للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

قصة قصيرة

[ثم انتبهت]

بقلم: نورة بنت سعيد الصفار

الشمس تلم أشعتها راحلة نحو الغروب، والحديقة الكبيرة في القصر الواسع

ضجت بأصوات الطيور العائدة إلى أعشاشها، والظلام بدأ ينشر أجنحته على الكون، فأنيرت الأضواء في القصر الفخم، وانتشرت روائح العطور مع الزهور يحملها

هواء هادئ.

فتحت البوابة ودلفت سيارة كبيرة فخمة، فوقفت، وخرج منها رجل يظهر

للرائي كأنه في الثلاثين من عمره إلا أنه تجاوز الخمسين، دلف إلى منزله وكان

ضائق النفس، فقد خسر صفقة كانت ستدر عليه أرباحاً طائلة، ولكن ... ها قد

انتهى حلمه بالنسبة لها ... على العموم لن تكون أول ولا آخر صفقة، فالأيام طويلة

والحياة لا زالت تفتح له ذراعيها بكل جمالها، هكذا خاطب نفسه وهو متجه إلى

غرفته، وفتح جهاز التكييف، واستلقى على سريره فالحر شديد، آه هذا كتيب

جديد.. نعم لا بد أنه من ابني (المعاملات الربوية) لقد بلغت به الجرأة بأن يتهمني

بالربا، هذا الولد العاق الأحمق المعقد الذي يترك أحسن الجامعات الأوروبية التي

عرضت عليه.

ألقى الكتاب بعيداً، وفتح جهاز التسجيل ليستمع إلى موسيقى هادئة قد تساعد

على نومه! لكنه سمع من بعيد صوت الأذان فتردد في إغلاق جهاز التسجيل،

وأخيراً قرر أن يغلقه بنفسه، ثم راح يفكر: هل يذهب إلى الصلاة أم لا ... همس

في أعماقه بأنه أحسن من غيره؛ فهو أحياناً يصلي مع الجماعة وكثيراً جداً يصلي

في البيت، وهناك من لا يصلون أبداً، فهو أحسن منهم بالطبع.

ارتاحت نفسه لهذا الخاطر، استرخى وأخذ يفكر في المستقبل، وتذكر آخر

رحلة له فابتسم.. تذكر آخر فتاة قابلها كانت تظنه شاباً ودهشت حين علمت أن له

من الأولاد عشرة أغلبهم متزوج وفي الجامعات، فامتلأ نشوة وفرحاً ... آه ما أجمل

الدنيا، ما أجمل السفر والتلذذ بالمناظر بـ (الكازينوهات) وما فيها! أطلق لنفسه

عنان الأحلام وراح يسبح في بحيرة الأوهام فأخذته وطارت به بعيداً فغرق في

سبات عميق.

ولم يفق إلا على صوت مريع هز الدنيا كلها واضطربت السماوات والأرض، أحس أنه في مكان ضيق لا يستطيع الحراك منه، إلا أن المكان اضطرب

اضطراباً شديداً لسماع الصوت المفزع، فانفرج فخرج منه أشعث أغبر عارياً،

كان الصوت مفزعاً مريعاً يكاد يمزقه، أحس أن أحشاءه تقطعت وأن عروقه

انفجرت.

الفزع العظيم يتجلى في عينيه ولم ينتبه إلا وهو خارج ذلك الشيء الذي

عرف فيما بعد أنه قبره ... الصوت لا زال يدوي في أعماقه: الخوف من كل شيء

حوله، صار كالمجنون يدور ويبحث عن شيء يختبئ فيه، تمنى لو يموت ويرتاح

من هذا الفزع ولكن هيهات أن يتسنى له ذلك فلا موت بعد اليوم، أراد أن يختبئ

في أعماق الأرض فإذا هي تمور ... ركض قاصداً كهوف الجبال فإذا هي تسير

وتتفتت وتطير.

كان يدور ويذهب ويجيء والآلام تحوطه، يبحث عن شيء لا يعرفه، وبعد

أن أضناه التعب علم أنه يبحث عن نفسه فوجدها كامنة في جسمه، تحسس عظامه

وأعضاءه فعلم أنه هو.. فخر صعقاً، وحينما أفاق تحسس الوخزة في قلبه فتذكر

الدنيا.. قبل قليل كنت في غرفتي الهادئة وعلى سريري الجميل.. المريح.. ماذا

حدث الآن؟ هل هذه هي الآخرة؟ ! ما أسرع أيام الدنيا كأنني ما مكثت فيها غير

ساعة، يا ويلتاه إن كانت هذه هي الآخرة؛ لأنني لم أتزود لها.. يا حسرة على ما

فرطت في جنب الله.

حينما كان يحدث نفسه وهو يجري سقط في حشد من الناس الساقطين فمشى

عليه حشد من الناس الزائغين.. المسرعين، وكلما حاول النهوض سقط، وبعد مدة

من الزمان ظنها أعواماً استطاع أن ينهض.. كانت الشمس قد اقتربت من الأرض

أكثر، فأصبحت الأرض كالجمرة تحرق قدميه وهو يحاول أن يرفعهما عنها..

أحس أن دماغه يغلي من الشمس، العرق يتصبب من جسمه، والعطش بلغ به

منتهاه، حوله خلق غارقون في بحار من العرق يحاولون التنفس، فجزع لمنظرهم، لا يزال يركض، لمح من بعيد حوض ماء كبيراً حوله أناس قد ارتووا من الماء،

فاتجه نحوهم وجر أقدامه وجسده المنهك يخوض في عرقه يلهث وهو يصطدم

بجثث لاهثة مثله، فأخذ يحاول الجري والتحامل على نفسه وبعد مدة من الزمان

أحسها أعواماً: وصل إلى المكان فحيل بينه وبين الماء فصرخ: أريد أن أشرب

ولو قطرة، فقيل له: ارجع فهذا حوض النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يَرِدُهُ إلا

الذين أطاعوا الله ورسوله وأخلصوا لله ورفعوا رايته بالجهاد في سبيله.. بالسيف،

بالكلمة.. بالقلم، هذا الحوض لمن خشي الرحمن بالغيب، لمن تبع ما أمر به

الرسول وانتهى عما نهى عنه.. فاذهب.

وألقي بعيداً، كان العرق قد بلغ ركبتيه فوخزه قلبه، تذكر كم كان في الدنيا

يشمت بالعابدين، كم مرة استهزأ بالملتزمين، ورماهم بالتعقيد والانحطاط، تحسر

على نفسه حينما تذكر أنه كان يفتخر بالسفر إلى بلاد الفجور والكفر، كان يعدها

مفخرة، صرخ: ما أغباني، عض أصابع الندم، جحظت عيناه، وهو يتذكر أنه

في سفراته تلك قد اغترف من نهر الشهوات إلى أن ارتوى؛ فحيل بينه وبين هذا

النهر فصرخ: تَعْساً لي، ما أحقر أحلامي كلها كانت في الدنيا، يا ويلتاه ما أشقاني.. وخر مغشياً عليه، وحينما أفاق كان قد أبعد بعيداً عن النهر فأخذ يركض لاهثاً..

يخوض في عرقه وكان في كل لحظة يتمثل الفزع أمام عينيه يكاد أن يتمزق ولسانه

قد أصبح عظماً وفي أثناء ذلك رأى من بعيد ظلاً كبيراً بارداً فيه جمع غفير من

الخلق يستظلون به.. فقال في نفسه: هؤلاء مرتاحون ونحن نعاني من هذا الحر

والعذاب، لماذا لا أذهب معهم؟ اتجه نحوهم يجرجر نفسه من عذاب إلى عذاب،

أنفاسه لا يكاد يستردها لكثرة ما لاقاه من النصب والتعب وحينما اقترب من الظل

سمع صوتاً شجياً يرتل قوله (تعالى) : [وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ

هَذَا] [الجاثية: ٣٤] ، فعرف الصوت، إنه صوت حبيبه.. ابنه.. فلذة كبده،

فناداه: ابني تعال، انتشلني من هذا العذاب، لا تجعلهم يطردونني كما طردوا

غيري، فقال الابن: لست بأبي، فقال الأب: أنا أبوك في الدنيا تذكر جيداً.

فقال الابن: لست بأبي لا أعرفك، وهذا الظل لا يستظل به إلا من كان فيه

صفة من سبع يعرفهم الله وملائكته، وأنت لست منهم.

تذكر أنه لم يعدّ شيئاً يذكر يوضع له في ميزان حسناته، فصلاته لم تكن كاملة، وليس فيها خشوع، والزكاة لا يخرجها كاملة، الصدقات تمنعه نفسه الشحيحة من

الجود بها، الصوم لم يكن لوجه الله، بل عادة اعتاد عليها، لم يخطر على باله

الحج أو العمرة على كثرة أمواله، كان يفضل أن يسافر إلى الدولة التي سوف تشبع

رغباته ويسوّف بالحج والعمرة.

ارتعدت فرائصه حينما رأى الصحف تتطاير في الهواء، ولفت نظره ابنه

قادماً من بعيد بوجه كأنه فلقة القمر، يحمل كتابه بيمينه، يكاد من الفرحة أن يطير

في الهواء يصيح فرحاً في كل من يقابله من الخلق أو الملائكة قائلاً: هاؤم اقرأوا

كتابيه.. هاؤم اقرأوا كتابيه.. فبلع الأب ريقه الذي أشفى على الجفاف، ونظر إلى

يده الشمال وكأنه يحذرها أن تلتقط الكتاب، ورفع يده اليمين واقترب متعثراً لاهثاً

وأمسك بكتابه فنظر فإذا هو ممسك به بالشمال.. صرخ ... وخرّ راكعاً، وهو

يقول: ما أغنى عني ماليه، وتحسر في نفسه وهو يردد: هلك عني سلطانيه،

كانت صرخاته تتردد في أعماقه وصداها قد ضج به الكون فانتكست رجلاه،

وأصبح خلفه أمامه، وأمامه خلفه، فسقط في هاوية عظيمة ليس لها قرار وهو

يصيح.. لا.. لا.

في تلك اللحظة كان قد سقط عن سريره، وسمع أهله صرخته فأقبلوا عليه،

أخذه ابنه وضمه إلى صدره وقرأ عليه قرآناً فهدأ واطمأنت نفسه، فتح عينيه،

وحينما تيقن أنه لا يزال حياً، وأن الذي مر عليه إنما كان حلماً خر مغشياً عليه من

الفرحة، ولكنه ما لبث أن أفاق مبتسماً عازماً على إعادة حساباته من جديد! .