للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة

لا.. لن يهون المجاهدون!

أمام التحالف الدنس بين شارون وبوش

د. عبد العزيز كامل

[email protected]

هناك تشابه كبير بين شخصيتي بوش وشارون، وهناك ما يشبه التطابق بين

نفسيتيهما وغاياتهما، وبين وسائلهما لتحقيق تلك الغايات. وقد تزامن مجيء

شارون بمشروعه الدموي مع مجيء بوش بمشروعه الناري، وظل الناس فترة من

الزمن يتساءلون عن حقيقة ما يريده زعيما الصهيونيتين العتيدتين اليهودية

والنصرانية، وبخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية التي يطلقون عليها سياسياً

(منطقة الشرق الأوسط) ودينياً.. (أرض الميعاد) .

عندما أصر بوش على ضرب العراق، وظل يجهز لذلك لأكثر من عام،

غير مكترث بالاعتراضات والتظاهرات، كان المراقبون يتعجبون من هذا

الإصرار، رغم وضوح انهيار العراق، وراح المحللون يبحثون عن السبب

الحقيقي لعزم زعيم الأصولية الإنجيلية على إشعال تلك النار التي أدرك العقلاء

أنها ستحرق أصابعه، بل قد تكوي قلبه وتودي بمستقبله. وكذلك كان شأن شارون

الذي يمضي منذ ثلاث سنوات في شن حرب تبدو عبثية ولكنها غير عبثية، وهو

ماض فيها رغم كل تبعاتها وتكاليفها مثلما مضى بوش في مشروعه، وقد أشعل

بوش الحرب وبدأ بها، ولكنه لم يستطع إنهاءها رغم تسرعه بإعلان انتهائها رهقاً

منه ونزقاً؛ تماماً مثلما فعل في أفغانستان التي تشتعل أرضها الآن تحت أقدام جنده

المجرمين من الصليبيين والمنافقين.

كانت أهداف بوش من إضرام النار في العراق شاملة لأغراض شتى، أرادت

بها الصهيونيتان النصرانية واليهودية معاً، تحقيق نقلة كبرى في برنامج السيطرة

الشاملة على قلب العالم الإسلامي وأراضيه المقدسة، وبخاصة في الأرض التي

يدعونها (مملكة إسرائيل) أو (إسرائيل الكبرى) الممتدة شرقاً من الفرات وغرباً

إلى النيل، وشمالاً من شمال سوريا وجنوباً إلى المدينة المنورة.

لقد كتبت وكتب الكثيرون غيري عن الأهداف التي كانت متوقعة من الحرب

ضد العراق [١] ، وتبين بعد حين أن بوش المغامر، وفريقه المقامر، لم يقصدا

غرضاً بعينه فقط كما ذهب كثير من المحللين وهو السيطرة على نفط العراق، بل

كانت هناك جملة من الأهداف، أراد صقور واشنطن اصطيادها كلها في هجمة

واحدة، وصفوها قبل بدئها بأنها ستكون «بأسرع وقت وبأقل تكلفة» !

وكان ملخص الأهداف المتوقعة من حرب الخليج الثالثة يشير إلى تكامل بين

مشروعي بوش وشارون، أو بالأحرى بين مشروعي اليمين الإنجيلي الصهيوني،

واليمين اليهودي الصهيوني، فإضافة إلى السيطرة على مقدرات أرض الفرات بما

فيها النفط أراد بوش من حربه أن يضرب ما تبقى من قوة العرب الاقتصادية

والعسكرية والسياسية، بل والمعنوية لتكون المنطقة مهيأة أمام شارون ومن يأتي

بعده لينفذ اليهود فيها المشاريع الهادفة إلى زرع اليأس في قلوب العرب والمسلمين

عامة والفلسطينيين خاصة وليحصل انبطاح عام واستسلام تام، أمام مفردات

البرنامج المستقبلي لليهود في فلسطين، والذي يريد شارون أن يحوز (شرف)

إنجاز أكبر قدر ممكن منه قبل انتهاء حياته السياسية.

* ماذا يريد شارون؟!

مثَّل موقف شارون خلال سنوات الانتفاضة الثلاث الماضية، لغزاً أمام الكثير

من المراقبين والمحللين، فهو من جهة يكرر الإعلان عن عزمه على إنهاء

الانتفاضة من خلال خططه التي يعلن عنها بين حين وآخر مثل خطة المئة يوم،

وحقل الأشواك وخطة (أورانيم) أي جهنم، وهو من جهة أخرى يدفع بالأمور

نحو استمرار اشتعال الموقف، وهو ما يعني بكل وضوح من وجهة نظري أنه على

استعداد لتحمل تبعات استمرار الانتفاضة مهما كان ثمنها لاستثمار شررها في إشعال

نار أكبر، لا يمكن لأهداف مثل أهدافه أن تمرر إلا تحت وهجها المشع أو في ظل

دخانها الكثيف.

ويمكنني من خلال رصد البرنامج السياسي المستقبلي للصهيونية اليهودية

والنصرانية، والمتطابق مع البرنامج الديني المستقبلي لهما في أرضنا الإسلامية

وفي ضوء التحالف المعلن بين الأمريكيين والإسرائيليين، أن أعدد أهداف شارون

ومن وراءه من أقطاب الشر ودهاقنة الإفساد في العالم، وذلك في سياقات متعددة

على ما يلي:

١ - السياق الديني: ويريد شارون ومن سيأتي بعده من خلال ذلك السياق

أن يعاد التاريخ إلى الوراء، فتتحول ما تسمى بـ (دولة إسرائيل) إلى أرض

يهودية صرفة، لا يعيش فيها إلا اليهود، ولا تحترم فيها إلا التوراة، ولا تقام فيها

إلا الشعائر اليهودية في المعابد اليهودية، ولا تسود فيها إلا التعاليم اليهودية والثقافة

اليهودية واللغة اليهودية، أما الإسلام، فلا ينبغي في نظرهم أن يكون له وجود في

فلسطين، لا على مستوى السكان، ولا على مستوى التشريع والقانون ولا على

مستوى السياسة ولا التعليم ولا الثقافة ولا على أي مستوى آخر، ولهذا تبنى حزب

الليكود الذي يتزعمه شارون مقولة: (دولة اليهود لليهود) وهو ما يعني أن تُفرغ

دولة (إسرائيل) من كل مظاهر الوجود الإسلامي، بل وحتى النصراني، فاليهود،

ورغم كل مظاهر المناصرة والمظاهرة لهم من النصارى ينظرون إليهم على أنهم

أعداء بلهاء يمكن «للشعب المختار» أن يتمتع بتسخير (إله إسرائيل) لهم،

ولهذا لا يسمح بممارسة التنصير هناك أبداً [٢] .

والمتتبع لسياسة شارون أثناء توليه مناصبه العسكرية والسياسية والمدنية

طوال عمره المشؤوم، يلحظ حرصه على ترسيخ مفهوم (دولة اليهود لليهود)

فغرامه بإنشاء المستوطنات عندما كان وزيراً للزراعة ثم وزيراً للإسكان ثم

الصناعة، وتلهفه إلى إخراج أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أرض فلسطين

عندما كان وزيراً للدفاع، وحرصه على تفريغ الضفة والقطاع من خلال خطته

المعروفة بـ (الوطن البديل) وكذلك تشوقه إلى قهر الإسلاميين الفلسطينيين من

خلال تصدره للشق اليهودي من الحرب العالمية على ما يدعونه بالإرهاب، كل

ذلك يدل على أن شارون جاد في تطبيق أكبر مساحة من ذلك الشعار في عهده

المأفون، ومن اللافت للنظر، أنه قد جرى الإلحاح في قمة العقبة الأخيرة من كل

من شارون وبوش على مطالبة العرب بالاعتراف بـ (إسرائيل) كدولة يهودية،

وهذا أمر لم تجر المطالبة به علناً قبل ذلك المؤتمر. وقد حار المراقبون في تفسير

هذه العبارة الجديدة رغم وضوح معناها لمن يدرك عقائد اليهود التي تعتبر كل

أرض من أرض الميعاد يستولون عليها محررة، وكل أرض لم يصلوا إليها لا تزال

محتلة، ومع ذلك فقد وافق الحاضرون من العرب على هذا المطلب ضمناً في

مؤتمر إهانتهم، وقمة ضعفهم!

وفي إطار السياق الديني، أيضاً ينبغي علينا أن نفهم المغزى الكبير لرسالة

شارون إلى المسلمين، عندما بدأ عهده بزيارة استفزازية حاشدة للمسجد الأقصى،

إيذاناً ببدء التطبيق العملي للخطة الدينية الرامية إلى تحويله إلى معبد يهودي، تحت

مسمى (الهيكل الثالث) بعد ما يقرب من ألفي سنة من هدم الهيكل الثاني عام ٧٠

للميلاد.

وفي اعتقادي الشخصي أن شارون يريد أن يذكره التاريخ على أنه الزعيم

اليهودي الذي فتح الطريق أمام بناة الهيكل الثالث، ويفسر هذا أنه كان أول رئيس

وزراء إسرائيلي يدخل بنفسه إلى ساحة المسجد الأقصى، بعدما كان من قبله

يكتفون بالبكاء أمام حائط المبكى، وكان أول رئيس وزراء يسمح للجماعات الدينية

اليهودية أن تباشر بنفسها وضع حجر الأساس بصورة رمزية للهيكل الثالث في

٢٨/٧/٢٠٠١م، وهنا يبنغي أن نعي أن التجربة أو (البروفة) بوضع حجر

«رمزي» على مقربة من المسجد الأقصى قد تعقبها تجربة بوضع هيكل

(رمزي) بجوار المسجد الأقصى أيضاً ... فإذا وجد اليهود والنصارى معهم أن

الخطوات (الرمزية) مرت بصورة سلمية كما حدث في حادثة حجر الأساس السابقة

فهنا سوف ينتقلون إلى الخطوات (الحقيقية) التي تعد عندهم عقيدة وديناً، بل

لب العقيدة والدين لتعلقها بالقبلة التي يصلون إليها.. وماذا بعد ضياع القبلة؟

وماذا يمنعهم من استعادتها بعد أن وهن المسلمون وتوهموا أنهم بالأماني يستطيعون

صنع المعجزات أو منع المؤامرات؟

إن شارون كذلك هو أول زعيم يهودي يسمح (رسمياً) لليهود بدخول المسجد

الأقصى، مع منع المصلين من المسلمين دون سن الأربعين من دخوله كلما اشتدت

الانتفاضة. ولا ينبغي أيضاً أن نتغافل عن مغزى اعتقال الشيخ رائد صلاح منذ

عدة أشهر واستمرار اعتقاله للآن، باعتباره الرمز المنافح عن الأقصى داخل

فلسطين، وهذه الخطوات كلها تسير في طريق مرسوم لتصل إلى الهدف المعلوم

والذي لم يعد سراً وهو هدم البناء الإسلامي فوق الأرض، ثم إثبات الملكية لما

تحت الأرض، كما كان مخططاً لأن يتم الاعتراف به في مؤتمر كامب ديفيد الثانية

بإشراف وإلحاح من بيل كلينتون قبل أيهود باراك.

هل يفعلها شارون ويفاجئ العالم بالسماح لليهود المتعصبين بخطوات أخرى

في طريق الهدم ثم البناء؟! شخصياً لا أستبعد ذلك في ظل استيلاء الوهن على

العرب والمسلمين إلا من رحم الله بعد استيلاء أجواء الخوف عليهم بسبب حرب

الإرهاب الأمريكية التي مكنت شارون من الاستفراد بفلسطين شعباً وأرضاً

ومقدسات.

إن شيئاً واحداً يمكن أن يعرقل تسارع اليهود للنيل من المسجد الأقصى في

هذه المرحلة، وهو أن يعلم الصهاينة في العالم كله، لا في إسرائيل وحدها، أن

أرواحهم النجسة كلها ستكون محل استهداف وهدر، إذا وقع ذلك الهدم، وأنه لا

شيء في عالمهم مقدس إذا نال اليهود والنصارى من المسجد الثالث الأقدس.

٢ - السياق العنصري: وهو سياق يغيب أحياناً عن الملاحظة عندما يتم

التركيز على الجانب الديني، فعداء اليهود العام للمسلمين، يخصصه عداؤهم

للعرب، وعداؤهم للعرب يتركز في الفلسطينيين والمصريين والعراقيين وأهل

الجزيرة.

أما عداؤهم للمسلمين عموماً، فالجانب العنصري فيه، يقوم على مبدأ

التفضيل بين اتباع نبي بني إسرائيل (موسى - عليه السلام -) ونبي بني

إسماعيل (محمد صلى الله عليه وسلم) فالمسلمون الذين يُدْعون عند الكتابيين

المعاصرين بـ (المحمديين) أعداء، ولو كانوا من غير العرب، لانتسابهم إلى

دعوة محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه وهو أعدى أعداء اليهود بعد بعثته

عليه الصلاة والسلام فهو الذي نسخت شريعتهم، وفُضل بأمته على أمتهم، وهيمن

كتابه على كتابهم، وآل إلى مُلكه ملكهم وأرضهم وديارهم، وسُلط سيفه على

المعاندين والمفسدين من زعمائهم وكبرائهم، فكل تابع لدين محمد بن عبد الله هو

عدو من وجهة عنصرية ودينية.

وأما عداؤهم العنصري الخاص للعرب بعد العداء لعموم المسلمين، فينبعث

من أعماق التاريخ، حيث امتد العداء العنصري من عهد إبراهيم - عليه السلام -

الذي تزوج سارة التي ولدت له إسحاق الذي وُلد له يعقوب أو (إسرائيل) ، ثم

تسرى إبراهيم بهاجر، التي رزق منها بإسماعيل - عليه السلام - وهو نبي العرب

في جزيرة العرب، والذي جاء من نسله سيد الناس جميعاً من عجم وعرب محمد

بن عبد الله، عليه صلوات الله وسلامه.

واليهود - من فرط ضلالهم - عَدُّوا العرب جنساً أدنى لأنهم كما يقولون

(أبناء الجارية) ، أما هم، فإنهم (أبناء السيدة) واستباحوا من العرب كل حرمة

لأنهم عرب واستكثروا عليهم كل نعمة واستنزلوا عليهم كل نقمة [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا

لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران:

٧٥) . فالعربي عدو عندهم لكونه عربياً، ولو لم يكن متديناً أو حتى مسلماً. ومن

باب العداء العنصري التاريخي يبغض اليهود العراقيين والمصريين والفلسطينيين

وسكان الجزيرة أكثر من غيرهم، أما العراقيون فلأنهم أحفاد البابليين الذين أذاقوا

الإسرائيليين سوء العذاب عندما سُلطوا عليهم فدخوا أرضهم مرتين ليحتلوها ثم

يخربوها [وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: ٧) . وأما المصريون فلأن ذل

بني إسرائيل الأوائل في عهد موسى - عليه السلام - كان على أيديهم، ولا تزال

العداوة تسكن قلوب اليهود رغم تغير الأحوال وتبدل الأجيال، وتحوُّل جُل القبط

إلى الإسلام والتوحيد، وتحوُّل الذين كانوا مختارين من بني إسرائيل إلى اللعنة

والغضب.

وأما عداوة اليهود الزائدة لعرب الجزيرة، فلأن أجدادهم من المجاهدين في

عصر الرسالة خرَّبوا بيوت اليهود، وأخرجوهم بإذن من الله من ديارهم لأول

الحشر في أرض الشام، وأنهوا الوجود السياسي والعسكري والاقتصادي المتسلط

لكل من سكان خيبر وقرى بني النضير وبني قريظة بعدما تعاونوا مع المشركين

عباد الأصنام على الموحدين من أتباع محمد، عليه الصلاة والسلام، ولأن دعوة

الإسلام التي خرجت من جزيرة العرب سيطرت على العالم وجعلت اليهود تحت

سلطان المسلمين.

وتستجمع العداوة اليهودية أحقادها لتتركز ضد الفلسطينيين؛ فهم من ناحية

أحفاد الكنعانيين الذين حاربوا الإسرائيليين في الأرض المقدسة قبل أكثر من ثلاثة

آلاف عام، وهم من ناحية أخرى عرب، لهم من العداء ما لغيرهم من العرب،

وهم من ناحية ثالثة مسلمون في غالبيتهم، ثم إنهم وهذا هو الأهم سكان الأرض

التي يرى اليهود أنهم أهلها وأحق بها من كل العالمين.

والمراقب لسياسة شارون ضد عرب فلسطين يرى أنه لا يريد أن يرى عربياً

فلسطينياً واحداً فيها، فحتى عرب ١٩٤٨م، المكرهون على الجنسية الإسرائيلية

لقاء بقائهم في أرضهم، قد طالتهم عداوة شارون، وطالب أقطاب في حكومته

بإخراجهم أيضاً من ديارهم، أما الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م،

فبرنامج شارون تجاههم يقوم على إلجائهم للخروج من الضفة والقطاع تحت وطأة

أعمال العنف والإرهاب والهدم والاغتيال التي يمارسها بالفعل منذ ثلاث سنوات،

مع تصعيد متعمد في وتيرة مشروع الطرد الجماعي المسمى بـ (الترانسفير) الذي

يقصد به التهجير القسري إلى الأراضي المجاورة وعلى رأسها الأردن، التي يردد

شارون دائماً أنها (الوطن البديل) للفلسطينيين.

وشارون يعتبر نفسه رجل المرحلة بالنسبة لهدف اليهود الكبير في إفراغ

فلسطين من أكبر عدد ممكن من العرب لينفذ مشروعه بإسكان مليون مهاجر يهودي

جُدد، وتدفعه إلى ذلك دعاوى العنصرية المذكورة، إضافة إلى مشاعر العداء

الدينية المتأصلة. ومعالم المشروع الشاروني في إذلال العرب في فلسطين، تمهيداً

لطردهم منها نهائياً، ماثلة أمام كل ذي عين، وحاضرة أمام كل ذي عقل. ولعل

مشروع الجدار الفاصل الجاري تنفيذه حالياً، هو أبلغ تمثيل لما يرمي شارون

وحزبه إلى تنفيذه في الشهور والسنوات المقبلة، لطرد العرب وخنق ما تبقى في

المعتقل أو (الغيتو) الكبير الذي يجري بناؤه الآن.

لقد تبنت حكومة شارون مشروع بناء جدار الاعتقال، وبدأت العمل فيه

بالفعل في شهر يونيو ٢٠٠٣م، بحيث تكون أسواره بارتفاع ٨ أمتار، وطوله

٧٥٠ كيلو متر.. إنه ليس مجرد جدار، بل حصار أسمنتي رهيب، لا يعزل

الفلسطينيين عن الإسرائيليين فقط كما هو معلن بل يفتت الوجود الفلسطيني نفسه،

ويجعل الشعب الفلسطيني أسيراً في سجن إسرائيلي كبير، إن سور ذلك السجن

عبارة عن سلسلة من الحواجز الصناعية التي تحتوي على خنادق وقنوات عميقة،

وجدران أسمنتية مرتفعة وأسلاك شائكة مكهربة، ويخضع كل هذا لمراقبة ألكترونية

تضمن عدم التسلل والاختراق، وهو لا يحبس البشر فقط، بل يحبس الموارد

الطبيعية، ويسهل السرقات الرسمية للدولة اليهودية، وبحسب تقارير مركز

الإحصاء الفلسطيني فإن الجدار سيحول ٦٥% من المياه الفلسطينية في الضفة

الغربية إلى السيطرة الإسرائيلية، ويساعد على الاستيلاء على ٢٣.٥% من

الأراضي الخصبة فيها.

والجدار إضافة إلى كل ذلك يهدف إلى عزل المدن الكبرى مثل: نابلس،

وجنين، وطولكرم عن المدن التي بها مستوطنات إسرائيلية، وكأن الفلسطينيين هم

الذين يستحقون العقوبة على بناء تلك المستوطنات في أراضيهم، والجدار الفاصل

يلتف كالثعبان حول خواصر المدن الفلسطينية الكبرى في شمال الضفة الغربية،

ليحاصر مدناً هامة مثل رام الله، ويحجز أهم المدن والقرى في جنوب الضفة وعلى

رأسها الخليل وبيت لحم، ليجد ما لا يقل عن ٤٠٠ ألف فلسطيني أنفسهم غرب

الجدار معزولين عن إخوانهم شرقه عزلاً تاماً.

٣ - السياق السياسي: وهو السياق الذي طغا في الفترة الأخيرة، وفيه

تكتسب مخططات شارون الخاصة بفلسطين أبعاداً محلية وإقليمية وعالمية، أما

محلياً فهو يريد في النهاية أن يوجد فراغاً سياسياً في فلسطين، بعد حصار السلطة

الفلسطينية وقيادتها ثم إذلالها ومن ثم إبعادها نهائياً عن ممارسة مهامها (المتواضعة)

في فلسطين، ثم يلتفت إلى القيادة السياسية للحركات الإسلامية فيصفيها بالأباتشي

والـ إف ١٦، وحتى لا يبقى صوت واحد يخاطب الضمير العالمي (إن وجد)

بقضية فلسطين، وفي حال إسقاط أو إبعاد عرفات الذي يعده الإسرائيليون الآن

زعيماً إرهابياً بعد كل ما قدمه لهم، فإنه لن يبقى من يجرؤ على المطالبة بما كان

يسمى (الحقوق المشروعة) للشعب الفلسطيني؛ لأن مطالبة عرفات مجرد

المطالبة ببعض تلك الحقوق في كامب ديفيد الثانية، هي التي أفقدته حظوته عند

الأمريكيين والإسرائيليين، وتركته محاصراً بين أطلال مقره المهدم، بعد أن كان

الزعيم المقدم الذي لا يباريه أحد من زعماء العالم في الرحلات والمقابلات.

وعلى المستوى الإقليمي، يريد شارون أن يُنسي العرب كل ما كان يتعلق

بفلسطين من مشاريع سياسية، وقد برهن على ذلك بأن رد على مبادرة السلام

العربية التي أطلقتها قمة بيروت في ٢٨/٣/٢٠٠٢م، باجتياح الأراضي الفلسطينية

قبل أقل من ٢٤ ساعة على انتهاء تلك القمة.

أما ما كان يسمى بـ (دول الطوق) المحيطة بدولة اليهود، فإنها بعد أن

أصبحت مطوقة عسكرياً، فإن شارون يريد أن يعوقها سياسياً، ليستفيد من هذا

التعويق السياسي في فرض عزلة دولية على القضية الفلسطينية، وهذا ما يحدث

الآن بانتظام، فمَنْ مِنَ الأنظمة الآن يتحدث عن فلسطين في الأروقة الدولية؟ ،

ومن الذي يجرؤ على مخاطبة العالم برفع الأيدي عن المقاومة المشروعة للشعب

الفلسطيني؟ التي يريد شارون من العالم كله أن يعتبرها مجرد (حركات إرهابية) ،

تتنافس قوائم المطاردة الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية وأحياناً (العربية) في

تتبع رموزها وتجفيف منابعها؟!

إن قضية فلسطين تكاد تفقد زخمها السياسي الضخم الذي كان لها قبل سنوات

قليلة، فلم يعد أحد يذكر الآن ما كان يسمى بـ (الصراع) العربي الإسرائيلي،

وإنما يُتحدث الآن على استحياء عما أصبح يسمى بـ (النزاع) الفلسطيني

الإسرائيلي!! ولا أحد يدري ما الذي يمكن أن يطلقوه على قضية العرب والمسلمين

الأولى، إذا غاب عنها البُعد السياسي الفلسطيني أيضاً، بتغييب القيادات الفلسطينية

الحالية بعد غياب البعد العربي والبعد الدولي، إلا أننا على يقين وبعيداً عن

المصطلحات والمسميات أن ذلك الغياب سيكون سبباً في حضور البعد الأصلي

والأصيل للقضية، وهو البعد الإسلامي العالمي، وهو البعد الذي يرتعب شارون

وبوش وأمثالهما من انبعاثه من جديد.

٤ - السياق الاقتصادي: وفيه يحاول شارون أن يستكمل خطط الالتفاف

اليهودي على مصادر الثروات العربية وبخاصة الثروة المائية في الأراضي

المحيطة بفلسطين؛ لأن قدر فلسطين أن أراضيها شحيحة الماء، ولهذا كان هذا

الماء هو الهاجس الأكبر لمغتصبيها من اليهود، لأنهم يعلمون أن بقاءهم ككيان،

مقترن بالماء خارج فلسطين. ولعل هذا من أسباب اختيار اليهود للخطين الأزرقين

في العلم الإسرائيلي والرامزين إلى النيل والفرات، بحيث تتوسطهما نجمة داود

التي ترمز إلى الدولة بمعلمها الديني، وكأنه لا بقاء لتلك الدولة إلا بحيازة ذلك الماء

الذي يجري من حولها، فالماء يرتبط بالأمن في المفهوم الإسرائيلي، وكيان اليهود

حتى عندما كان حلماً، كان يرتكز على فكرة ارتباط البقاء بتأمين مصادر الماء،

ففي مذكراته التي كتبها عام ١٨٨٥م تحدث هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة عن

ضرورة ضم جبل لبنان، وجبل الشيخ إلى الدولة اليهودية، وقال بن جوريون عام

١٩١٧م، أي قبل إعلان الدولة بنحو ثلاثين عاماً: «يجب أن نسيطر على منابع

نهر الأردن، ونهر الليطاني، وجبل الشيخ، ونهر اليرموك» ، وعندما خاض

الإسرائيليون الحرب ضد مصر عام ١٩٦٥م قال بن جوريون: «نخوض معاركنا

على المياه، وعليها سيتوقف مستقبل إسرائيل» . هذا فيما يتعلق بالحروب، وأما

ما يسمى بالسلام الإسرائيلي فهو في مفهومهم لا تسير مراكبه إلا على أمواج المياه

المغتصبة، وعندما طرح شيمون بيريز مشروعه البائد (الشرق أوسطية الجديدة)

قال: «نحتاج في الحرب إلى من يمدنا بالسلاح، ونحتاج في السلام إلى من يمدنا

بالماء» .

وقد سعت الدولة اليهودية بعد قيامها للسيطرة على كل المناطق التي ترى أنها

ستوفر مدداً مائياً للشعب اليهودي، فاستنزفت جُل نهر الأردن ولوثت المتبقي منه،

وخططت للسيطرة على نهر الليطاني بلبنان منذ عام ١٩٥٢م ضمن ما يسمى

بمشروع بن جوريون، وعندما أشعلت (إسرائيل) حرب ١٩٦٧م احتلت الجولان

لضمان السيطرة على بحيرة طبرية، وعندما أقدمت على احتلال لبنان في حرب

١٩٨٢م، أبقت على الشريط الحدودي في جنوب لبنان والذي يشتمل على منطقة

مزارع شبعا الغنية بالمياه، والتي تمتنع (إسرائيل) حتى الآن عن إعادتها للبنانيين،

رغم انسحابها من كل الجنوب اللبناني باستثناء أراضي تلك المزارع، ولا يزال

الصراع القائم بين لبنان وإسرائيل بشأن السيطرة على مزارع شبعا، يهدد بقيام

حرب، قد تكون أول جولة في سلسلة أخرى من (حروب المياه) التي يتوقع كثير

من المراقبين أن يشعلها اليهود بالأصالة أو النيابة في مناطق عدة من أجل تأمين

وجودهم في فلسطين، ومن المعروف أن (إسرائيل) أقامت تحالفاً مع (تركيا)

وتسعى للاستفادة منه في خنق سوريا عبر التحكم بمياه نهر دجلة والفرات عن

طريق حجز المياه خلف (سد أتاتورك) ، وهي تهدد أيضاً بتفجير هذا السد لإغراق

سوريا، تماماً كما هُددت مصر منذ عامين بإغراقها بمياه السد العالي الذي يحجز

خلفه مياه النيل في بحيرة ناصر الضخمة جنوب مصر.

إن الحياة البشرية يمكن أن تبقى بدون نفط ولا كهرباء، ولكنها لا يمكن أن

تبقى بغير ماء، وبلاد العرب يهددها الزحف الصحراوي، بما يجعل ظاهرة

(التصحر) أخطر من الحروب نفسها على المدى البعيد، ولهذا تظل المياه سلعة

استراتيجية أهم للإنسان من البترول وأغلى من الذهب. وحتى البلدان العربية

الغنية بالمياه، تتناوشها الآن الأخطار الطبيعية والمصطنعة فيما يتعلق بمقدراتها

المائية، فمصر مثلاً يعاني ٩٦% من مساحتها من التصحر، وتشكو أقاليم معظم

دول ضفاف النيل من الجفاف رغم جريان النهر الخالد في بلدانها، ويجيء التهديد

الشاروني لمصر بتكثيف الضغط عليها عن طريق مخطط تقسيم السودان الذي تقوم

إسرائيل وأمريكا فيه بدور مريب ليكون نذير خطر كبير، فهو المخطط الذي من

شأنه إذا نجح (لا قدر الله) أن يمكِّن دولة الجنوب السوداني النصراني بزعامة

(جون قرنق) من تهديد كل من مصر والشمال السوداني بالتعاون مع نظم نصرانية

أخرى كإثيوبيا وأوغندا.

أما سوريا والعراق، فقد اجتمع عليهما الخطران الكبيران لكل من أمريكا

وتركيا اللتين تستغل (إسرائيل) علاقتها المتميزة معهما في الإضرار المائي

بالعرب، فقد كُشف عن اتفاقات سرية بين تركيا وإسرائيل لتزويد الكيان اليهودي

بحصص من مياه دجلة والفرات، وقد أطلق المسؤولون الصهاينة تصريحات تدعو

سوريا إلى تأمين ما تحتاجه من المياه من تركيا؛ لأن المياه السورية التي تستغلها

إسرائيل في هضبة الجولان ستظل تحت السيطرة الإسرائيلية، وجاء ذلك على

لسان شيمون بيريز، أما بحيرة طبرية فقد قال أيهود باراك رئيس الوزراء

الإسرائيلي الأسبق: إن أقدام السوريين لن تبتل يوماً بمياه بحيرة طبرية.

المختصون يقولون: إن إسرائيل استنفدت كل الوسائل المتاحة أمامها في

الداخل للاستفادة من المياه، ووصلت مساعيها في إنتاج مزيد من المياه المطلوبة

إلى طرق مسدودة، ولا حل إلا باتخاذ مجموعة من الخطوات للسيطرة على مزيد

من مصادر المياه سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧م، أو في

الأراضي المحيطة بها. فمن أين يؤمن اليهود حاجتهم من الماء؟!

إن معظم مصادر المياه خارج فلسطين، تنبع من لبنان أو تمر في أراضيها،

كمياه الحاصباني والليطاني، والدان، وجبل الشيخ الذي يشكل مع هضبة

الجولان السورية المحتلة خزاناً ضخماً لمياه المناطق الجنوبية لبلاد الشام، وقد

وضع اليهود أيديهم على مناطق طولها ٣٠ كيلو متراً من مجرى نهر الليطاني عند

احتلالهم للشريط الحدودي، واستعملوا مخازن جوفية بواسطة أنابيب ضخ كبيرة

استولوا بها على ٨٠ مليون متر مكعب من مياه نهر الحاصباني، وفي سبتمبر من

العام الماضي أطلق شارون الشرارة الأولى من (حرب المياه) بتهديد اللبنانيين

بالحرب لمنعهم من الاستفادة بنبع الوزاني، وبالجملة فإن دولة اليهود تستولى سنوياً

على ٣٣٠ مليون متر مكعب من لبنان وحدها؛ ولهذا سيظل إبعاد سوريا عن

السيطرة على لبنان حلماً إسرائيلياً تسعى إلى تحقيقه بالسلم المخزية أو الحرب

المجلية.

أما الأردن، فإن أراضيها نادرة المياه، ومن مصادرها القليلة نهر الأردن

الذي يكاد يتحول إلى ساقية بسبب الاستغلال الإسرائيلي، وهذا النهر هو الحد

الفاصل الطبيعي بين حدود المملكة الأردنية والدولة الإسرائيلية، ولكن منابعه أيضاً

تخرج من جبال لبنان ومرتفعات الجولان، وقد بدأت (إسرائيل) في تحويل

مجرى هذا النهر عام ١٩٥٦م، وسيطرت عليه عملياً باحتلالها لمرتفعات الجولان

عام ١٩٦٧م، والأردن يتلقى قسطاً من احتياجاته المائية الآن من إسرائيل بمقتضى

معاهدة السلام بينهما!!

إننا بمعادلة بسيطة نستطيع أن نقول، إن السلام الذي توهم العرب لمدة ربع

قرن أنهم يستطيعون صنعه مع اليهود، هو سلام مستحيل؛ لأنه يعني أن تنسحب

إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عام ١٩٦٧م، سواء في الضفة والقطاع من

فلسطين أو في الجولان أو ما تبقى في جنوب لبنان، وهذا الانسحاب يعني ترك

المصادر المائية الأساسية للكيان الصهيوني، وهو ما يعني موت إسرائيل عطشاً.

وإذا كان السلام سيأتيها بالموت عطشاً، فإن (إسرائيل) قد تعودت على أن

الحروب تروي عطشها من الماء والدماء، وشارون وزير الزراعة ووزير الدفاع

الأسبق، هو أول من يستطيع أن يمزج بين الماء والدماء ليرسم بهما خرائط للدمار

والأشلاء، تماماً كما فعل في حرب لبنان التي قادها عام ١٩٨٢م، ولقد أطلق

شارون تهديدات في شهر إبريل ٢٠٠١م بتنفيذ خطة بقصف محطات المياه اللبنانية

انتقاماً لحرمان (إسرائيل) كما ادعى من مياه نهر الحصباني، بعدما شرعت لبنان

في بناء محطة لضخ المياه من هذا النهر، ولمح مسؤولون إسرائيليون وقتها إلى أن

لبنان بصدد القدوم على ما وقعت فيه سوريا عندما أقدمت على تحويل المياه من

بعض المصادر الأردنية، مما أدى إلى تصعيد التوتر ونشوب حرب عام ١٩٦٧م

التي كان من نتائجها حرمان سوريا من مياه الجولان بدلاً من أن تحصل على مياه

من الأردن، وهدد شارون لبنان مرة أخرى في شهر سبتمبر ٢٠٠٢م بالحرب

لإقدامها على تنفيذ مشروع للاستفادة من نهر الوزاني.

دولة اليهود تعاني من الجفاف - كبقية دول المنطقة - للعام الرابع على

التوالي، والمياه ينخفض مستواها فيها إلى حد خطير، وإذا تُرك شارون وشأنه فلا

يستبعد أن يصاب تحت ضغط الماء بضغط في الدم يدفعه لمغامرات للاستيلاء على

أراضٍ أخرى. والاستيلاء على الأرض هو دائماً مقدمة للاستيلاء على الماء،

وبدون ماء لا توجد كهرباء، وبدون الكهرباء التي تقوم عليها المجتمعات المتقدمة

لن تبقى إسرائيل متفردة بالقوة في المنطقة كما يُراد لها.

إن دولة اللصوص الإسرائيلية تسرق ٩٠% من استهلاكاتها المائية من المياه

العربية، وبخاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧م، وسياسة الإجرام

الأمني الوقائي التي تمارسها (إسرائيل) اليوم ضد الانتفاضة الفلسطينية، لا

تدانيها بشاعة إلا سياسة الإجرام المائي، ومع هذا يخوض إخواننا البواسل في

فلسطين المعارك بالدماء، ضد هذا العدو الشره الشرس، مع شدة حاجتهم للماء

والغذاء، والدواء ومع علمهم أن شهية شارون لمياههم وأرضهم لا تقل عن شهيته

لدمائهم.

إن تصدي الشرفاء من شعب فلسطين لهذا الطاغوت المغرور في الأرض

المقدسة، هو تصد في الوقت نفسه لخطره الماحق على كل دول وشعوب المنطقة،

وحرام على أمة تنافح عنها طائفة منها، أن تخذل هذه الطائفة المقاتلة على أمر الله

في بيت المقدس الذي بارك الله حوله.

٥ - السياق العسكري: وهو مبني على السياق السياسي والاقتصادي

والأمني، فكلما فرغت الساحة المحلية والإقليمية من الثقل السياسي، وتطلع العدو

لمزيد من العلو الاقتصادي، وتهيأ الجو للعمل العسكري. وشارون الذي يفر جنوده

من حَمَلة الحجارة، وترتبك أرتاله العسكرية الجرارة من صواريخ القسام

المتواضعة، لن يقبل بأن تبقى على المستوى الإقليمي أية قوة عسكرية عربية يمكن

أن تمثل تهديداً آنياً أو مستقبلياً لدولة اليهود.

وتظل الحروب النظامية بين الجيوش، هي المخرج الوحيد لليهود لإحراز

نجاحات ضد العرب، كما حدث في كل الحروب السابقة، ولهذا فإن الغالب على

ظني أن شارون بمجرد أن يفرغ من حربه الداخلية الطويلة على الفلسطينيين

سينتقل لحرب خارجية خاطفة على السوريين، فسوريا في قائمة حرب الإرهاب

الأمريكية وهي لا تزال مدرجة ضمن الدول الراعية للإرهاب، ولكن أمرها لن

يحتاج إلى تدخل أمريكا المباشر، وإنما المتوقع أن تترك ذلك للعضو الثالث في

محور الشر (الصهيوساكوني) وهي (إسرائيل) ، والحرب على سوريا فيما يبدو

هي وحدها الكفيلة في المرحلة القادمة باستعادة شارون لرصيده السياسي والعسكري

الذي أفقدته إياه الحرب غير النظامية ضد الانتفاضة، والتي بدا شارون بعد ثلاثة

أعوام من اندلاعها عاجزاً عن الظهور بمظهر المنتصر.

وشن حرب على سوريا، بإشارة خضراء للإسرائيليين من الأمريكيين،

سيفتح للحلف الصهيوني اليهودي النصراني الدنس، فرصة جديدة لاستكمال ما

تبقى من خطط لإحكام الخناق على أرض الميعاد، فبعد تحييد قوة مصر، وتجريد

قوة العراق، لا بد من تجديد الزعامة العسكرية لـ (إسرائيل) بانتصار ربما يكون

سهلاً على سوريا، التي نرى الثعالب الأمريكية تستدرجها الآن إلى شراك الفخ

الإسرائيلي بتكثير التهم وتكثيف التهديدات التي تُعطي مسوغاً لمن أراد المسوغات

بأن سوريا تستحق أن تدك، وأن يصيبها ما أصاب العراق لبقاء قادتها على نهج

المشاغبة، ولو على سبيل المظهرية والعنترية كما كان الشأن في العراق! .. إنهم

يتحدثون الآن عن فرض عقوبات على سوريا؛ لأنها تضر بالوجود الأمريكي في

العراق وقد يتبعون ذلك بكلام عن الحصار، كما حصل في العراق، ويحصل الآن

في فلسطين.

شارون - في رأيي - لن يُرضي غروره العسكري، إذا خرج من السلطة

دون حرب تليق بإجرامه كبطل لجرائم الحرب، وقادته العسكريون من طراز

شاؤول موفاز - رئيس الأركان السابق - وموشيه يعلون - خلفه اللاحق -

يحتاجون إلى فرصة تعطيهم مجداً عسكرياً مجانياً يتأهلون به للنجومية العسكرية بعد

عهد شارون، والفرصة سانحة للأسف، والطريق ممهدة إلا أن يشاغله المجاهدون

فيخرجونه عن الطريق، ويفوتون عليه الفرصة.

* وبعد..

فقد أثبتت أحداث فلسطين الأخيرة، أن معركتنا مع اليهود، لم تكن معركة

عبد الناصر أو السادات، أو الأسد أو عرفات، أو غيرهم من قادة الأنظمة بجيوش

الفوضى المنظمة، وكذلك أثبتت الأحداث أن المعركة في العراق، لم تكن معركة

حزب البعث العراقي، أو حرب الصحاف أو صدام التكريتي، أو معركة الحرس

الجمهوري أو مجلس الرفض الشيعي الثوري، أو جيش (تحرير فلسطين)

العراقي بملايينه الستة.. لا.. ولكن الأحداث فعلاً أثبتت، وتثبت كل يوم، أن

المعركة معركة الإسلام السُني المجاهد، في كل من فلسطين والعراق.

ولهذا فإن واجب الأمة كلها أن تقف خلف المجاهدين ضد المعتدين في بغداد

والقدس؛ لأن انتصارهم انتصار للأمة كلها، وانكسارهم انكسار للأمة كلها.

إن هناك دلائل كثيرة تؤكد على أن حرب التصفية التي أعلنها شارون على

الحركات الفلسطينية المجاهدة وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي، هي مقدمة

لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وهو ما يعني بعد ذلك تصفية حسابات أخرى

مع أطراف وقضايا أخرى، فسلسلة الأهداف الإسرائيلية طويلة، ومسيرة العلو

اليهودي الأنجلوساكسوني تجدُّ مسرعة لمصارعة الزمن حتى لا تتحول دفته إلى

مسار آخر، يتجه صوب إعادة المجد لأمة الجهاد والاستشهاد التي ظهرت طلائع

عزتها منذ زمان على ربى فلسطين، وتظهر الآن على ضفاف دجلة والفرات،

وتخوم كابل وقندهار، ومناكب جروزني وأنحاء أخرى من عالمنا الإسلامي

المستهدف.

إن تصدي المجاهدين الفلسطينيين (وحدهم) لطاغية فظ بحجم شارون، وقوة

مدججة بحجم وإمكانات جيش الاحتلال اليهودي، مع حليف متجبر مستكبر مثل

الولايات المتحدة الأمريكية، لهو في فهم أصحاب الفهم شيء كبير، لا يستطيعه إلا

الأكابر، فلله درهم، وبالله نستجير لنصرهم، وإلى الله نشكو ضُرهم من خذلان

الأمة لهم.

وما نقوله عن المجاهدين الفلسطينيين، نقوله عن المجاهدين العراقيين، أما

بيان الاستنصار الذي أصدرته منظمة حماس في أعقاب محاولة الاغتيال الإجرامية

لشيخ فلسطين، الشيخ أحمد ياسين وغيره من رموز الجهاد الفلسطيني فإنه يفرض

النصرة على كل المسلمين فرضاً، ويوجبها عليهم عيناً، ويجعلها في أعناقهم أمانة

لا تقبل المنة، ومسؤولية لا تتحمل التساؤل.

يقول الله تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ

بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] (الأنفال: ٧٢) ، وليس بيننا وبين أعدائنا وأعداء إخواننا

في فلسطين ميثاق، مهما ادعى أهل النفاق؛ فبالنصرة التي طلبوها منا قد أوجبوا

علينا، ولينظر كل امرئ في الجواب الذي سيقدمه لله غداً حينما يُسأل عن تلك

النصرة للمجاهدين الكبار الذائدين عن الدين والديار في فلسطين وغيرها من بلاد

المسلمين.


(١) في مقال بعنوان: (حرب الخليج الثالثة وتداعياتها الخطرة) المنشور قبل الحرب بستة أشهر في عدد (١٨٠) من مجلة البيان شهر شعبان ١٤٢٣هـ.
(٢) جدلية العلاقة بين اليهود والنصارى المعاصرين، لا تزال موضع لغط واختلاف وعدم وضوح، ولعلي أخصص مقالاً، أو رسالة في إيضاح أبعاد هذه العلاقة بإذن الله.