هموم ثقافية
[الثقافة والذوبان]
د. محمد عبد الله الشباني
لكل أمة من الأمم، ولكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافة تحدد الإطار
الذي يحكم سلوك أفرادها، ويوضح معالم فكرها الذي بدوره يحدد أنماط السلوك
الاجتماعي لأفراد هذه الأمة أو تلك، لتتميز بها عن الأمم الأخرى وهذه الخصائص
المميزة يعرف بها نوع ونهج أي أمة.
تتوقف قدرة الأمة على مواجهة التيارات الفكرية والثقافية الوافدة من
المجتمعات والأمم الأخرى، على نوعية وصلابة ووضوح المنهج الثقافي الذي تقوم
عليه لحمة نظامها الاجتماعي.
والقرآن الكريم يمثل العمود الفقري لثقافة الأمة الإسلامية، فهو النبع الذي
تستقي منه الأمة، وعلى توجيهاته وأوامره ونواهيه يقوم بناؤها الثقافي وإليه تلتجئ؛ لتستمد منه الحماية عند تكالب الأعداء، والنيل من أسسها ومتطلباتها التي يرتكز
عليها أعداء هذه الأمة بقصد إنهاكها، والقضاء على مصدر القوة الذي عليه تعتمد،
وبه تصمد ضد فك ارتباطها بمقوم وجودها.
من النعم الجزيلة التي أنعم الله بها على هذه الأمة أن الله سبحانه وتعالى تكفل
بحفظ القرآن الكريم، ولم يكل أمره إلى الناس، وإنما أوجب الله على نفسه حفظ
هذا الكتاب الكريم، حيث قال سبحانه [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]
(الحجر: ٩) ، فالقرآن الكريم الذي هو النبع الذي يمد الأمة بالقوة، ويمنحها الحياة
ويشكل إطار ثقافتها، قد حفظه الله من التحريف والتغيير والزيادة، وبالتالي بقي
وسيبقى الماء الزلال الذي يطفيء ظمأ الأمة الإسلامية على مدار تاريخها، فلا
تلتفت إلى الثقافات الأخرى الوافدة وإنما تستعلي عليها وتستوعبها بدون أن تذوب
فيها.
يُقصد بالمفهوم الاصطلاحي للثقافة: وجهة نظر كل فرد من حيث السلوك
والعلاقات الاجتماعية، واتجاهه الفكري وسلوكياته، وما يتضمنه ذلك من واجبات، وما يرتبط بذلك من محددات للذوق والأخلاق، وما يقدسه وما يظهره من ولاء،
فكل ذلك يشكل ثقافة المجتمع، فالثقافة تحدد نسق الحياة من خلال خصائصها
المتمثلة في اشتراك جميع أفراد الأمة بالخضوع لها في سلوكياتهم، وبالتالي فإن لها
دور في وضع معايير منتظمة وطبعية كقواعد مشتركة للسلوك والنظام الاجتماعي
القائم، على القواعد الأخلاقية.
وقد يتساءل القارئ ما هو دور الثقافة في تحديد سلوكيات وأنماط أفراد الأمة،
والحقيقة أن دورها يتمثل في تزويدهم بالأمور التالية:
١- تهيئة أساس التفكير والشعور.
٢- تزويدهم بالتفسيرات المقنعة عن أصل الإنسان، وطبيعة العالم، ودور
الإنسان في الحياة.
٣- تزويدهم بمعاني الأشياء والأحداث، وبالتالي تحديد المفاهيم الأساسية
وتحديد ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، ومنطقي وغير منطقي وعادي وشاذ،
وأخلاقي وغير أخلاقي، وجميل وقبيح، وخير وشر ... فالثقافة تعطي معنى للحياة، وهدفاً للوجود.
٤- بناء الشعور لدى الأفراد بالانتماء إلى الأمة.
إن القرآن الكريم يجيب على هذه الأمور كلها، فهو يحدد الإطار الشامل
والكامل لثقافة الأمة؛ ولهذا فإن الاهتمام بالقرآن دراسة وحفظاً وتطبيقاً من أهم
الأمور التي يجب على الأمة بمجموع أفرادها أن تهتم به وتعتني به؛ ولا شك أن
السنة النبوية الصحيحة من القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت
القرآن ومثله معه) .
فقد أولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عناية خاصة بالقرآن الكريم،
باعتباره مصدر الثقافة الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي للأمة، روى الإمام
البخاري رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه
وسلم-قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وفي رواية أخرى (إن أفضلكم
من تعلم القرآن وعلمه) فتعلم القرآن الكريم يتمثل في معرفة أحكامه، والتأدب
بآدابه، وفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ وتعليمه يتمثل في إرشاد الناس قولاً بتعليمه
إياهم، وسلوكاً بالالتزام به، فيكون سلوك الفرد المسلم متطابق مع أوامر ونواهي
القرآن.
والقرآن الكريم يحوي بين دفتيه نظام شامل لتنظيم حياة الأمة سواءً ما يتعلق
بتحديد وتوضيح النظرة إلى الوجود، والإجابة الكاملة على عدد من التساؤلات:
حول الوجود، والغاية منه، ومآل الإنسان الذي ينتهي إليه، أو ما يتعلق بتنظيم
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلاقة الأمة بالأمم الأخرى بحيث يشكل
عقل الفرد المسلم ضمن الإطار الذي يرضي الله، ويجعل الأمة المسلمة حقاً خير
أمة أخرجت للناس.
لقد أدرك الأعداء من النصارى واليهود أهمية التصاق الناس بالقرآن الكريم
والتزامهم به وبتعاليمه، وأن الأمة الإسلامية لا يمكن هزيمتها ما دامت مرتبطة في
فكرها، وسلوكها، وتشريعها به.
إن الهجمة الصليبية المعاصرة أخذت طابعاً مغايراً عما سبق، وأدركت أن
القضاء على الأمة الإسلامية لا يتم من خلال الاستيلاء العسكري على البلاد، وإنما
لابد من القضاء على البنية الثقافية للأمة، والمتمثلة في إبعاد القرآن الكريم عن
واقع حياة الناس بحيث لا يكون له تأثير على سلوكيات الأفراد، ولا على تنظيم
حياة المجتمع المسلم.
إن المنهج الذي اتبعه الغرب الصليبي لفك ارتباط المسلمين بالقرآن الكريم
يتمثل في الأمور التالية:
١- إضعاف اللغة العربية بالدعوة إلى العامية، ونشر اللغات الأجنبية بين
الناطقين باللغة العربية، من خلال المناهج التعليمية التي قللت من الاهتمام بدارسة
قواعد اللغة العربية: من حيث التراكيب النحوية، أو من حيث فقه اللغة العربية؛
ولذا شجعت القيادات الثقافية في الدول العربية والتي تربت قبل رحيل الاستعمار
العسكري في المدارس الأجنبية الاتجاه الحداثي المتأثر بالتيارات الفكرية العلمانية.
٢- إضعاف النظام التربوي والتعليمي في العالم العربي، ومحاربة أية
توجهات تربوية تقوم على البناء الثقافي المرتكز على القرآن؛ وذلك بالتقليل من
المواد الدينية، ومحاربة كل توجه جماهيري لدراسة القرآن وتوسيع نطاقه.
٣- إحلال القوانين والتشريعات والتنظيمات المستمدة من الفكر العلماني الوافد
محل التشريعات الإسلامية القائمة على الشريعة الإسلامية، من أجل خلخلة البنية
الثقافية للأمة، وإحلال البنية الثقافية الغربية.
٤- ربط التنظيم الاقتصادي للمجتمعات الإسلامية بالأنظمة الرأسمالية
العلمانية، من خلال التشريعات والنظم الاقتصادية، مثل التمكين للفكر الربوي
المحرم؛ ليكون قاعدة بناء الاقتصاد في الدول الإسلامية، وربط هذا الاقتصاد
العربي ليكون تبعاً له ضمن دائرة الاستهلاك.
٥- ضرب الوعي الإسلامي من خلال الإبقاء على القيادات الماسونية
والعلمانية؛ لتسلم القيادة في الدول الإسلامية، وتوجيهها لمحاربة أي توجه إسلامي، أو دعوة إلى الثقافة الإسلامية من خلال القضاء على القيادات السياسية والفكرية
الإسلامية، ومحاربة كل توجه للانعتاق من السيطرة الاقتصادية الغربية.
٦- التمكين للسلوكيات الغربية في البيئات الإسلامية من الانتشار، وذلك
بخلخلة القيم، من خلال السيطرة بطريق مباشر، أو غير مباشر على وسائل
الإعلام من صحافة وتلفزة وإذاعة، واستخدامها قنوات للهدم الفكري والسلوكي
للأمة، بتوجيهها للتشبه في حياتها الاجتماعية بالحياة الاجتماعية الغربية؛ مما
يؤدي إلى التفسخ الاجتماعي، وذوبان المجتمع وعجزه عن مواجهة التحديات
المعاصرة.
إن مجابهة هذه الحرب العلمانية على المسلمين يقتضي من المسلمين أفراداً
وجماعات العودة إلى النبع الذي يمنح الأمة القدرة على الصمود تجاه هذه الحرب
الضارية والمدمرة، المعلنة تجاه البناء الثقافي للأمة، وذلك وفقاً للأمور التالية:
١- العمل على نشر حلقات تحفيظ القرآن الكريم وتدريسه للصغار والكبار
بحيث لا يخلو مسجد من مساجد المسلمين من حلقة تعليم للقرآن، وأن على
الموسرين إمداد القائمين على إدارة هذه الحلقات بالمال، وتشجيع الناس على وقف
جزء من أموالهم لهذا المشروع.
٢- يجب أن تشتمل حلقات تحفيظ القرآن على دروس لتفسير معاني القرآن
حتى يُتَمَكّنَ من فهم معانيه، وتكوين حلق تدريس وحفظ القرآن لتعليم الناس أحكام
وتعاليم ما يقرؤونه ويحفظونه من القرآن الكريم.
٣- العمل على إيجاد حلقات في المساجد؛ لتعليم السنة الصحيحة وفقهها
وتعليم اللغة العربية وتدريسها، ورفع مستوى فهم اللغة العربية سواء من ناحية
معرفة التراكيب النحوية، أو التراكيب اللغوية.
٤- ضرورة مشاركة أئمة المساجد بتخصيص وقت قصير بعد أحد الصلوات
المفروضة يومياً؛ لقراءة وتفسير آيات من القرآن الكريم من أحد التفاسير المعتبرة
مباشرة بعد الصلاة؛ حتى يمكن لعامة المسلمين زيادة ثقافتهم ومعرفتهم بمعاني ما
يقرؤونه من القرآن، وبالتالي ربط عامة المسلمين بالقرآن حتى يمكن على المدى
الطويل إعادة الناس إلى الالتصاق بالنبع الذي يروي وينمي ثقافتهم.
إن الحرب على البناء الثقافي للأمة الإسلامية في هذا العصر قد بلغ مداه وإذا
لم يقم أفراد الأمة بمسئوليتهم تجاه الدفاع عن كينونتهم الثقافية، والمتمثلة في القرآن
الكريم، من خلال دراسته وحفظه وتطبيقه في واقع حياتهم الاجتماعية والسعى إلى
المطالبة بالعمل على أن يكون القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما المصدر الذي
يستمد منه الأفراد سلوكياتهم وتنظيماتهم الاجتماعية والاقتصادية ... فإن خطر
ذوبان الأمة وتفككها، سيكون هو النهاية التي ستؤول إليها الأمة الإسلامية.