للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حتى داخل جدران بيتك]

عبد الحميد إبراهيم

غير مسموح لك أن تلقن أولادك ما تشاء من الأخلاق، وتنشئهم على ما تريد

من التربية، ولا نريد أن ندخل في جدل قد يطول حول هل للأب دور في تنشئة

أولاده على أخلاق معينة أم لا! هذه هي النتيجة لفقرة من برنامج إذاعي سمعته من

إحدى إذاعتنا العربية، وهذا البرنامج مخصص لمشاركة جمهور المستمعين في

إيجاد الحل لبعض مشاكل المستمعين الاجتماعية.

فقد عرض مقدم البرنامج ثلاث مشكلات، مختارة اختياراً خاصاً، وقدمت

تقديًما موجهاً على لسان ممثل، أو ممثلة، وسوف أختار مشكلة واحدة، وأعيد

روايتها باختصار، وأحاول أن أضيف وجهة النظر الأخرى التي لا يحب معد

البرنامج أن تذكر فيتجاهلها تجاهلاً، وغطاها بقدراته (الذكية) التي اختير لتقديم

مثل هذا البرنامج على أساسها، وبالإمكانات الموضوعة تحت يديه.

فتاة في السابعة عشرة من عمرها، متفوقة في رياضة معينة، ومشاركة في

مباريات على المستوى الوطني، والفرصة متاحة لها كي تشارك في مباريات دولية، ولكن حينما تعرض الأمر على أبيها، يضع اعتراضه على أن تسافر من أجل

ذلك، فتلح عليه وترجوه ولكنه يبقى عند رأيه، ومع أن رأيه هذا غير ملزم لها

واقعياً وقانونياً؛ لكنه من الناحية الأخلاقية والدينية له اعتباره، وهكذا كان التعليل

الذي قدم، وكأن الأخلاق والدين أمر طارئ على المجتمع وقوانينه، وبلية تراعى

لكونها بلية ومصيبة فقط، وأخيراً يخيرها بين أن تسافر لهذه الغاية وتضحي برضاه

عليها، وبين أن تكتفي بما حصلت عليه على المستوى الوطني، وتلتفت إلى

دراستها.

وهنا يطلب إلى المشاركين أن يدلوا بآرائهم: هل يشجعون البنت أن تضرب

برأي والدها عرض الحائط وتذهب حيث تشاء؛ أم ينصحونها أن تقف عند ما يريد

أبوها؟ .

خرج أربع إناث للتعليق:

كانت الأولى والثانية مسؤولتان في رعاية الشباب بالجامعة واتفقتا على أن

تشارك الفتاة في المباراة الدولية، والتسويغ الذي استندتا إليه أن المشاركة في

البطولات الرياضية خارج البلاد تكون تحت إشراف ورعاية من القائمين على هذا

الشأن، وأنه لا داعي للتشدد والتمسك من قبل الوالد برأيه، لأنه بذلك يقف عقبة

أمام طموحات ابنته، ويحرمها من فرصتها، وربما انعكس ذلك على نفسيتها

بالمشاكل والأمراض، من جهة أخرى فإنه سيئ الظن بالمسؤولين.

تقدمت الثالثة وهى - من صوتها - تبدو لا مبالية، ومتروكة هكذا، دون

تربية بيتية صحيحة. وقالت: أنا رأيي أن تسافر ولا تلتفت إلى رأي والدها

وعندما رد عليها مقدم البرنامج: بأن ذلك سيغضب والدها منها قالت: إنه سيغضب

لمدة قصيرة، وسيرضى عنها بعد ذلك. ولما قال لها المقدم: وهل تحبين أن

تغضبي والدك، قالت: أنا أفعل ما أشاء ثم آتي والدي وأقول له: يا بابا أنت قلبك

كبير وحنون والخ فيرضى عنى وتنتهي القضية! .

وتقدمت الرابعة بحل (يتزيا بزي الحكمة والتعقل كتسوية للموضوع!)

وقالت: تفعل كل ما يمكنها من أجل إقناعه حتى تسافر وهو راض عنها، فأجابها المقدم: ولكن قد لا يقتنع ويرفض كل المحاولات: عندها قالت بعد كل هذا لكون الذنب ذنبه، لأنه لا يقبل المنطق، وإذا خالفته وذهبت لا تلام! .

عند هذه النتيجة بدا أن البرنامج قد وصل ذروة التشويق، وحقق غرضه،

فالتفت معد البرنامج إلى حَكَمَ يفض النزاع وكان موظفاً رسمياً كبيراً والحق أن هذا

الموظف - كما بدا - لا يزال يحمل بين جنبيه أثارة نفس تميل إلى الإنصاف -

وإن كان ذلك على استحياء، أو قل: على خوف من النتائج - فقدم رأيه بصورة

رجاء إلى البنت محفوف باستثارة عاطفتها فقال: أنا رأيي أن لا تسافر، ولا

تتسبب في إغضاب والدها عليها، وإذا كان ذلك سيؤدي إلى حرمانها من فرصة

الفوز؛ فأنا واثق أنها بطاعتها لوالدها ستعوض هذه الفرصة المتاحة وسيحالفها

التوفيق. وهنا ختم معد البرنامج هذه الفقرة بموافقته على هذا الرأي، لكن من دون

أن يترك التعقيب على ذلك بما يظهر أنه غير مقتنع داخلياً، وقدم تعزيته للفتاة على

هذه الخاتمة فقال ما فحواه:

الأستاذ فلان وضع النقاط على الحروف ونحن نضم صوتنا إلى صوته ونقول

للفتاة بنت السبعة عشر: اسمعي كلام والدك وإذا أدى ذلك إلى ضياع الفرصة عليك، والتضحية بطموحاتك، فلا بأس؛ فالإنسان تضيع من أمامه فرص كثيرة في

الحياة، وجايز (!) أنك لن تفوزي في المباراة الدولية، وجايز (!) أنه سيكون

لك مستقبل زاهر آخر في غير الرياضة.

ملاحظات عامة على هذا البرنامج:

١- ينتقى هذا البرنامج قضايا خاصة لتخدم هدفا محدداً.

٢- أسلوبه في طرح الآراء أسلوب انتقائي موجه.

٣- يشيع الآراء التي تخالف ما هو سائد في المجتمع من أعراف وتقاليد نابعة

من الدين والعقيدة.

٤- يعرض الآراء الإسلامية مشوهة أو محرفة ويفسرها على هواه.

٥- كثيراً ما يجعل السلوكيات الطارئة والمنحرفة هي الأصل، وما عداها هو

الشاذ السلبي الذي ينبغي أن يحارب.

ملاحظات خاصة بهذه الفقرة المعروضة:

١- عدم الحياد في انتقاء الشخصيات الأربع لإبداء رأيهن، مما أعلى إيحاءً

بأن المجتمع بأسره لا يوافق الأب في موقفه من سفر ابنته وهذا غير صحيح.

٢- أظهرت حجة المسؤولين من رعاية الشباب أن سلوك الأب ليس خطأ

شخصياً فحسب، بل هو غير قانوني أيضا وينطوي على مخالفة القوانين العامة

وهي إساءة الظن بمؤسسات الدولة.

٣ - وكذلك أوحت حجة هاتين المسؤولتين- وبوضوح - أن الأب يسيء

استعمال مسؤوليته كأب، حيث يقف أمام سعادة ابنته، ويسبب الشقاء لها. وهذا

مما يشجع البنات والأولاد على عصيان والديهم مهما كانت الحجج التي يستندون

إليها في منعهم من بعض الأعمال لأنهم يتحولون في نظهرهم من آباء مهمتهم توفير

السعادة لأبنائهم إلى جلادين أو مستبدين جالبين للشقاء.

٤ - وضع حجة الولد مقابل حجة الوالد فيها ما فيها من الإجحاف والظلم في

إظهار أمرين لا يطابق ولا يساوي أحدهما الآخر على أنهما متطابقان متساويان..

إن اللاشعور أو اللاوعي عند المستمع سيرتفع بحجة الولد؛ بينما سينحط

بحجة الوالد حتى يتسنى له أن يوازن ويقارن - وهذا الفعل له أثره على شريحة

عريضة في المجتمع، وهى التي تبدأ من سن التمييز حتى سن الرشد العقلي،

شاءت أم أبت -.

٥- جواب الثالثة يوحي بأنها تستند إلى حقيقة مستمدة من الواقع (فهي واقعية) ، وهذه الحقيقة هي أن غضب الوالد على ولده، غضب من نوع خاص، ليس كأي

غضب آخر في بواعثه وأهدافه، إن شئت فقل: غضب مصطنع، يصطنعه

الإنسان من أجل تربية أبنائه التربية الصحيحة، ويجنبهم النتائج المؤلمة التي قد

تختفي عن أنظارهم وهم في حمى اندفاعهم، فهو شفقة لابسة ثوب غضب وحرص

وضن بشيء ثمين يخفيه صاحبه بهذا الغطاء تمويهاً، وهذا النوع من الأولاد

الأذكياء يستغلون هذه الحقيقة استغلالاً سيئاً يعود عليهم وعلى المجتمع بأسره

بالفوضى) والاضطراب، ويساعدهم على ذلك أن آباءهم - نتيجة ظروف نفسية

وضغوط من الواقع - ضيعوا تأثير هذا السلاح التربوي بضعف الإرادة،

وبالتطرف في (التدليل) فتمخض عن ذلك موجة كاسحة من الأهواء المنطلقة التي

يصعب كبحها، وكان أن بدأت تتحلل سلطة البيت شيئاً فشيئاً، وتخلى المكان،

وتلقي القياد لسلطة الشارع التي أنتجت خليطاً غير متجانس يبعث الغثيان، ويشهد

على مسببه بالفشل العام.

٦ - جواب الرابعة يشر أن الأب بعيد عن المنطق والعقل، يحتاج ما يصلحه

ويعيده إلى رشده. وإذا علمنا أن نظرة الأب هذه تستند إلى أصل مستمد من أحكام

الإسلام ومن تعاليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أن «المرأة لا تسافر

مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم» ، وأنها لا تخرج من بيت وليها أو زوجها

دون إذن منه وإلا لضرورة، وأن الضرورة تقدر بقدرها، وأن الإسلام لا يجيز ولا

يبيح هذا الانطلاق السافر، وهذا الاختلاط الذي لا ضرورة له باسم الفن تارة،

وباسم الرياضة تارة أخرى؛ وبإضفاء صفات البطولة على مثل هذه الأعمال التي

هي في ميزان الإسلام فساد، وأشر، وبطر، وانفلات - إن لم نقل غير ذلك -:

إذا علمنا أن نظرة الأب تستند إلى هذه القواعد أو إلى بعضها على الأقل؛ فهذا

يعنى أن كل هذه القواعد والأحكام مخالفة للعقل والمنطق، وسينتج عن ذلك

بالضرورة أنه حيثما كانت أحكام إسلامية وإرشادات ربانية، وتوجيهات نبوية فلا

عقل ولا منطق ثّم، وأن العقل والمنطق في اتجاه غير ذلك الاتجاه.

٧ - جواب الموظف الرسمي الكبير يظهر أن كثيراً من المسؤولين يتمتعون

بحس من المسؤولية، وأنهم لو أتيحت لهم الفرصة لأظهروا أنه ليس من مصلحة

أي نظام أن يشجع على الانفلات والتمرد على سلطة الأسرة، ولكن هؤلاء غالباً ما

يحجزهم الخوف عن المجاهرة بالآراء الحقة.

٨ - إن نتيجة البرنامج النهائية تبين أن كثيراً من المشرفين على البرامج

الإعلامية يستغلونها استغلالاً بشعاً لإظهار وجهات نظرهم الخاصة، وحجب

وجهات النظر الأخرى بحيل مستترة أو مكشوفة، وليست هذه الآراء متطابقة

بالضرورة مع وجهات النظر الرسمية، أو تمثلها تمثيلاً صحيحاً، وهذا يشير إلى

مرض آخر مستشرٍ في حياتنا الثقافية والفكرية يعيقنا عن إنجاز النافع، واستبعاد

الضار، ويمنعنا من التفكير في مشاكلنا وحلها بأسلوب علمي بعيد عن التحيز

والمداراة والتعصب لما يوافق الهوى، نعني مرض الشللية والمحسوبية، فعلى

الرغم من التغني بمحاربة الروح العشائرية والطائفية والحزبية والمحسوبية، وإبعاد

غير الأكفاء عما لا يحسنونه من الأعمال؛ فإن هذه الأمراض وأشباهها تفتك من

وراء ستار ويضيع في دخانها الإنصاف والعدل، ويصنف الناس على أساسها،

فيقدم بعضهم، ويقصى الآخر.

إن هذه البرامج المبنية على التحريف والتشويه والبتر لا تثمر في المجتمع إلا

اضطراباً، لا تؤصل فكراً، ولا تقوم سلوكاً، بل لا تزيده إلا تمزيقاً وانقساماً

وتوتراً، فإذا كان يظن معدّوها أنهم يستهدفون الإصلاح فقد ضلوا الطريق، وإذا

كانوا يقصدونها قصداً، ويعرفون ما تؤدي إليه، ويصرون على ذلك؛ فحسبنا الله

ونعم الوكيل.