للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

نظرات في قضية

ترجمة معاني القرآن الكريم

(١)

بقلم: د. فهد بن محمد المالك

منذ عدة قرون كانت قضية ترجمة القرآن الكريم وعلى الأصح ترجمة معاني

القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى واحدة من القضايا التي طرحت

نفسها وبشكل كبير على الساحة الإسلامية، ولكن مع مرور الزمن لم يعد الإقدام

على مثل هذا العمل حدث الأحداث في الإسلام، ولم تعد المعارضة الحادة مجدية

في قضية أصبحت واقعاً حيّاً لا مجال لإنكاره.

وحيث إنني من المتخصصين في دراسة هذا المجال مجال ترجمة القرآن

الكريم إلى اللغات الأخرى، فسأحاول بتوفيق الله (عز وجل) في هذا المقال إعطاء

القارئ العزيز بعض المعلومات الأساسية حول هذه القضية التي أشغلت بال وفكر

الكثيرين من المسلمين، وخصوصاً من يعملون في حقل دعوة غير العرب إلى

الإسلام.

وهدفي من كل هذا: تنبيه أهل الإسلام إلى ما يجري وما يدور حول نقل

«الكتاب العزيز» إلى مختلف الألسنة، فيسارعون بذلك إلى معالجة الضعف والوهن والخلل المتراكم في تلك الترجمات.

وليس الهدف هنا أن أثير الخلاف من جديد حول جواز الترجمة لمعاني القرآن

الكريم أو عدم جوازها، فهذا قد أجاب عليه علماؤنا منذ العصور الأولى، وليس

المقصود هو ترجيح رأي على آخر، فهذا إنما يجدي ويثمر إذا كان ما يدور الجدل

حوله ما يزال فكرة، وتحققها أو عدم تحققها يترتب على ما يرجح من رأي، فليس

الأمر من هذا القبيل، وليس من المبالغة إذا قلنا: إنه ما من لغة مكتوبة اليوم إلا

وقد ترجم إليها القرآن الكريم، ومن هذا المنطلق لم تعد القضية: هل نجيز الترجمة

أم نمنعها؟ إذ ليس في الإمكان منعها لو أردنا ذلك، فلقد غُمرت الأسواق

بالترجمات، وزاد عددها عما كان متخيلاً، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن،

وقد طرحه عليّ العديد من المهتمين:

أي الترجمات المتوفرة في الأسواق في لغة معينة أصح من غيرها وتنصحون

بها؟

والحقيقة: إن الإجابة على هذا السؤال بما تطمئن إليه النفس، غالباً ما تكون

عسيرة وصعبة، لأن ذلك يتطلب فاحصاً من نوع خاص، فاحصاً يجيد اللغة

العربية وفنونها وبلاغتها، ويجيد كذلك اللغة المترجم إليها، وتكون عنده من الثقافة

الإسلامية الأصيلة ما يمكنه من الحكم على ما تؤديه الترجمة من معنى يتفق مع

المعايير الإسلامية الصحيحة في اللغة المترجم إليها، وحتى نكون أكثر واقعية،

فإنه مهما كانت كفاءة وقوة الترجمة، فإننا لا نتوقع أن يستطيع ويتمكن المترجم من

نقل وترجمة جميع الإبداعات والمعاني البلاغية الموجودة في النص العربي، وما

ذلك إلا لقوة اللغة العربية، ويكفي في ذلك دليلاً ما ذكره أحد المتخصصين في علم

الترجمة: «لا توجد ترجمة مهما كانت مصداقيتها يمكن القول إنها ناجحة تماماً» .

لذلك: فقد وجد المترجمون الذين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم من اللغة

العربية مباشرة صعوبة ترجمة ونقل نفس ما هو موجود في النص العربي.

وأكبر دليل على ذلك: ما نجده في أن كثيراً من الذين قاموا بترجمة معاني

القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية مثلاً قد حاولوا الهروب من تسمية أعمالهم

«ترجمة» ، وسموا محاولاتهم أسماء أخرى، فعلى سبيل المثال: أطلق ...

«محمد مرمادوك» على عمله اسم: «معاني القرآن الكريم» ، وأطلق محمد أسد على عمله: «رسالة القرآن» ، كما أطلق الإنجليزي «آدري» على عمله

اسم: «القرآن مفسراً» .

الغرض من ترجمة معاني القرآن الكريم:

إن المقصود بترجمة القرآن الكريم هو: نقل نصوصه من اللغة العربية إلى

اللغات الأخرى، وذلك حتى يتسنى لمن لا يتقن اللغة العربية أن يتفهم ولو شيئاً

يسيراً مما في هذا الكتاب العزيز.

ولقد اختلفت أغراض المترجمين بحسب توجهاتهم الدينية ومذاهبهم الفكرية،

ويمكن تقسيم هذه الأغراض إلى نوعين من المحاولات:

أ) محاولات منصفة ومخلصة، قام بها مسلمون كان غرضهم الأساس هو

إيصال وتوضيح رسالة القرآن الكريم لمن لا يتقن اللغة العربية.

ب) محاولات غير منصفة، قام بها أُناس حاقدون على الدين الإسلامي،

وكان غرض بعضهم هو طمس معالم الدين الإسلامي الصافية والتشكيك في رسالة

الإسلام.

ومن ذلك: ما قام به بعض المترجمين المستشرقين من محاولات التشكيك في

نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان غرض بعضهم الآخر هو خدمة ونشر

الأفكار والمفاهيم الباطلة التي يعتنقها: مثل ما قام به بعض أدعياء الإسلام من

المترجمين الذين بثوا سموم ضلالاتهم، وانحرافاتهم في ترجماتهم، فالقادياني مثلاً:

يصوغ ترجمته بما يخدم العقيدة القاديانية، وقل مثل ذلك في المترجم الشيعي

والمترجم الصوفي.

ولعله من بدهي القول أن الترجمة هي: نقل الكلام من لغة إلى أخرى،

وتكون بإحدى طريقتين:

أ) عملية توصيل ونقل معاني القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات

الأخرى، وهذا النوع كان متبعاً حتى في زمن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-،

وليس هناك خلاف بين علماء الإسلام حول جواز هذا النوع من الترجمة.

ب) عملية تقديم النص القرآني حرفيّاً بلغة أخرى غير العربية، وبالتالي:

تحل هذه الترجمة محل النص القرآني العربي، وحول هذا النوع يكاد يكون هناك

شبه إجماع بين علماء الإسلام المعتبرين على استحالة وعدم جواز مثل هذا النوع

من الترجمة. ويمكن عزو ذلك إلى أسباب، منها:

١- أن المرادفات الأجنبية لا تستطيع نقل الظلال التي تحملها الكلمات

والمفردات العربية.

٢- تضييق معاني القرآن الكريم إلى معانٍ ومفاهيم محددة باللغة الأخرى

سيؤدي (لا محالة) إلى فقدان واستبعاد معانٍ أساسية ومهمة.

٣- سيؤدي إبراز النص القرآني بلغة أخرى حرفيّاً إلى عدم الوضوح وإلى

نوعٍ من الغموض.

لمحة تاريخية عن تطور ترجمات معاني القرآن الكريم:

على الرغم من أنه توجد الأعداد المتوافرة من المجلدات التي تبحث وتدرس

قضايا مختلفة في علوم القرآن، إلا أنه وحتى الآن لا يوجد عمل موسع ومتخصص

في دراسة العدد الهائل والكم الوافر من ترجمات القرآن الكريم، سواء الإنجليزية

منها أو غيرها.

ولقد كان للموسوعة التي أصدرها مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في

إسطانبول عام ١٩٨٦م دور كبير في توضيح بعض المعلومات عن ترجمة القرآن

الكريم، وعن عدد اللغات التي ترجم إليها القرآن الكريم، وعدد الترجمات في كل

لغة، وحسبما تشير إليه الموسوعة: فإن القرآن الكريم وحتى عام ١٩٨٠م ترجم

إلى ٦٥ لغة، وكانت اللغة الأوردية هي أكثر اللغات المترجم إليها؛ حيث بلغ عدد

الترجمات الأوردية (٧٧٠) ترجمة مستقلة، يلي ذلك اللغة الإنجليزية (٤٢٦)

ترجمة، ثم اللغة التركية (٣٠٤) ترجمات.

وفي الأسطر التالية سأحاول أن أعرض مسحاً تاريخيّاً لمراحل تطور ترجمة

القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية بحكم أن تخصصي يدور حول ترجمة القرآن

الكريم إلى اللغة الإنجليزية.

بدايات الترجمة كانت مشبوهة المقصد:

تشير بعض الدراسات إلى أنه لا يعرف بالتحديد من هو أول من ترجم معاني

القرآن الكريم؟ ومتى؟ وأين كان ذلك؟ وتتعذر الإجابة الأكيدة على مثل هذه

التساؤلات، على أن الشيء المؤكد هو أنه قد ظهرت محاولات ربما تكون كثيرة

لنقل القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، وذلك بعد فتح المسلمين لبلاد الأندلس،

فمنذ ذلك الحين والرهبان الغربيون بوجه خاص يقبلون على القيام بهذا العمل بدوافع

دينية لدراسة الإسلام، والوقوف على حقيقة الكتاب الرئيس في الدين الوافد عليهم،

وذلك محاولة منهم لإيجاد ثغرات في كتاب الإسلام المجيد، أملاً منهم في الحد من

انتشاره السريع بين ذويهم.

بينما تشير بعض الدراسات الأخرى إلى أن أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم

بلغة غربية كانت باللغة اللاتينية عام ١١٤٣م، وقد قام بهذه الترجمة اثنان، وهما:

«روبرت تشستر - Rebeert of Chester» و «هرمان الدلماطي

Hermann Alemanus» ? وقد استعانا باثنين من العرب واستغرق زمن

الترجمة مدة سنتين.

وقد امتلأت هذه الترجمة بالتزييف والتحريف، وخلت تماماً من الأمانة

العلمية، وكثرت فيها الأخطاء، حتى وصفها أحد الإنجليز بأنها: «غير ناجحة

وغير مرضية؛ لأنها قدمت الأفكار اللاتينية باستخدام عبارات وكلمات تناسب

المجتمع النصراني ولا تناسب المجتمع الإسلامي» ، كما قال عنها شخص آخر:

«إنها لم تكن بوجه من الوجوه ترجمة أمينة وكاملة النص» .

هذا، وقد ظلت هذه الترجمة عدة قرون تصنف وتختصر إلى أن انتشرت

المطابع في أوروبا فقام «تيودور بلياندر Theeodor Biliander» من

(زيورخ) بطبعها في مدينة (بال) في سويسرا عام ١٥٤٣م.

وقد أبرز نشر هذه الترجمة، وبروزها للساحة دوافع كبيرة لتقديم معاني

القرآن الكريم باللغات الغربية، لذا ونتيجة لذلك فقد توالت الترجمات إلى اللغات

الأخرى في الظهور والانتشار، فظهرت ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة

الإيطالية عام ١٥٤٧م، والألمانية ١٦١٦م، والفرنسية ١٦٤٧م.

ففي عام ١٦٤٧م قام القنصل الفرنسي في مصر بعمل ترجمة لمعاني القرآن

الكريم إلى اللغة الفرنسية، إلا أن هذه الترجمة وكما وصفها «جورج سيل -

Goorge Sale» : «مليئة بالأخطاء والإضافات» ، ولقيت هذه الترجمة

كسابقتها رواجاً كبيراً وشهرة واسعة.

ولم يعرف أهل اللغة الإنجليزية القرآن الكريم إلا من خلال هذه الترجمات

اللاتينية والفرنسية حتى قام «الكسندر روس Alexander Ros» بعمل ترجمة

لمعاني الكريم باللغة الإنجليزية مأخوذة من ترجمة القنصل الفرنسي سابق الذكر

عام ١٦٤٩م، وتم طباعة هذه الترجمة الإنجليزية خمس مرات في بريطانيا ومرة واحدة

في أمريكا.

ولقد كانت هذه الترجمة مثل سابقتها اللاتينية والفرنسية ملفقة مبتورة الصلة

بالأصل الصحيح للقرآن الكريم، وكان واضحاً أن الغرض منها هو تحريف القرآن

الكريم، والحكم بتزييفه في كل صفحة من الصفحات، وكذلك تشويه صورة النبي

محمد -صلى الله عليه وسلم- أمام أعين الغربيين.

وفي عام ١٦٩٨م ظهرت في إيطاليا الترجمة اللاتينية الثانية لمعاني القرآن

الكريم ومعها النص العربي، وكان قد أعدها «الأب لويس ماراكسي Father

Louis marracci» وقد ارتكزت هذه الترجمة كغيرها على دعوى أن محمداً -

صلى الله عليه وسلم- هو واضع القرآن! وأن هدفه هو إخضاع الناس له بالسيف، وتعتبر هذه الترجمة من أهم الترجمات التي اعتمدت عليها أغلب الترجمات

الإنجليزية بعد ذلك.

وفي عام ١٧٣٤م قام «جورج سيل Goorge Sale» بإخراج أشهر

ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية حتى اليوم، وسماها «قرآن

محمد» ، وقد قُدّر لهذه الترجمة أن تسود العالم الأوروبي والأمريكي قرابة قرنين من الزمن، وكان مصدره الأصيل في ترجمته هو: ترجمة «Marracci» اللاتينية سالفة الذكر؛ إلا أن هذه الترجمة مثلها مثل ترجمة «Marracci» اتسمت بالجحود والإنكار للقرآن، وكانت ترجمة متعصبة ممقوتة، تقف ضد القرآن في طولها وعرضها، وقد تم طباعة هذه الترجمة ما يزيد عن ثلاثين مرة، وتم ترجمتها من الإنجليزية إلى اللغة الدانماركية عام ١٧٤٢م، وإلى اللغة الفرنسية عام ١٧٥٠م، وإلى اللغة الألمانية عام ١٧٦٤م، وإلى اللغة الروسية عام ١٧٩٢م، وإلى اللغة السويدية عام ١٨١٤م، وإلى اللغة البلغارية عام ١٩٠٢م.

وتبعاً لذلك، فقد توالت محاولات ترجمة عديدة قام بها مترجمون إنجليز

اعتمدوا أساساً على ترجمة «Sale» المذكورة آنفاً أو على ترجمات أخرى،

ومن هذه الترجمات: ترجمة «رودويل -Rodwel» عام ١٨٦١م، وترجمة

«بالمر Balmer» عام ١٨٨٠م، وترجمة «بل- Bell» عام ١٩٣٩م، وترجمة «داود» عام ١٩٥٦م، وترجمة «آدبري» عام ١٩٥٥م، كما تتابعت أيضاً محاولات ترجمة قام بها عددٌ من المسلمين غير العرب، ومن ذلك ترجمة «عبد الكريم خان» عام ١٩٠٥م، وترجمة «مرزا عبد العزيز

» عام ١٩١١م، وترجمة «محمد علي» عام ١٩١٦م، وترجمة «عبد الله يوسف علي» المشهورة عام ١٩٣٨م، كما برزت ترجمات قام بها أشخاص غربيون دخلوا في الإسلام، ومن ذلك ترجمة «محمد مرمادوك باكثال»

عام ١٩٣٠م، وترجمة «محمد أسد» عام ١٩٨٠م.

وبعد:

فهذه بعض اللمحات حول قضية ترجمة معاني القرآن الكريم، أرجو أن أكون

قد وفقت في توضيحها لك أخي القارئ، وأعدك بحلقات أخرى قادمة إن شاء الله

تعالى أسلط الضوء فيها على بعض التنبيهات والقواعد الأساسية في ترجمة معاني

القرآن الكريم، وعلى بعض الملاحظات على بعض الترجمات المشهورة والمتداولة

في الأسواق، بغية الإرشاد إلى ما فيه خير ومنفعة الإسلام والمسلمين.