للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدور السياسي المؤمل لهيئة العلماء المسلمين في العراق]

د. أكر م المشهداني

بُعَيْدَ غزو العراق، وانهيار النظام السابق، وما حصل من انفلات أمني وشيوع الفوضى والنهب والسلب، وأعمال التصفيات الجسدية التي قامت بها قوى منها من تسللت عبر الحدود المستباحة، ومنها قوى داخلية؛ فضلاً عن حالة السلوك الجمعي التي اتسمت بها تصرفات الغوغاء من العامة في ظل غياب السلطة الأمنية مما ولّد الخشية من ترسيخ وتنامي الفوضى الأمنية نتيجة تقصير متعمد من قوة الاحتلال.

لذلك فقد تداعى علماء الدين من خلال المساجد ليأخذوا دورهم (المغيَّب سابقاً) في الشارع العراقي من أجل ضبط الأمن في الأحياء السكنية، وحماية المساجد، وكان لذلك الدور الأثر الكبير والمهم في احتواء الفوضى الأمنية، وحراسة الأحياء، من خلال تجنيد الشباب المتطوعين بمختلف المناطق في تنظيم الدوريات المسلحة والحراسات الليلية لحماية الدور والشوارع والأزقة والمتاجر، واسترجاع الأموال المسروقة التي نهبت من دوائر الدولة، مما عزز من الموقع الاعتباري المؤثر لعلماء الدين كقوة ضبط اجتماعي فاعلة ومؤثرة في المجتمع، وما زال العراقيون يتذكرون جيداً كيف نجحت تلك الجهود العفوية في ضبط الأمن والاستقرار في الأحياء والمدن، بالرغم من غياب الشرطة والسلطة نهائياً، وحظيت مبادرة علماء الدين بتقدير ورضا عموم العراقيين، ورشحتهم كبديل أمين ومقتدر للسلطات المحلية الغائبة.

وحين بدأت الأحزاب الوافدة مع دبابات الغزاة المحتلين تمارس دوراً مشبوهاً في محاولة إدارة الشأن الداخلي تحت شعارات ولافتات طائفية وعرقية ومذهبية، مما ينذر بتعميق التفرقة في البلاد وشرذمة العراق، وتفتيت الوحدة الوطنية؛ فقد تداعى علماء الدين العراقيون إلى: تأسيس (هيئة علماء المسلمين في العراق) ،لتكون مرجعية دينية ووعاء ينضوي تحته علماء الدين، بعيداً عن النعرات الطائفية والمذهبية، ومحاولة صادقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقف تداعي الأوضاع الداخلية، وكان في مقدمة أهداف الهيئة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي بكل طوائفه، وكانت للهيئة وما زالت علاقات تنسيقية مع بعض رموز الشيعة، بل انضم تحت لواء الهيئة تيار (الخالصي) المشهور بوطنيته، وأعداد أخرى من علماء الشيعة، وبذلك أكدت الهيئة على الوحدة في مواجهة الاحتلال، وحفل نشاط الهيئة في حماية المساجد وتعميرها، وتنسيق جهود خطباء المساجد من أجل شحذ الهمم الوطنية في مواجهة خطر الاحتلال، إضافة للقيام بالعديد من المهام الضبطية والاجتماعية والإنسانية.

ورغم أن الهيئة لم تُسَمِّ نفسها هيئة علماء السنة، بل أسمت نفسها (هيئة علماء المسلمين) إلا أنها استطاعت أن تفرض نفسها بجدارة واقتدار كمرجعية عليا للسنة في العراق، في موازاة المرجعيات الشيعية دون تناحر أو تنافس، ومارست الهيئة أدواراً ثقافية وسياسية وإجتماعية وإنسانية في مختلف محافظات العراق، ومن أعظم امتيازات الهيئة أنها تضم علماء سنة وشيعة وكرد وتركمان وهو ما لا تحظى به أي مجموعة أخرى في العراق اليوم.

لم تنجرف الهيئة إلى تكتيكات المرحلة السياسية التي تذرعت بها قوى وأحزاب ذات عناوين إسلامية أخرى تحت حجة أن المشاركة في المجلس هي (فرصة للدفاع عن الشعب العراقي المسلم، والقرب من مصادر القرار) ... لكن تسلسل الأحداث الدامية في العراق أكد خطأ هذا المنهج؛ فالمجلس كان (صناعة أميركية) وليس له إلا أن يكون (أداة) لتنفيذ وترويج المخطط الأميركي؛ فقد سقط المجلس في أول امتحان له حين قرر في يوم تأسيسه ١٢/٧/٢٠٠٣م اعتبار يوم التاسع من نيسان، يوم احتلال بغداد، (عيداً وطنياً للعراق) ، ولم ينفع اعتراض ممثل الحزب الإسلامي في منع المجلس من اتخاذ هذا القرار المشبوه. ثم جاءت أحداث ملحمة الفلوجة تتويجاً لتصاعد المقاومة العراقية، ووجدنا كيف أن أطرافاً كثيرة في مجلس الحكم مارست أدواراً مشبوهة، وكان أغلبهاً (متأمركاً أكثر من الأميركان!) ، وفي الوقت نفسه كانت أحداث الفلوجة امتحاناً عسيراً لمصداقية الحزب الإسلامي العراقي ذي الماضي العريق، واليد النظيفة، وحين رفض أهل الفلوجة أن تمارس أي جهة من (مجلس الحكم) مهما كانت دور الوساطة بين المجاهدين وبين قوات الاحتلال، كانت (هيئة علماء المسلمين) هي المظلة الأمينة والمقبولة والمرحب بها وموضع الثقة من أهل الفلوجة ومجاهديها، ولا يمكن مطلقاً إنكار الدور الذي مارسته قيادة الحزب الإسلامي العراقي مع هيئة العلماء في التوصل لاتفاق الهدنة ووقف النار بين المجاهدين وقوات الاحتلال، والذي كان يشكل انتصاراً سياسياً للمقاومة في إجبارها القوة المتغطرسة الأميركية للإذعان وقبول التفاوض مع المقاومة الجهادية. ولكن ما يجب أن لا يغيب عن البال أن الواقع يؤكد أن أهل الفلوجة المقاومين قبلوا مشاركة ممثلي الحزب الإسلامي كحزب عراقي عريق، وليس باعتباره طرفاً يمثل مجلس الحكم الانتقالي المنحل.

ثم جاءت عملية التدخل والمناشدة الإنسانية لإطلاق سراح الرهائن الأجانب الذين كانواً أسرى لدى جهات عديدة من المقاومة العراقية، كانت فرصة لإبراز دور ومكانة هيئة علماء المسلمين، وكلمتها المحترمة والمسموعة لدى المجاهدين الذين قبلوا طواعية نداء الهيئة بإطلاق سراح المرتهنين، بل سلموهم إلى مقر الهيئة؛ بحيث أن أطرافاً من دول المخطوفين بدأت ترسل مبعوثين على مستويات عالية إلى العراق التماساً لتدخل هيئة العلماء في إطلاق سراح المحتجزين، وفعلاً تمكنت الهيئة من إطلاق سراح عدد كبير منهم، مما عزز من مصداقية الهيئة واحترامها، وكونها الصوت الأقرب والأوثق والأصدق لدى المقاومة العراقية المجاهدة، وفي الوقت ذاته رشحها لممارسة دور سياسي، إضافة للدور الإنساني الاجتماعي.

وبالرغم من أن هيئة علماء المسلمين وعبر المتحدثين باسمها ترفض أن تدعي دوراً سياسياً في منهاجها، إلا أن واقع الحال ومجريات الأحداث أكدت أن الهيئة مرشحة بكفاءة لممارسة دور سياسي محترم مقبول، وموضع الثقة والاعتبار من عموم الشارع العراقي، وبخاصة أهل السنة، والمعتدلين من الشيعة، وكذلك أنها تصلح ممثلاً ومعبراً عن المقاومة العراقية ليس بالضرورة ممثلاً مباشراً، ولكن من خلال موقعها الاعتباري ومنزلتها في نفوس المقاومين، وثقتهم بها؛ لأن الهيئة لم تتلطخ أياديها بمصافحة المحتلين الغزاة أو الخنوع لإرادتهم، أو ولوج لعبة التكتيكات السياسية المستنكرة التي مارستها أطراف أخرى.

ويمكن اعتبار الخطوات التالية التي مارستها الهيئة دليلاً على قدرتها للعب الدور السياسي في المرحلة الحالية والقادمة للأسباب التالية:

١ - أن الهيئة لم تهادن الاحتلال، ولم تدخل في لعبة التكتيكات السياسية، وثبتت على مواقفها الوطنية المعارضة للاحتلال وسمته بالاحتلال ولم تسمه (تحريراً) كما يحلو لأطراف أخرى تسميته، وهذا ما أدى لتعزيز موقع الهيئة وهيبتها في نفوس العراقيين وقبولها مرجعاً لدى أطراف المقاومة العراقية بكل مشاربها وتوجهاتها.

٢ - إن الهيئة وقفت موقفاً واضحاً في رفض مجلس الحكم الانتقالي، واعتبرته صراحة (صنيعة أميركية) ويهدف لتسويغ الاحتلال، وترويج السياسة الأميركية، ورغم أن الهيئة كانت وما زالت على علاقة طيبة بالحزب الإسلامي العراقي، والحزب الإسلامي الكردستاني، إلا أنها عبرت بصراحة عن عدم رضاها عن دخول الحزبين في مجلس الحكم المعين أميركياً، بالرغم من تقدير الهيئة للماضي النظيف للحزبين، وثقتها بنظافة سمعة ممثلي الحزبين في مجلس الحكم.

٣ - الهيئة وقفت بشدة ووضوح ضد موضوع إجراء (انتخابات فورية) في العراق، في ظل الاحتلال، وسطوة الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب الأخرى، وفي ظل الأوضاع الأمنية المضطربة، مما يعني عدم توفير أبسط متطلب من متطلبات الحياد والنزاهة والمصداقية في هذه الانتخابات. والهيئة ترفض قطعاً اتهامات بعضهم الموجهة لأهل السنة أن رفضهم الانتخابات الفورية إنما هو خوف من (التهميش) ، وترى أن قادم الأيام والانتخابات الحرة النزيهة ـ إن كانت نزيهة فعلاً ــ سوف تكشف الأكاذيب.

٤ - لم تختلط على الهيئة استراتيجيات التوجه المصلحي ولا تكتيكات المرحلة، وكان تأكيدها الواضح على المقاومة حقاً مشروعاً وواجباً على العراقيين جميعاً لا ينتظر الفتوى، وشاركت الهيئة في العمل السياسي رفداً للجهود الأخرى، ودرءاً لمفاسد الانعزال عن ساحةٍ أراد الاحتلال من أول يوم تهميش القطاع الذي تمثله هذه الهيئة، والشريحة الأعظم من الشعب العراقي التي تمثلها.

٥ - لم تنجرّ الهيئة إلى اللعبة الطائفية التي ابتدعها (بول برايمر) من خلال نظام المحاصصة الطائفية المشبوهة، ورغم أن الهيئة تعلم علم اليقين أن وصف (السنة) بالأقلية وصف ظالم وغير صحيح، كونهم لا تقل نسبتهم عن ٦٠% من سكان العراق، إلا أن الهيئة بقيت تعتبر الحديث عن (أغلبية) و (أقلية) بين (مسلمي العراق) إنما هي لعبة يريد من ورائها المحتلون تأجيج الخلافات والانقسامات بين صفوف الشعب العراقي، وكان الشيخ حارث الضاري ـ حفظه الله ـ في أكثر من تصريح صحفي قد اعتبر الحديث عن غالبية شيعية بالعراق أنها «دعاية ادعوها.. وسكتنا عن مجاراتها لأسباب وطنية» ، وقوله: «بدلاً من الحديث عن أغلبية شيعية أو سنية ينبغي علينا الحديث عن أغلبية إسلامية ساحقة في العراق حيث المسلمون يشكلون ٩٧% من سكان العراق» وفي هذا تأكيد واضح للوحدة الوطنية والحفاظ على عروبة وإسلامية العراق.

٦ - الموقف الصريح للهيئة من المقاومة، وقد رفضت مطلقاً أن تسمي أعمال المقاومة بالإرهاب، ورفضت تشويه المقاومة كونها مقاومة غير عراقية، بل أصرت على أنها مقاومة عراقية وطنية مجاهدة، وأثبتت الأيام مصداقية موقف الهيئة. كما أن المتحدثين باسم الهيئة كانوا يسمون المقاومين بأنهم (أبناؤنا المقاومون) ، ورفضوا أن يسموا عملية التفاوض بشأن الفلوجة بأنها (وساطة) وقالوا (نحن لا نتوسط بين أهلنا وبين المحتل) .

٧ - الهيئة لم تمارس أي ضجة إعلامية، والتزمت الهدوء والصمت فترة طويلة، ومارست العمل الهادئ المنظم، وبقيت صوتاً واحداً، لم يشذ عنه منشق، أو معارض، وكل الناطقين والمتحدثين عن الهيئة داخل العراق وخارجه يتكلمون بصوت واحد، مما يكرس مصداقية الهيئة وحسن تنظيمها. وأحسن ما قيل عن الهيئة أنها كانت كمن يرتقي جبلاً عالياً بثقة واقتدار وسط الركام السياسي والفكري في عراق ما بعد الاحتلال.

٨ - الهيئة عززت من (حقيقة شعبية) وهي وجوب الاستماع إلى صوت (الأغلبية الصامتة) في العراق، وسط بعض الأصوات المنكرة التي سيطرت على المشهد العراقي وبخاصة عبر وسائل الإعلام خلال الفترة المنصرمة منذ الأحتلال من رموز مجلس الحكم وأحزاب العمالة الذين حاولوا تكريس أهداف وغايات مشبوهة تخدم سياسات الاحتلال.

٩ - الهيئة حذرت بصراحة وما زالت تحذر من خطر التغلغل الصهيوني في العراق المحتل، تحت ستار منظمات البحث والمعلومات، والهيئات الإنسانية، وصفقات عقود ما يسمى (إعادة إعمار العراق) . كما دعت الهيئة إلى مقاطعة البضائع الأميركية والبريطانية؛ لأن ترويجها يساعد القوات الغازية للعراق في جرائمها ضد العراقيين.

١٠ - ترفض الهيئة أن تطرح نفسهاً كبديل سياسي، أو مشروع سلطة، أو حزب سياسي، بل تؤكد أنها هيئة تعمل لتوحيد كلمة العراقيين، ورفض الاحتلال والمطالبة برحيل الغزاة وتسليم السلطة إلى أبناء العراق المخلصين الحقيقيين من خلال انتخابات حرة نزيهة تشرف عليها الجامعة العربية والأمم المتحدة، وتتوفر لها كل الضمانات الأمنية والسياسية.

١١ - تلتقي الهيئة مع دعوة بعضهم في وجوب إقامة مجلس «نيابي حر ومنتخب» لكنها ترى أن أوان قيام هذا المجلس يكون «بعد رحيل الاحتلال» وليس تحت حرابه ورقابة عيونه وضغط ثقله. كما أن الهيئة ترفض تسييس الوزارات، وتدعو إلى أن يديرها التكنوقراط الوطنيون نظيفو السمعة واليد، وترفض الهيئة الممارسات الشاذة التي يمارسها وزراء مجلس الحكم في جعل كل وزارة ضيعة لحزب أو طائفة لوزير، كما أن الهيئة وقفت بوضوح مع سياسة المصالحة الوطنية الشاملة، وترفض بشدة ما سمي بسياسة الاجتثاث.

١٢ - تربط الهيئة بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والاحتلال الأميركي للعراق، وترى أن تفاعل العراقيين مع القضية الفلسطينية كان هو السبب الأساس في دفع الصهاينة للإدارة الأميركية إلى غزو العراق، والسعي الواضح إلى تفتيته وتقسيمه وإضعافه كقوة مؤثرة في موازنة القوى تجاه العدو الصهيوني.

١٣ - الهيئة تؤكد على عروبة العراق وكونه جزءاً من الأمة العربية والإسلامية، ووقفت بشدة ضد مشروع الدستور المشوه الممسوخ الذي يجرد العراق من عروبته ودينه، أو تهميش الشريعة الإسلامية التي هي دين الأغلبية العظمى من العراقيين، مع إقرار الهيئة بحقوق غير المسلمين من العراقيين في إطار العراق الموحد.

١٤ - إن الهيئة قدمت إلى مبعوث الأمم المتحدة (الأخضر الإبراهيمي) مشروعاً وبرنامجاً متكاملاً لرؤية عراق ما بعد تسليم السلطة وزوال الاحتلال، وكان هذا المشروع موضع الاحترام والتقدير من قِبَل الأخضر الإبراهيمي.

- وبعد:

فإن هيئة علماء المسلمين رغم كونها تصرح على لسان ممثليها أنها ليست بديلاً سياسياً، وأنها ليست مشروع سلطة بديلة، إلا أنها في حقيقة الأمر والواقع طرحت نفسها بقوة في الساحة باعتبارها موضع ثقة وتقدير من أغلبية العراقيين، وفيهم نسبة لا يستهان بها من الشيعة والأكراد والتركمان فضلاً عن السنة، لا بل إن الحقائق تؤكد أن عدداً كبيراً من علماء الدين الأكراد والتركمان هم من ضمن أعضاء الهيئة، مما يجعل الهيئة مرشحة بقوة لتكون هي الأكثر قدرة على التعبير عن الصوت العراقي في المرحلة القادمة. ولا شك أن الإدارة الأميركية شعرت بالحرج الشديد من تنامي مكانة الهيئة واحترام العراقيين لها، وخاصة المقاومين منهم، وبدأت تعيد حساباتها المستقبلية في التعامل مع الهيئة، وإذا كان هناك من يتهم المقاومة العراقية بأنها (مشرذمة) و (تفتقر إلى المنهج والبرنامج) فإن هيئة علماء المسلمين يمكنها أن تمارس دوراً سياسياً موضع ثقة واعتراف من العراقيين، وأن تكون الوعاء المعتبر والموثوق لحماية المقاومة العراقية الجهادية، ولساناً ناطقاً بالحق العراقي. ونعتقد جازمين أن المستقبل القريب سوف يثبت ذلك.


(*) كاتب أكاديمي عراقي.