للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دعاة من جِلدتنا

أحمد محمد الفضيل

أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى وفرقاناً ورحمة لقوم يوقنون، وأرسل

رسوله بالهدى ودين الحق؛ ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد

بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى

أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأضحت عبادة الأصنام في ميزان

المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم - فيما يعجب - من سخف المشركين من قولهم

في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!) [١] . سبحان ربي! كيف سوغ الشيطان هذا السخف لأوليائه، وزين لهم ما كانوا يفترون؛ وصدق الله [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ ولِياً مُّرْشِداً] [الكهف: ١٧] .

غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين

الإنس والجن مشمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل حلة، وروجوا له

بكل لسان: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى

بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] [الأنعام: ١١٢] .

ومن الواجب كذلك أن نتتبع طرق الغي بالتحذير منها، وكشف مراميها

وأبعادها وسد السبل على دعاتها؛ حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم،

وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين، أو كيد الحاقدين.

ولقد شاعت في دنيا المسلمين فلسفات وأنظمة؛ خدعت الكثير منا ببريقها،

وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت العقول، واستحوذت على الأفكار، ووراء

ذلك كله داء دوي، ونار - لو قُدر لها أن تنتشر - لم تأتِ على شيء إلا جعلته

كالرميم. وكان المسلمون قبلها يتلون كتاب الله، ويتدبرون آياته، ولا يخالج أحداً

منهم شك في حق التشريع ولا ريب؛ فالتشريع كله - الحلال والحرام والسياسة

ونظم المجتمع - كله لله، حقاً خالصاً من أخص خصائص الألوهية، كما أن

الإقرار به أول طريق العبودية، وكان المسلمون يعلمون كذلك أن كل سلطان أو

إمارة في دولتهم إنما يكتسب المشروعية، ويأخذ حق الطاعة من الله - سبحانه -

فلا سلطان ولا طاعة ولا ولاء إلا لله وأمر الله ودين الله، وكل سلطة من غير هذا

السبيل فإنما هي خروج عن التوحيد: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ

اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا

يُشْرِكُونَ] [التوبة: ٣١] .

وما كان اتخاذهم أرباباً، ولا كانت عبادتهم إلا طاعتهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا

أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ

الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً] [النساء: ٦٠] .

وأعظم الناس منزلة عند الله أنبياؤه ورسله، إنما بلغوا هذه المنزلة السامية

بتمام عبوديتهم، وكمال خضوعهم لله: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي

إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ

مُّكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] [الأنبياء: ٢٥-٢٧] .

والنبي بريء من كل دعوى تخالف عبوديته، كما في قول عيسى - روح الله

وكلمته - لربه:: [مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ]

[المائدة: ١١٧] .

إذن فالأمة كلها - حاكماً ومحكوماً وأميراً ومأموراً، وبشتى طبقاتها -ليست

إلا مخلوقة لله، مربوبة مستعبَدة، والأمر كله لله: [ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] [البينة: ٥] .

ثم تسرب إلينا الفكر الصليبي اللاديني [٢] ، حاملاً معه خلفيات المعركة التي

استعرت في أوربا بين كنيسة ضالة خانت الأمانة، وسخرت تعاليم السماء لأحط

غرائز الأرض، وبين الشعب الذي لم يَرَ في هذه الكنيسة سوى عقبة تحول دون

انطلاقه وتحرره، وتسومه سوء العذاب، ودخل عالم المسلمين تعبيرات جديدة:

سيادة الأمة، حكم الشعب للشعب، الشعب مصدر السلطات، الدين لله والوطن

للجميع، وتضاربت الأقوال حول هذه المستجدات المصدّرة، وتباينت كذلك

المواقف، ووقف رجال لم تخنهم البصيرة، ولم ينقصهم الإخلاص وسط هذه

الزلزلة، وجهروا بالحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بينما تحرك

الكثيرون ممن كانوا يحتلون مواقف القيادة الفكرية؛ لينخرطوا في اللعبة الجديدة،

ودون أن يتفوهوا بكلمة واحدة. ولم يكد رواد العلمانية (اللادينية) ودعاتها يطلقون

الطلقة الإعلامية الأولى ضد الدولة الدينية، والحكومة الدينية، والحرب الدينية؛

حتى تحمس الكثير من الكُتاب، لا ليدفعوا عن أنفسهم الصبغة الدينية، بل ليقرروا

للناس أن. الإسلام برىء من كل دولة دينية وحكومة دينية، ومن كل ما هاجمه

اللادينيون أو وصموه!

وخرج من صفوف المسلمين بعد ذلك أناس حملهم الإخلاص وحفزتهم الغيرة،

يدعون المسلمين للخروج من الأساليب التقليدية، والتحرر من القوقعة والجمود،

وطلب هؤلاء من المسلمين أن يحافظوا على النظام الديمقراطي العلماني مادام يكفل

لهم حرية الدعوة والحركة، بل رأوا أن من الواجب أن يساهم المسلمون في إقامة

هذا النظام إذا لم يكن قائماً، وكان ذلك من دعاة غيورين، يتألمون لتقصير

المسلمين، مع أنهم يعلمون أن حرية الأنظمة اللادينية إنما هي حرية مقنّنة مبرمجة، وأن الكل متفق على وجوب اتباع سياسة القهر والإذلال للدعاة، والوقوف في

سبيل الدعوة، ولكن في الوقت المناسب، والشكل المناسب! ! !

لقد ثارت أوربا لتدفع اضطهاد الذين حكموها باسم الله، وزعموا للشعب أنهم

ظل الله، وسلطانه على الأرض. وحمل الإنسان الأوربي في أعماق شعوره

حساسية مدمرة ضد كل ما هو ديني، أو يمُت للدين. ثم انتقلت عدوى هذه

الحساسية المدمرة إلى حس رواد وأتباع اللادين في عالمنا!

وإنما يهمنا في الدرجة الأولى أن يستيقظ المسلم المخدوع بهذه الشعارات،

والمنوم ببريقها، نريد أن يعلم المسلم حقيقة التناقض العقَدي بين التوحيد الذي

يحمله في قلبه - ثم لا يمنعه ذلك أن يسير خطوات بعيدة في سبيل غير سبيله -

وبين الفلسفة الكافرة التي أنشأها وصنعتها، ونحن مع الذين يستنكرون الاستغلال

بكل أنواعه في استنكارهم دون أن يكون هذا الاستنكار وسيلة تحمل المسلم على

التخلي عن إيمانه.

وأما الدساتير التي صُدّرت إلينا فهي نسخة عن دساتير أوربا التي تقول: (

دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) ، قد يضاف إلى بعض الدساتير عبارة تناسب

عواطف الشعوب المسلمة، حيث يقال لها إن الإسلام دين الدولة، أو أن الشريعة

مصدر القوانين.

وستجد مَن يوضح لك أن الشعب مصدر السلطات التي ليس فيها حكم شرعي، فسلطانه خارج دائرة سلطة الشريعة! ! ، ومع أن كلمة (الشعب) تتسع لتشمل كل النوعيات الهابطة والرفيعة، من ذوي الاختصاص والعلم، وأهل الرعونة والطيش؛ فإنك تجد في نص الدستور أن من حق الأغلبية تغيير مواد الدستور، من خلال القنوات الرسمية؛ باعتبار الأغلبية تمثل رأي الشعب، إذن فعندما يقرر الشعب نظرياً - أو الذين يحكمون باسم الشعب - أن يغيروا المظاهر الإسلامية في لدستور يكون هذا التغيير دستورياً وصحيحاً، ولا معنى للاعتراض عليه. وإذا لاحظنا أن عبارة (الإسلام دين الدولة) عبارة طارئة على النظام اللاديني (الديموقراطي) ودخيلة عليه، ومتناقضة معه، وأن المعاني التي تحملها هي أقل مواد الدستور قوة وتأثيراً ودواماً، بينما اعتبار الشعب مصدرا للسلطات، إنما هو جوهر الديموقراطية - علمنا من ذلك أن اعتبار الإسلام ديناً للدولة لم يأتِ استمداداً من أمر الله وسلطانه، بل هو مستند إلى سلطان الشعب ورأيه؛ وبذلك يجعلون سلطان الله - تعالى - محكوماً بسلطان الشعب ومستمداً منه، وبينما كانت تلبية الجاهلية تضع سلطة أصنامها - نظرياً - دون سلطة الله؛ إذا بالجاهلية الصليبية الحديثة تريد أن تخادعنا عن ديننا، وتقودنا إلى جاهلية أشد ضلالاً وانتكاساً من الجاهلية البائدة، فهل يتنبّه المسلمون لحقيقة الفتنة التي ذر قرنها في ديارهم، وهل يعيدون الوحدة المفقودة بين العقيدة الإسلامية، والأصول العلمية والسياسية، وبين المنهج الرباني في الحركة والتطبيق؛ ليعود الإيمان وحدة متكاملة في الاعتقاد والعلم والعمل؟ !


(١) وردت هذه التلبية حكاية في حديث متفق عليه.
(٢) وهو ما يُدعى بالفكر العلماني! .