المأساة الصومالية
مذكرات شاهد عيان
أحمد بن عبد الرحمن الصويان - كينيا
يمر الشعب الصومالي بمأساة كبيرة واسعة النطاق، حيث تستمر الهجرة
الجماعية منذ أشهر عديدة هرباً من رحى الحرب القبلية التي تدور على أرض
الصومال، ويقدر عدد اللاجئين الصوماليين في الأراضي الكينية بحوالي أربعمائة
ألف نسمة، وفي الإحصاءات الرسمية الكينية الصادرة في شهر يونيه من عام
١٩٩٢ م بلغ عدد اللاجئين يومياً ٥٥٠ شخص.
وقد قمت بتيسير الله بزيارة إلى مواقع اللاجئين في مواقع عديدة من المدن
الكينية، مثل منديرا، وعيلواق، وبانيسا، وإيفو، وليبوي. كما زرت أيضاً في
الأراضي الأثيوبية مخيمي صوفتو ودولو، وزرت داخل الأراضي الصومالية مدينة
حواء، فرأيت في هذه المخيمات ما يجل عن الوصف، ويعجز القلم عن ذكره.
عشرات من الأطفال يتساقطون يومياً بسبب الجوع وسوء التغذية، عشرات من
النساء والعجزة أهلكهم المرض والحزن ... فكل أسرة تحمل مأساة تنهد لها الجبال،
وإذا فاتحت أحد اللاجئين عن حاله سرد لك حكاية طويلة من الأسى والعنت. فهذا
أحدهم يحدثني عن أسرته بأنها كانت قبل شهرين عشرة أفراد، وأما اليوم لم
يصبحوا إلا أربعة. وطفل آخر لم يبلغ العاشرة من عمره رأيته ملقى على الأرض
ينتظر منيته، وحدثوني أنه حافظ لجزئي عم وتبارك ولم يبق من أسرته أحد
سواه.. ومآسٍ كثيرة وكثيرة يطول ذكرها ويصعب حصرها.
وفي مدينة منديرا مات في يوم واحد أثناء وجودنا فيها أكثر من ثلاثين طفلاً
بسبب الجوع والمرض، ورأينا عدداً غير قليل من الأطفال والنساء في حالة
الاحتضار، ومن المحزن أن ٨٠% تقريباً من النساء الحوامل يمتن أثناء الولادة
لعدم وجود الرعاية والعناية بهن، ولهذا استحدث الناس بجوار كل مخيم مقبرة
جديدة.. وفي عدد من الأماكن التي نذهب إليها كان الناس يقولون لنا: لا نريد منكم
طعاماً ولا شراباً، ولكن نريد منكم أكفاناً نكرم بها موتانا! !
بل حتى لباس الأحياء لا يتوفر عند بعضهم، فالعري أصبح ظاهرة طبيعية
خاصة بين الأطفال، وكم من امرأة لا تستطيع أن تخرج من كوخها لأنها لا تجد ما
تستتر به! وقد رأيت في مخيم -إيفو- وهو أحد المخيمات القليلة التي وزعت فيها
الخيام - ينزعون البطانة الداخلية لخيامهم، ويلبسونها النساء والأطفال لعدم توفر
الكساء..
وزاد الأمر سوءاً وقسوةً الجفاف الشديد الذي أصاب الأراضي الكينية
المجاورة للصومال، مما أدى إلى موت المواشي والحيوانات التي هي مصدر
الرزق الوحيد لعامة الناس. وهذا أدى إلى هجرة جماعية لأهالي البادية الكينية،
وقد زرت مدينة وجير الكينية فوجدتها أكثر سوءاً من بعض مناطق اللاجئين
الصوماليين. ففي مخيم واحد مات حوالي ٢٠% من الأطفال تحت سن خمس
سنوات خلال شهر أبريل من عام ١٩٩٢ م فقط، وهم كلهم مسلمون ... ! !
والمياه إحدى المشكلات الأساسية التي تعاني منها المنطقة، حيث لا تتوفر
الآبار بشكل كاف، ففي مدينة وجير الكينية على سبيل المثال يوجد سبعة وأربعون
بئراً ارتوازياً، لا يعمل منها الآن إلا سبعة عشر بئراً فقط. وقد وصل الحال
ببعض الناس أنهم يسيرون أكثر من خمسين كيلو متراً بحثاً عن الماء، وفي بعض
مواقع اللاجئين رأيت الناس يصطفون إلى منتصف النهار لكي يحصلوا على إناء
من الماء لا يكفيهم ليوم واحد..! !
وبسبب انعدام أبسط المتطلبات البشرية انتشرت الأمراض انتشار النار في
الهشيم، ومن أبرز الأمراض التي رأيتها:
١- أمراض سوء التغذية، حتى لا ترى إلا هياكل عظمية لا تقوى على
الوقوف أو الحركة من شدة الإعياء.
٢- أمراض نقص البروتينات وخاصة بين الأطفال - وهؤلاء بطونهم منتفخة
بصورة عجيبة جداً، حتى أصبح هذا المرض ظاهرة متفشية بشكل كبير جداً، وقد
رأيت في مخيم عيلواق طفلاً لم يتجاوز الخامسة من عمره وانتفخ وجهه وبطنه
وأصبح كأنه من عالم آخر..!
٣- الأمراض الجلدية بأنواعها المختلفة، حتى إنني رأيت في مخيم دولو
الأثيوبي أشكالاً عجيبة تقرحت جلودهم وتغيرت أشباههم.
٤- كما انتشرت بينهم أمراض السل والملاريا والحصبة والإسهال.
أما الأحوال في داخل الصومال فهي أشد مرارة وقسوة، حيث مارست القبائل
المتناحرة دورها بكل صلف وفوضوية، تغير وتقتل وتحرق الأخضر واليابس..
والناس يفرون من أرض إلى أرض بحثاً عن الأمن.. وقد بلغ الوضع بالناس إلى
حال شديدة لا تتصور، ففي مدينة جلب ومركة وقُربولي بدأ الناس يطبخون جلود
الحيوانات ويأكلونها لأنهم لم يجدوا غيرها..! !
وعلى الرغم من أن اللاجئين الصوماليين في كينيا مسلمون ١٠٠% إلا أن
التنظيمات التنصيرية غزت الساحة بصورة مذهلة جداً، فالنشرات التنصيرية
أصبحت بأيدي الناس، وقد رأيت بنفسي بيد أحد الأطفال قصة مصورة باللغة
الصومالية محتواها أن المسيح هو المخلص والمنقذ..! ورأيت في مخيم وجير
منصرة بريطانية تقدم مساعدات غذائية للمتضررين وتساعدهم في بناء منازلهم من
القش.. ولكي تستطيع أن تؤثر في صفوفهم سمت نفسها بعائشة..! !
ومن أبرز المنظمات التنصيرية العاملة في الميدان:
١- الصليب الأحمر.
٢- منظمة كير Care الكاثوليكية البريطانية.
٣- منظمة أطباء بلا حدود MSF الهولندية.
٤- منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية.
٥- منظمة أوكسفام البريطانية للإغاثة.
٦- منظمة العون الأمريكي.
٧- منظمة الرؤيا العالمية.
٨- منظمة جي تي زت الألمانية.. وغيرها.
والعجيب أن هذه المنظمات التنصيرية تريد أن تحتكر العمل بأكمله، وتضيق
على المنظمات الإسلامية العاملة في الميدان، فبالتنسيق مع منظمة غوث اللاجئين
التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) احتكرت منظمة كير الكاثوليكية توزيع المواد
الغذائية، كما احتكرت منظمة (MSF) الفرنسية الأعمال الطبية، وتحاول هذه
المنظمات أن تعيق أعمال الهيئات الإسلامية وتعرقلها، ولكن يأبى الله ذلك. فعلى
الرغم من هذا الزخم التنصيري المتلبس بلباس الإغاثة؛ إلا أن الناس - بحمد الله
تعالى - لا زالوا يشعرون بهويتهم الإسلامية - ويفرحون فرحاً شديداً إذا رأوا رجلاً
مسلماً. ومن المواقف التي أسعدتني في مخيم عيلواق أن الناس اجتمعوا حولنا ولما
أردت الخروج من بينهم دفع أحد الأطفال أخته الصغيرة قائلاً لها: ابتعدي عن
طريقه أتظنين أنه نصراني. إنه مسلم! فأظهرت استبشاري بذلك لأحد العامة،
فقال لي والأسى يعصر قلبه: لقد كنا في بادية الصومال نسأل الله -عز وجل- أن
لا يرينا كافراً. وكان الناس لا يشربون في الإناء الذي شرب فيه الكافر إلا بعد
غسله بالتراب! ثم قال: وأما الآن فأصبحنا نفرح بمشاهدتهم ونجري من وراءهم
لنبحث عن لقمة العيش التي لم نجدها إلا منهم، ثم ذرفت عيناه وهو يقول: فأين
أنتم يا مسلمون..؟ ! !
وأجمل في آخر هذا التقرير الاحتياجات العاجلة للاجئين بالنقاط التالية:
١- المواد الغذائية بمختلف أنواعها، وخاصة حليب الأطفال المجفف الذي لا
يتوفر في كينيا.
٢- المياه النقية وهذا يتطلب حفر آبار ارتوازية عديدة.
٣- توفير الأطباء والأدوية.
٤- توفير الملابس والخيام.
وأخيراً ...
هذا نداء عاجل أبعثه باسم اليتامى الذين فقدوا آباءهم فلا تسمع إلا صراخهم،
باسم الثكالى اللاتي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن. باسم الشيوخ والعجزة
الذين أسقطهم الجوع فلا تسمع إلا نحيبهم.. باسم مسلمي الصومال الذين يموتون
في كل ساعة وما من مجيب.
نداء أبعثه إلى كل مؤمن بالله تعالى يهمه أمر المسلمين..
إلى كل مؤمن مصدق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أعط
منفقاً خلفاً..) وبقوله: (ما نقص مال من صدقة..) ..
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.. اللهم فاشهد