[تجربة عملية في إحياء اللغة العربية الفصحى]
حسين حسن أبو بكر
اللغة العربية الفصحى وسام شرف على صدر أمتنا العربية، ويكفي بالعربية فخراً أن تكون آية إعجاز القرآن، وأن يكون تعليمها فداء من لا فداء له من أسرى بدر، حين أوكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للقادرين على التعليم من الأسرى تعليمَ أبناء الأنصار القراءة والكتابة باللغة العربية الفصحى، باعتبارها لغة الرسالة السماوية لإبلاغها للحاضر والبادي.
ومع هذا نجد من يسوق التهم يكيلها عن اللغة الفصحى وعن تعلُّمها أو الحديث بها بأنها لغة صعبة، بزعم أننا في عهد اندثرت فيه هذه اللغة. ودفع هذه الاتهامات ودحضها:
أن ما يشاع عن صعوبتها ليس بصحيح؛ إذ كيف يخشع العامي في صلاته، ويوجل قلبه فيبكي خشية مما في آيات الله وهو لم يفهمها؟! بل كيف يفسر ما يرد في خطبة الجمعة إذا لم يُحِطْ بها علماً؟!
أم كيف يعي أخبار العالم عبر المذياع وهي بلغة فصيحة؟! حتى الصغار يتفاعلون مع ما يبث لهم من برامج (مدبلجة) ، مع أنها بلغة فصيحة؛ فأين وجه الصعوبة إذن؟!
فإحياء اللغة العربية والتخاطب بها، وجعلها لغة لكثير من العلوم ليس صعباً، بل من الواجب تطبيقها وممارستها لدى أمة شعارها الإسلام، ولغتها القرآن. فالواقع اللغوي للشعوب العربية، أطفالاً وكباراً، يتسم بظاهرة لغوية تسمى «الثنائية اللغوية» التي لم تأخذ حظها بعدُ، حتى الآن، من الوصف والتحليل والعلاج. وتشير الدراسات العلمية المبنية على الملاحظة والتحليل أن الله زود الطفل بالقدرة على اكتشاف قواعد اللغة التي يتعرض لها باستمرار، ويكتشف قواعد اللغة من جملة المفردات والتراكيب التي تعرض عليه، وقد يخطئ القاعدة في البداية لقلة الأمثلة والعينات، ولكنه ما يلبث أن يراجع نفسه ويعدّل القاعدة حتى يتقن اللغة تماماً، فيكاد الطفل يصحح هذه الأخطاء من تلقاء نفسه حتى يصل إلى رتبة الإتقان.
يقول العلماء: إن هذه القدرة تبدأ من خلق الإنسان، وتبلغ ذروتها في سني حياته الأولى، ثم تأخذ بالضمور والاضمحلال بعد سن السادسة، لتموت قريباً من سن البلوغ، وهذا يعني أن السن المثلى التي يكتشف فيها الإنسان قواعد اللغة التي يسمعها حوله عندما يكون طفلاً دون السادسة، وأنه بعد ذلك ـ إن لم يكن قد أتقن قواعد اللغة ـ يحتاج إلى من يلقنه ويعلمه إياها؛ إذ لا يكون قادراً على اكتشافها بنفسه، كما أنه ـ في الغالب ـ لن يستطيع أن يصل إلى درجة الإتقان التي بلغها من اكتشف قواعد اللغة في السن التي يكون مهيأ لها.
والجدير بالذكر أن هذا الجهاز لا تنحصر قدرته على اكتشاف لغة واحدة، بل يمكنه أن يكتشف قواعد عدة لغات، وبدرجة من الإتقان، إذا تيسر له القدر الكافي من السماع والممارسة.
فالطفل العربي، يتعرض للعامية في سني حياته الأولى، فيتعرف على مفرداتها، ويتقن تراكيبها وقواعدها، حتى إذا ذهب إلى المدرسة وجد أن لغة الكتاب والمعرفة غير اللغة التي يتقنها. ونتج عن هذه المأساة أمران:
١ ـ عزوف الطفل عن القراءة؛ فإنها تكلفه مجهوداً شاقاً، ولا يفهم كل ما يقرأ، فلا يستمتع بها، والنتيجة ألا يُقبِل على القراءة إلا مضطراً كاستذكار لامتحان أو نحوه، ويصبح هناك نوع من العداء بين (الطفل ثم الشاب) والكتاب.
٢ ـ صعوبة التحصيل المعرفي والعلمي؛ لأن الطفل غير متمكن من أداته، وهي اللغة الفصحى.
- وهنا تظهر الحاجة إلى حل ما يسمونه بصعوبة اللغة:
إذاً لا بد من البحث عن الحل! الحل ذو شقين:
الأول: يكمن في أن يتقن أطفالنا الفصحى قبل دخول المدرسة ـ بالإضافة إلى العامية، ولكن معظم البيوت في مجتمعنا العربي اليوم لا يحسن أي من الأبوين الفصحى. وهنا نصل إلى الحل الثاني.
الحل الثاني: يكون بتدريب المعلمين والمعلمات في المدارس ـ دور الحضانة ـ الروضات ـ الابتدائية على المحادثة بالفصحى؛ بحيث تكون لغة المدرسة طوال اليوم المدرسي.
فعلى غرار الحل الأول بدأ الدكتور عبد الله الدنان يكلم ابنه (باسل) قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً بالفصحى، وكانت والدة باسل تكلمه بالعامية، وكان عمر ابنه آنذاك سنة واحدة، أتقن المحادثة بالعربية الفصحى ـ يرفع وينصب ويجر دون خطأ ـ كما أتقن المحادثة بالعامية وعمره ثلاث سنوات، وعندما أصبح في الصف الثاني الابتدائي كان قد قرأ ٣٥٠ كتاباً من كتب الأطفال. كرر الدكتور عبد الله الدنان التجربة نفسها مع ابنته (لونه) التي تصغر باسلاً بأربعة أعوام، فأتقنت الفصحى والعامية مثل باسل تماماً، ثم انتقل إلى التطبيق الجماعي في رياض الأطفال؛ فأنشأ روضة الأزهار العربية بدمشق، ومن ثم أخذت الفكرة بالانتشار والتطبيق في أكثر من دولة عربية، وإن كانت المملكة العربية السعوية أكثر هذه الدول، وقد تبنت الفكرة حتى الآن أكثر من ستة عشر مدرسة منتشرة في سبعة أقطار، وقد تزايد الإقبال على البرنامج في السنتين الأخيرتين بشكل كبير لأسباب من أهمها: تطبييق الفكرة بالمدارس، وتشجيع المعلمين والمعلمات على المبدأ الأساس الذي يقوم عليه البرنامج، وهو اعتماد اللغة العربية الفصحى لغة وحيدة للتواصل في المدرسة طوال اليوم المدرسي داخل الصف وخارجه. والسبب الآخر هو النتائج الملموسة لتطبيق البرنامج. ومن أهم النتائج المذهلة التي حصل عليها الطلاب والطالبات الذين طبق عليهم البرنامج: زيادة تحصيلهم العلمي بنسبة تتراوح بين ٨% إلى ١٩% ليس فقط في مواد اللغة العربية، بل في جميع المواد، وهو ما أثبتته دراسة علمية أجريت لهذا الغرض، بالإضافة إلى إتقان التحدث باللغة العربية الفصحى، حيث تنمو لدى الطفل مهارات القراءة والكتابة وزيادة القدرة على الاستيعاب، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى الثقة الكبيرة بالنفس والجرأة على النقد والاستفسار، هذا بالإضافة إلى ارتفاع مستوى التحصيل الدراسي في جميع المواد الدراسية.