أعلم.


(١) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العلم: إما نقلٌ مُصَدّقٌ، وإما استدلال محقّقٌ) (مقدمة في أصول التفسير، ص٥٥) .
(٢) رواه البخاري (فتح الباري، ج٨ ص٢٤ ٢٥) .
(٣) رواه البخاري (فتح الباري، ج٨ ص٣٧) .
(٤) رواه مسلم في صحيحه (رقم ١٣٩٨) .
(٥) انظر: البخاري (فتح الباري، ج٨ ص٤٠٢) .
(٦) رواه البخاري (فتح الباري، ج٨ ص٥٢٧) .
(٧) انظر روايتهما في: صحيح البخاري (فتح الباري، ج٨ ص ٣٦٠) .
(*) جواب هذا السؤال يحتاج بحثاً خاصّاً، والمراد هنا الإشارة إلى هذا الإشكال فقط.
(٨) تفسير الطبري، ج١٩ ص ١٤٣ وانظر: سؤال ابن عباس لأبي الجلد في تفسير الطبري: ج١ ص ١٥١، ١٣، ١٢٣.
(٩) رواه البخاري (فتح الباري، ج١ ص١٦٧) .