للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القنبلة البشرية المؤقتة

في حوض البحر الأبيض المتوسط

إعداد وتعليق: قسم الترجمة بالمجلة

نشرت صحيفة (الديلي تلغراف) مقالاً بعنوان (القنبلة السكانية المؤقتة في

حوض المتوسط) تناول فيه كاتبه هذه القضية التي تقض مضاجع الغرب وهي

الزيادة السكانية الكبيرة بالنسبة للدول التي تقع شرق وجنوب المتوسط، وتراجعها

في الدول التي تقع شماله.

تكشف الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة عن أعراض أزمة في

طور التكوين تتعدى حدود الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل بكثير، وتمس الأزمة

كل قطر من أقطار المتوسط غير الأوربية من المغرب إلى البوسفور متزايدة في

تأمين متطلبات أجيالها الناشئة.

لا شك أن زيادة عمق الهوة بين الدول الغنية في الشمال، والدول النامية

والفقيرة في جنوب المتوسط سوف تؤثر على توازن دول حلف الأطلسي

والمجموعة الأوربية التي تملك كلها مصالح مباشرة في المنطقة.

أما بالنسبة للفلسطينيين فالأرقام مذهلة حقاً، فالشريط الساحلي المتداعي الواقع

في واجهة البحر المتوسط المعروف بقطاع غزة كان ولا يزال مرشحًا لمدة طويلة

ليكون إحدى الشرائح الأرضية المنسية الأكثر كثافة سكانية على وجه المعمورة،

فقد تضاعف عدد السكان فيه منذ١٩٤٨ ثلاث مرات من (٢٠٠) ألف إلى (٦٠٠)

ألف تقل أعمار نصفهم عن الرابعة عشرة، وبعد أن تقلصت محاصيل الفاكهة على

الصعيد المحلي لم يبق من موارد الدخل إلا ما يجلبه ما يقرب من (٤٠) ألف عامل

يضطرون كل يوم للانتقال إلى إسرائيل - ومعظمهم بطرق غير قانونية، وكذلك

من التبرعات التي تهبهم إياها وكالة غوث اللاجئين الأونروا unrwa.

هذا ويتفق الخبراء العرب والإسرائيليون على أن الفلسطينيين الواقعين تحت

الاحتلال الإسرائيلي سيتساوى عددهم مع الإسرائيليين في غضون ٢٠ - ٢٥ سنة

قادمة.

ويزيد هذا التنبؤ في تعقيد ما يسميه (ميرون بن فينيستي) المساعد السابق

لرئيس بلدية القدس والرئيس الحالي لمشروع تجيمع المعطيات عن الضفة الغربية:

(الأزمة والحيرة القاسية) لدى إسرائيل. فهو يرى أن إسرائيل لم تكسب حدوداً

استراتيجية مناسبة لأول مرة في حرب الأيام الستة إلا لتجد نفسها أمام مشكلة

السكان العرب في الأراضي التي أخضعت لها والذين يتزايد تهديدهم لفكرة

(إسرائيل) ذاتها كدولة يهودية.

لا يمكن فصل اقتصاد الأراضي المحتلة عن اقتصاد إسرائيل أبداً، إذ إنهما

متشابكان إلى أبعد الحدود. فإسرائيل في حاجة إلى اليد العاملة العربية التي يفوق

عددها (١٠٠) ألف عامل يشتغل الكثير منهم (في مهن حقيرة) يترفع عنها

الإسرائيليون عادة، وتحتاج الصناعة الإسرائيلية سوقاً فلسطينية لاستهلاك بضائعها

المتنوعة ابتداء م+ن الأغذية المعلبة إلى معجون الأسنان.

ويتماثل هذا التزايد السكاني في فلسطين مع الحال في كل من بلاد الشام

وشمال أفريقيا، وقد أوضحت ذلك بشكل جلي الدراسة التي قام بها برنامج الأمم

المتحدة للبيئة حول ما يتوقع بالنسبة للخمسين سنة المقبلة عندما نشر (خطته

الزرقاء) في أثينا في الخريف السابق، حيث برهن التقرير على أن ثلثي سكان

البحر الأبيض المتوسط في الخمسينات كانوا أوربيين منتشرين في الدول الممتدة من

مضيق جبل طارق إلى مضيق البوسفور، غير أن هذه الصورة ستنعكس بحلول

(٢٠٢٥) وسيصبح البحر المتوسط في غضون عشر سنوات من الآن بحراً إسلإمياً، إن لم يكن عربياً، السيناريو الذي طالما توجس منه مستشارو شارلمان خيفة.

وقد أدى هذا التنبؤ بأعضاء بارزين من دول المجموعة الأوربية التي تطل

على البحر الأبيض المتوسط إلى المناداة لاتخاذ تدابير فورية، فالإيطاليون في ... حالة هلع من إمكانية تدهور اقتصاد بلدان البحر الأبيض المتوسط الجديدة المرتبطة بازدياد عدد سكانها، حيث إن هذا يعني تقلصاً لأسواق دول الشمال الكائنة بجوار جيران تعم بينهم البلبلة، وقد اقترح (فرانكو رافيليو) رئيس إدارة الطاقة في إيطاليا أن تستثمر الدول الشمالية (٣٠) مليار دولار من رصيد الأرباح الناجمة عن انخفاض أسعار النفط في إطار مشروع شبيه بمشروع مارشال لتدعيم الأنظمة الاقتصادية في دول البحر الأبيض المتوسط. وقد صرح (بييرو باسيتى) - وهو وزير سابق للصناعة - قائلاً: (إن ما نشاهده حالياً في البحر المتوسط قد يجعل المباحثات بين الشرق والغرب تبدو كأنها صفحة مطوية من فصول التاريخ) .

وتواجه اليونان حالياً مسألة تجمد عدد سكانها -إن لم نقل: ظهور علامات

تقلصهم -في حين يزداد عدد سكان خصمها اللدود - تركيا - بشكل مطرد. وسوف

تصبح كل من تركيا ومصر في غضون (٢٥) عاماً قوتين عظيمتين في المنطقة من

الناحية البشرية، حيث سيزداد عدد سكان كل منهما آنذاك على (١٠٠) مليون نسمة.

إن التركيبة السياسية المعقدة القابلة للانفجار والناجمة عن فقدان التوازن في

الأرقام تتجسد بخطوة مكشوفة في لبنان، فعلى مدى (٤٥) سنة منذ أن وزعت

السلطة والمناصب على الأقليات حسب الحجم تحت بنود الميثاق الوطني المبرم في

١٩٤٣ تمكن الشيعة من الانتقال من المرتبة الثالثة إلى المرتبة الأولى ليصبحوا

أكبر طائفة دينية في البلد.

تترعرع في بيروت في الوقت الحاضر نزعة دينية متطرفة من جراء الفقر

والفوضى اللذين يشكلان البيئة المثالية لتفشي التعصب الديني والعقائدي على حساب

التعقل والتسامح! ! فمثل هذه التطورات ليست بالضرورة من صنع التدخل

الخارجي البعيد العهد في شئون البلاد من طرف (الملالي) في طهران وقم. إذ

يشير ظهور الحجاب والشادور واليشمك على رءوس الشابات في إسطمبول

والقاهرة وتونس إلى أن الطريق نحو التعصب الديني نابع من أماكن شتى.

من بين جوانب الاضطرابات الأخيرة التي قام بها الفلسطينيون في الأراضي

المحتلة القوة المتزايدة للمتعصبين الإسلاميين! ! مما يبعث على الأسف في صفوف

أنصار فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. إن مكونات النقمة على بواعثها لا تخفى

على من له نظرة أقل تبصراً من نظرة السيد (ديفيد ميلر) . ويبعث منظر عمارات

غزة الممتدة بغير اتساق ولا انتظام في الذهن صورة يمكن تعميمها على بقية البلدان

الجديدة في البحر الأبيض المتوسط.

في العشرين سنة القادمة (ستغطى أكثر من أربعة أخماس السواحل بمساكن لإسكان (٢٠٠) مليون مقيم، ومنتجعات سياحية من أجل الغزوات السنوية لأكثر

من (٥٠٠) مليون سائح، وسيغلب على الشكل الجديد لسواحل البحر المتوسط ... طابع المدن المكتظة بالسكان وهو أمر بعيد كل البعد عن التصور الأسطوري لبلاد الرعاة وصيادي السمك في أركاديا arcady.

إن تحديث الزراعة وإدخال التقنية عليها سيجعل مدن حوض المتوسط تنتفخ

بالسكان الوافدين بالإضافة إلى تزايد سكانها الأصليين، فمثلاً تستوعب إسطمبول

سنوياً - رغم أنفها - ثلث مليون من المهاجرين المتقاطرين عليها من القرى، وبما

أن فرص العمل تتقلص كل يوم فإن الكثير يكسبون لقمة عيش لا تكاد تسد الرمق

بعد جهد وعناء في ممارسة (الأعمال الهامشية) مثل تلميع الأحذية، وكنس

الطرقات، وغسل السيارات، وحمل الأمتعة.

إن أحوالاً كهذه من شأنها أن ترسخ المخاوف حول مدى قدرة بلدان البحر

المتوسط غير الأوربية على تطوير وتوسيع أسواقها.

وقد كاشفني (عز الدين جسوس) - الوزير المغربي المكلف بالعلاقات

المغربية بالسوق الأوربية المشتركة - بهذا الواقع المر دون لف أو دوران، فقد

صرح بأن بلده يهدف إلى تحسين علاقاته مع بلدان السوق الأوربية المشتركة ويحلم

في أحسن الحالات بالانضمام التام إليها إذ إن دخول إسبانيا والبرتغال السوق

الأوربية قد وضع المغرب أمام خطر فقدان سوق لترويج ما يعادل مليون طن من

المنتجات الزراعية والحمضيات.

وقد اختتم كلامه قائلاً: (لا يمكن أن يتحول البحر الأبيض المتوسط - وهو

أكبر الممرات التجارية في التاريخ - إلى طريق مسدود، فقد سبق أن أدت محاولة

ذلك في الماضي إلى الحرب) .

وإذا تركنا جانباً إسهاب) الخطة الزرقاء (في الجانب الاجتماعي فإن توقعاتها

لمصير البحر الأبيض المتوسط تذكر المرء بشكل عجيب بالسيناريو الذي رسم

خطوطه بوليبيوس، الذي سبق ليفي حول الاصطدام بين القوتين العظميين شمال

وجنوب البحر الأبيض المتوسط روما وقرطاج: الحرب البونية الأولى First

punic war

الديلي تلغراف ١٩ /١/١٩٨٨

تعليق على المقال

هذا المقال يعطي صورة واضحة لا غموض فيها عن نظرة أعداء الإسلام

بشكل عام، والغربيين بشكل خاص؛ إلى التكاثر السكاني عند المسلمين، ويعكس

النظرة الضيقة المتعصبة المخالفة لكل ادعاءات التحضر والحياد العلمي الذي يزعمه

من يتناولون القضايا الإسلامية بالبحث والتعليق.

ويأتي هذا المقال في وقت تصدر فيه دراسات كثيرة كلها تدق نواقيس الخطر

في الغرب للبحث عن حل لمشكلة زيادة السكان في البلاد الإسلامية، وخصوصاً

القريب منها من أوربا، ويرد موازياً للدراسات والتقارير الصادرة من اليهود سواء

داخل إسرائيل أو خارجها، ويجد له مناسبة في الأجواء السائدة الآن في فلسطين

المحتلة والتي وجد العدو فيها نفسه في مأزق حقيقي أبرز مظاهره الزيادة السكانية

المتصاعدة والمتسارعة في صفوف الفلسطينيين، يقابلها تراجع في نسبة الزيادة

عند المغتصبين اليهود.

وإذا كانت أغلب الدراسات في هذا الموضوع تؤكد على المقارنة بين العرب

واليهود للبحث عن حل إقليمي على مستوى فلسطين وماحولها فقط؛ فإن هذا المقال

يضع المقارنة بين العرب واليهود في إطار القضية الأوسع والأعمق، ويعتبرها

جزءاً من مشكلة ذات أبعاد تتعلق بالصراع الدائم بين الإسلام والصليبية الأوربية

الوثنية تحديداً..

ونتيجة لهذه النظرة فإن الغربيين يرعبهم أن يعود البحر المتوسط بحراً

إسلامياً، ويؤلمهم أن يختل التوازن الذي أرادوه لهذه المنطقة التي جعلوها مجالاً

للتنافس فيما بينهم، ومضماراً لجشعهم وشرههم.

إن بواعث التعصب والعنصرية وحب السيطرة والتعالي التي تحكم آراء

الغربيين تجاه المسلمين واضحة من خلال كلمات هذا المقال، فبينما نراه يتحسر

على الوضع الذي أراده الغرب للبنان؛ نجده يأسى بمرارة لمشاهد لابسات الحجاب

والشادر واليشمك (البرقع) في العواصم الإسلامية، وكذلك إن جهاد أهل فلسطين

وهم في غالبيتهم مسلمون على مدى ثلاثة أرباع القرن ضد الاستعمار البريطاني

وضد الاستيطان اليهودي لم يعره كاتب المقال بالاً، حتى آلمته وأوجعته الأخبار

الجديدة التي نقلت إليه وإلى غيره (القوة المتزايدة للمتعصبين المسلمين! !) .

واختصاراً فإن مما تجدر ملاحظته في هذا المقال أنه:

١- خطاب موجه بالدرجة الأولى إلى الدول التي يهمها أن يبقى المسلمون

ضعفاء على كل المستويات، ونذير خطر لها كي تبذل ما في وسعها لعلاج هذا

الأمر الخطير.

٢ - وأنه يشير بطريق غير مباشر، وبما لا يدع مجالاً للشك، إلى أن الذي

يشجع قضايا تحديد النسل والحد من الزيادة السكانية بين المسلمين، وتشجيع

الدعوات العاملة على ذلك تحت شعارات كثيرة مثل: (تنظيم الأسرة) ، (تنظيم

المجتمع) ؟ (تخطيط الأسرة) إلى غير ذلك من الشعارات الكثيرة.. نقول:

إن الذي يشجع على ذلك هم أعداء للإسلام والمسلمين ويخدمون أفكار مصاصي

دماء الشعوب من المتعصبين الأوربيين، علموا بذلك أو جهلوه.

٣ - إن هذا المقال مثال على قصر نظر السياسات الاستعمارية المادية التي

تقيس كل شيء قياساً مادياً رقمياً، وتبني توقعاتها على ما يقدمه إليها (العلم الجامد)

الذي اتخذوه إلهاً يعبد من دون الله، غافلين عن أن قوانين الحياة ليست بهذا الجمود، وأن الصراع لا يحسم لمصلحة من يملك المال والسلاح فقط في مواجهة من لا

يملكها؛ بل إن فضل الله وعونه يشتمل على أمور كثيرة بالإضافة إلى المال

والسلاح اللذين - إذا لم يضف إليهما التواضع والرحمة والشكر - يتحولان إلى أداة

تقتل صاحبها..

إن الغربيين - مع اعترافنا لهم بأنهم كشفوا كثيراً من الأمور التي كانت

مجهولة، وسخروا المادة في خدمة الإنسان، وتفوقوا على غيرهم في دراسة

الظواهر الكونية والطبيعية - لهم منطقهم الخاص القاصر في فهم التاريخ وفي فهم

حقائق الصراع البشري، وهم والمسلمون على طرفي نقيض، فالمسلمون لهم

منطقهم الذي تعلموه من كتاب ربهم الذي يقول: [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ

ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) ولِيُمَحِّصَ

اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [آل عمران: ١٤٠-١٤١] .