المسلمون والعالم
[الانسحاب من لبنان وسياسة عض الأصابع]
د. يوسف الصغير
إن ما يجري في لبنان وإن كان يمثل الفصل ما قبل الأخير من مسرحية
السلام، فإنه يمثل حالة نادرة ومعقدة تتداخل فيها القوى، وتختلط فيها المصالح،
وتبرز فيها القدرات العالية للأطراف المختلفة على المناورة والبراعة في لعب
الأوراق مما يؤهلها لتقدم حالات دراسية في أقسام العلوم السياسية.
إن العامل المشترك في المفاوضات على مختلف المسارات هو حرص اليهود
على التعامل مع كل طرف عربي على حدة والانفراد به بمعونة مباشرة من أمريكا،
وبعد الانفراد بكل طرف فإن رئيس الوزراء اليهودي يدخل المفاوضات مكرراً أنه
يمثل دولة ديمقراطية تديرها المؤسسات، وأنه لا هو شخصياً ولا حزبه يستطيع
تجاوز خطوط حمراء في المفاوضات؛ لأنها ستثير المعارضة وتسقط مشروع أي
تسوية إما بواسطة تهديد بعض الأحزاب الصغيرة بالخروج عن الائتلاف الحكومي، أو التهديد بطرح الثقة بالحكومة، أو اشتراط قيام استفتاء حول أي اتفاقية.
وأيضاً فإن أي اتفاق يوقعه الرئيس يظل عرضة للقبول أو الرفض من قِبَل الكنيست. إن هذا التكتيك يريح المفاوض اليهودي من التعرض لأي ضغوط؛ لأن الرد
البسيط هو أنه ولو وافق الكنيست فإن الموضوع لن يمر؛ وهنا تتجه الضغوط على
الطرف المقابل؛ حيث إن الجانب العربي يمثله شخص وحيد تنجح المفاوضات
بمجرد إقناع الزعيم أو إغرائه أو إجباره على صيغة تناسب الطرف المقابل؛ ولهذا
فإن الاتفاقيات تتم غالباً بعد مفاوضات سرية؛ لأن علنية المفاوضات ستجعل الزعيم
يحس بالحرج.
فمثلاً اتفاقية كامب ديفيد كانت المفاوضات سرية وبرعاية الحسن الثاني في
المغرب. أما زيارة القدس واحتفالات التوقيع فهي من قبيل الإخراج المسرحي ليس
إلا.
أما المسار الأردني فإن الاتفاقية تتوج حوالي عشرين سنة من العلاقات
الحميمة والاتصالات السرية مع الملك حسين، أما المسار الفسلطيني وهو أهم
المسارات على الإطلاق لحيويته في إضفاء الشرعية على وجود الدولة اليهودية
وحدودها الحالية والتي تتجاوز قرار التقسيم فإن الزعيم حريص على أن تكون
جميع الأوراق بيده وأن يكون هو الوحيد الذي ينال شرف الانحناء أمام ضغوط
الراعي الأمريكي والقبول بمطالب الجانب اليهودي.
لقد كانت اتفاقية أوسلو صدمة شخصية لحيدر عبد الشافي وكان عليه إن
يتساءل أولاً عن السر في اختياره لقيادة مفاوضات المسار الفلسطيني وكان أصعب
ما فيها الوقوف أمام الناس وتسويغ أول مفاوضات علنية ومباشرة أساسها الاعتراف
بشرعية وجود دولة اليهود في فلسطين، ومن ثم مطالبتها بالتكرم بالتنازل عن جزء
عزيز من أرض (إسرائيل) ليقيم عليها الشعب الفلسطيني «إن لفظة التنازل
يحرص الساسة اليهود على تردادها ومن ورائهم الإعلام الموجه؛ حيث إنها تعني
أن اليهود يتنازلون عن شيء هو من حقهم» .
إن حيدر عبد الشافي ليس من رجال عرفات وليس بذي توجُّه إسلامي، ولكنه
من الشخصيات الوطنية التي تحظى بشيء من الاحترام، وقد تعب المسكين من
كثرة ركوب الطائرات، وكان عزاؤه الوحيد هو التركيز الإعلامي على أخبار
المفاوضات، وأصبح اسم حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي على كل لسان،
وفجأة وبدون مقدمات يُعلَنُ التوصل إلى اتفاقية تم التفاوض عليها بصورة سرية في
أوسلو واكتشف الناس أن حيدر عبد الشافي وأعضاء وفده الكرام كانوا مجرد شلة
من المهرجين في نظر الزعيم؛ وكم كان منظرهم مضحكاً بالنسبة إليه عندما
يقدمون لسيادته التقارير المطولة عن مفاوضاتهم الجادة مع الوفد اليهودي ويتكرم
عليهم الزعيم بتوجيهاته الكريمة بعدم التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني!!
إن اعتراف عرفات بدولة (إسرائيل) وهو الذي يُتَعامَل معه على أنه الممثل
الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني! «لأنه هو المنظمة» هذا الاعتراف فتح
مجالاً واسعاً لعلاقات علنية مع كثير من الدول العربية (تونس، والمغرب،
وعمان، وقطر، وموريتانيا) والإسلامية مثل أندونيسيا ودول إفريقيا،
وكان العذر المباشر هو أنه إذا كان أصحاب الشأن قد أقاموا علاقات مع
(إسرائيل) فما المانع من القيام بالشيء نفسه.
وأخيراً لم يبق إلا سوريا ولبنان؛ لأن جميع الدول العربية المترددة والرافضة
للتطبيع مع اليهود قد تترست خلف سوريا، وربطت التطبيع بالمسارين السوري
واللبناني وكلها أمل أن تطول المفاوضات وهي مرشحة لذلك؛ نظراً لكثرة اللاعبين
وإجادتهم لفن شد الحبل وسياسة عض الأصابع، وسنحاول فيما يلي إلقاء الضوء
على مطالب كل طرف وأهدافه وطريقة إدارته للقضية؛ ولكن نظراً لتغير الظروف
واللاعبين فإننا سنضطر للتعريج على كل طرف أكثر من مرة.
سوريا والجولان:
إن من الأمور الغريبة في قضية الجولان أنه بعد حرب ١٩٦٧م ثم حرب
١٩٧٣م واتفاقية فض الاشتباك التي رعاها وزير الخارجية الأمريكي اليهودي
هنري كيسنجر، ومرابطة قوات تابعة للأمم المتحدة على الحدود فإن الهدوء التام
يعم الجولان، ولم تقم سورية بأي عمل من شأنه تعكير صفو المحتلين الذين هدموا
مئات القرى السورية، وهجروا أهلها الذين يبلغ عددهم وفق التقديرات السورية
حوالي نصف مليون، وبدؤوا إقامة المستوطنات ومعسكرات الجيش بل وأصدر
الكنيست قانوناً بضم الجولان.
لم نسمع بقيام أحد من المهجرين من الجولان بأي عمل عدائي مسلح، ولم تقم
الدولة بأي محاولة لاستعمالهم ورقة ضغط مع تضلعها وبراعتها في رعاية
المنظمات الفلسطينية المختلفة واحتضانها، ورعايتها التامة لحركة أمل، وتعاونها
مع حزب الله في عملياته الموجعة في لبنان، لقد كان وما زال بمقدور سورية
تكوين مجموعات من أهل الجولان مهمتهم إزعاج المحتلين وإبقاء قضية احتلال
الجولان حية، وكان يمكن أن يكون مركز هذه المجموعات الجار المفتوح
«لبنان» . إنني ادعو القارئ أن يتساءل معي عن سر هذا الإحجام مع براعة النظام السوري في استغلال أوراق أخرى أقل أهمية!
إن المتتبع ظاهرياً للأحداث يكتشف بسهولة أن جهود النظام السوري منصرفة
بصورة شبه كلية نحو استغلال الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وظروف الحرب
الأهلية من أجل الهيمنة على لبنان مع تجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع
(إسرائيل) تحت أي ظرف.
لبنان:
عندما دخلت القوات الفرنسية دمشق، وزار الجنرال الفرنسي غورو قبر
صلاح الدين الأيوبي قال: «ها قد عدنا» نعم لقد عاد أحفاد لويس التاسع ليقيموا
دولة نصرانية في المشرق، ولم يخرجوا من الشام إلا بعد إرساء قواعد دولة يهيمن
عليها الموارنة النصارى اسمها لبنان. ويمكن إعادة كثير من أحداث لبنان إلى
سيطرة هاجس الحفاظ على الهيمنة الذي أدى إلى ارتكاب الموارنة أخطاءاً ساهمت
في تعقيد الوضع نظراً لكثرة اللاعبين وتبدُّل أدوارهم.
لقد تعرضت الهيمنة المارونية للتهديد منذ أواخر الخمسينيات عندما برز المد
القومي الناصري مما اضطر الرئيس اللبناني كميل شمعون لطلب تدخل الأسطول
السادس الأمريكي عام ١٩٥٨م، وقد استقرت الأوضاع لهم طوال الستينيات، ولكن
الأحوال تغيرت بعد استقرار القيادات الفلسطينية في لبنان بعد خروجهم من الأردن
بعد أحداث أيلول الأسود ١٩٧٠م. لقد استفاد قادة المنظمات من وجود عدد كبير من
اللاجئين الفلسطينيين الموزعين على مخيمات في مختلف أنحاء لبنان. ومع بداية
العمل المسلح الفلسطيني في لبنان بدأت الحساسيات تظهر، واشتبك الجيش اللبناني
مع الفلسطينيين مما أدى إلى تدخل الدول العربية، وتم التوقيع على اتفاقية القاهرة
التي تنظم الوجود الفلسطيني. لقد وقع الموارنة تحت ضغط ذاتي للتخلص من
الوجود الفلسطيني الذي يهدد هيمنتهم إضافة إلى ضغط إسرائيلي لتكرر الحكومة
اللبنانية ما فعله الأردن من قبل. ولما كانت الحكومة اللبنانية أعجز من أن تقوم
بذلك حتى لو رغبت، فقد بدأت (إسرائيل) تقوم بعمليات داخل لبنان، ومن ناحية
أخرى نسجت خيوطها حول الأحزاب المارونية وخاصة حزب الكتائب الذي بدأ
يشكل ميليشيات مسلحة. وللأسف فإن السُّنَّة في لبنان غافلون عما يدبر لهم، وقد
خدرتهم أسطوانة أن لبنان مثال حي للتعايش بين الطوائف التي كان يرددها
الموارنة لعشرات السنين، وتكشف مدى الحقد الدفين الذي أعماهم عن هدف
الحرب التي أشعلوها؛ فقد بدأت ضد الوجود الفلسطيني بحادث الحافلة المشهور،
ولكنها سرعان ما تحولت إلى عملية فرز طائفي دموية قام خلالها الموارنة بتصفية
التجمعات الإسلامية والفلسطينية المتداخلة مع مناطقهم بصورة وحشية كما حصل
في تل الزعتر والكرنتينا، ودارت معارك طاحنة للسيطرة على وسط بيروت؛
ولا أنسى صور النصارى وهم يسحلون جثث أهل السنة ويشربون أنخاب الخمر
احتفالاً بانتصارهم الذي سرعان ما انقلب إلى هزيمة مروعة، ولا أنسى القصص
المأساوية لعمليات القتل على الهوية التي بدأها النصارى. لقد أفلت زمام الحرب
من الموارنة التي تحولت إلى صراع من أجل البقاء اضطر فيه النصارى إلى طلب
العون الخارجي. وإذا كانت (إسرائيل) على استعداد للدخول ضد الفلسطينيين فإن
الأمر صعب نظراً لتوسيع النصارى دائرة الحرب بحيث شملت جميع الطوائف
وخصوصاً السنة؛ ولهذا فإن دخول (إسرائيل) الحرب في تلك الفترة سيكون
محرجاً وحساساً خاصة أنه في تلك الفترة لم يكن أحد يجرؤ على التصريح بعلاقات
مع (إسرائيل) ولهذا تم التوجه إلى سوريا التي كانت تنتظر الفرصة السانحة
بالدخول الأول في حزيران ١٩٧٦م، وخاضت معارك عنيفة خاصة في بحمدون
وصيدا، وبعد فترة من الزمن خمدت فرصة النصارى بالتدخل السوري، وبدأت
أصواتهم ترتفع بخروج قوات الردع العربية؛ لأنهم اكتشفوا أن التدخل السوري
الذي حصل بناءاً على طلب ماروني ومباركة إسرائيلية مع غطاء عربي ليس
بالضرورة معنياً بالرغبة المارونية بإعادة الأمور إلى ما قبل الحرب التي أشعلوها؛
لأن (إسرائيل) يهمها أساساً تصفية الوجود الفلسطيني المسلح، ولهذا فقد أطلقت
يد سوريا في لبنان ما عدا خطوطاً حمراء تم الاتفاق مع سوريا على عدم تجاوزها.
لقد كان هدف التدخل السوري كما أعلنه الرئيس الأسد هو «الحفاظ على التوازن
في لبنان» الذي إذا كان يعني أنه لن يسمح بسيطرة المسلمين فإنه يعني أيضاً أنه
لن يعيد السلطة كما كانت للموارنة. أو بصورة أخرى فإن سوريا ستحكم لبنان؛
لأنها ببساطة هي الوحيدة القادرة على حفظ التوازن وستعمل جاهدة لإثبات ذلك.
لقد قامت سوريا بنصف المهمة، وكان تسرُّع الموارنة بالتمرد على سوريا
عاملاً أساسياً في عودة العلاقة المصلحية مع الفلسطينيين الذين عادوا لشن عمليات
داخل فلسطين المحتلة. وفي المقابل قامت (إسرائيل) باحتضان قوات نصرانية
يقودها الرائد سعد حداد مرابطة في منطقة الشريط الحدودي. وبدأت (إسرائيل)
باحتلال مناطق في جنوب لبنان، وتوالت عمليات الجيش الإسرائيلي داخل لبنان
مثل عملية غزو الجنوب عام ١٩٧٨م. (عملية الليطاني) .
لقد وصل الموارنة إلى طريق مسدود؛ فالمخابرات السورية هي التي تحكم
لبنان، والرئيس لا يستطيع اتخاذ أي قرار بدون الرجوع إلى دمشق وكان بشير
الجميل ذاك الشاب الطموح ذو الابتسامة التهكمية يمنِّي نفسه بقيادة لبنان؛ ولذا فقد
وطد سلطته في قيادة القوات اللبنانية، وعمل على تصفية أقرانه من الزعامات
المارونية مثل طوني سليمان فرنجية (حزيران ١٩٧٨م) وداني كميل شمعون
ليخلو له الجو، وفي الوقت نفسه عمل على توطيد علاقات خاصة مع قيادات
الجيش الإسرائيلي وضباط المخابرات، وكانت الزيارات المتبادلة لا تنقطع،
وحصل على كثير من المساعدات العسكرية، وتم تدريب المئات من جنود الكتائب
على خوض المعارك والاشتراك في مناورات مشتركة منذ عام ١٩٧٩م، وبدأ بشير
الجميِّل بالتحرش بالسوريين ومحاولة جر الإسرائيليين لضربهم، وفيما كان
السوريون يخططون لوصول سليمان فرنجيه لسدة الحكم أعلن بشير الجميِّل ترشيح
نفسه لرئاسة الجمهورية التي لا أمل له بالفوز فيها إلا بالتدخل الإسرائيلي المباشر
وهو ما أقره مجلس الوزراء الإسرائيلي برئاسة بيغن في كانون الثاني ١٩٨١م.
وبدأت عمليات غزو لبنان في ٤ حزيران (يونيو) ١٩٨٢م، وسميت:
(عملية سلامة الجليل) واستمرت الحرب حتى ٢١ آب (أغسطس) وبلغت
الإصابات تقريباً ٢٩٥٠٦ شخص بين قتيل وجريح. وبعد يومين من بدء عملية
إخلاء الفلسطينيين انتُخب بشير الجميل رئيساً لجمهورية لبنان، وبعد أسبوع سافر
بشير إلى نهاريا، وقابل بيجن ومما قال له: «هدفنا الآني الآن إخراج الفلسطينيين
والسوريين من البقاع وشمالي لبنان وبعدها يمكننا التصرف كدولة ذات سيادة» وفي
يوم الثلاثاء الرابع عشر من أيلول في بيت الكتائب في الأشرفية وأثناء إلقائه
خطاب وداع لأنصاره بمناسبة فوزه برئاسة الجمهورية تم تفجير المبنى، وقتل
بشير الجميل على يد حبيب طانيوس الشرتوني النصراني من الحزب القومي
السوري. وبعيد ذلك قامت القوات الإسرائيلية بمحاصرة مخيمي صبرا وشاتيلا،
ونقلت إليهما قوات الكتائب التي ارتكبت مجزرة رهيبة بحق النساء والأطفال
والعزل. وبقدر ما صدمت هذه المجزرة الرأي العام فقد حكمت بالموت على حزب
الكتائب، وعجلت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت، وتولت القوات متعددة
الجنسية والتي تتكون أساساً من قوات أمريكية وفرنسية تولت تهدئة الأوضاع
ومحاولة ترتيب الأمور بما يناسب المصالح الإسرائيلية والمارونية، وبقيت القوات
الإسرائيلية في منطقة الجنوب والشوف وأجزاء من البقاع وفي صيدا. وإلى هنا
تم التخلص من الوجود الفلسطيني المسلح، وبقي تقديم الشكر لسوريا على خدماتها
وإبلاغها بأنه آن الأوان لمغادرة قواتها لبنان، ولكن هذا لم يحن بعدُ؛ حيث برزت
حركة أمل الشيعية الموالية لسوريا لملء الفراغ في بيروت الغربية والمخيمات
الفلسطينية؛ وذلك بعد انسحاب القوات الدولية من بيروت بعد تفجير مقري قيادة
القوات الأمريكية والفرنسية وقتل حوالي ٥٠٠ جندي ثلثلهم من مشاة البحرية
الأمريكية، واقتصر الرد الأمريكي على إطلاق البوارج الأمريكية قذائف مدافعها
الضخمة على أهداف وهمية، وحتى الآن لم يتم التأكد مَنْ هم المدبرون. وفي
الوقت نفسه تمت عملية مماثلة في صيدا ضد مركز القيادة الإسرائيلية خلفت حوالي
سبعين قتيلاً، وبالمثل قامت (إسرائيل) بتقليص المنطقة العازلة إلى الشريط
الحدودي الحالي، واعترفت الدول الثلاث بعجزها عن التعاطي مع الوضع في
لبنان وتسليم الملف إلى سوريا. وتولت حركة أمل مهمة تصفية بقايا الوجود
الفلسطيني المسلح في المخيمات، وبدأت مرحلة ما يسمى بحرب المخيمات، وبقدر
ما نجحت الحركة في إنجاز المهمة الموكلة إليها فقد أفرزت وضعاً جديداً؛ حيث إن
المجازر غير المسوَّغة بحق الفلسطينيين وحصار المخيمات الذي طال أمده قد أدى
إلى موت الحركة وضمورها وانشقاق مجموعة منها كونت حزب الله وارتبط
(حزب الله) بإيران، ونما بسرعة في البقاع والضاحية الجنوبية من بيروت؛ بحيث
أزاح حركة أمل. وأما في الجنوب فما زال التنافس بينهما على أشده في أوساط
الشيعة.
إن محاولة (إسرائيل) الاحتفاظ بالشريط الحدودي لدعاوى أمنية فارغة بعد
تصفية الفلسطينيين تخفي مطامع اقتصادية وسياسية؛ حيث إن (إسرائيل) دأبت
على استنزاف موارد الشريط من المياه والتربة، وترددت في حل مشكلة المتعاونين
معها؛ فهي ليست على استعداد لقبولهم، ولم تستطع إقناع الحكومة اللبنانية بالعفو
عنهم، وضيعت الوقت بالبحث عن ممول لتوطينهم في فرنسا أو كندا.
لقد كان هذا الوجود أكبر ورقة وأهم دعوى استغلها حزب الله في سبيل تثبيت
أقدامه في لبنان والحصول على رصيد شعبي تجاوز الطائفة الشيعية، وكان الغطاء
الإيراني ضرورياً لتأمين عدم ضربه من قِبَل سوريا لحساب حركة أمل؛ وذلك
للتحالف الاستراتيجي بين البلدين، ولذلك رضيت سوريا بالتنسيق مع الحزب، بل
وإعطائه الحق بحمل السلاح عن طريق استثناء السلاح المقاوم من قانون تجريد
الميليشيات من السلاح.
الانسحاب من لبنان شعار أم هدف؟
لقد كانت محاولة الرئيس العماد ميشال عون إخراج القوات السورية ودخوله
في معارك طاحنة معتمداً على الحماية الغربية آخرَ صِدَام جدي مع الموارنة، وقد
طال الصراع لسبب بسيط هو أن سوريا تنتظر الضوء الأخضر الذي جاء عندما
تمنعت عن المشاركة في حرب الخليج، وقد تم الهجوم على قصر بعبدا «وهرب
عون إلى السفارة الفرنسية التي أمنت نقله إلى فرنسا؛ حيث يعيش حتى اليوم»
وفي الوقت نفسه وافقت سوريا على المشاركة؛ ومنذ ذلك اليوم فهم الموارنة أن
على الرئيس اللبناني ورئيس الحكومة أن يدبر أمورهما مع سوريا، ولكن المشكلة
أن مجرد رفع الغطاء الدولي عن وجودها في لبنان كفيل بارتفاع الأصوات الداعية
لخروج القوات الأجنبية من لبنان؛ ولذا فمن المهم لسوريا أن يعرف العالم أنها
الجهة الوحيدة القادرة على الإمساك بخيوط اللعبة في لبنان، وهذا ما تقوم به عن
طريق توثيق العلاقة مع حزب الله، والتأكد من ولاء كبار السياسيين الموارنة
المقيمين في لبنان، وأخيراً التلويح بالعودة لاستعمال الورقة الفلسطينية؛ حيث
صرح رئيس الجمهورية اللبناني رداً على تهديد باراك بالانسحاب من جنوب لبنان
بأن لبنان لن يسمح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيه، وأن من حقهم
الكفاح من أجل العودة.
إن تهديد باراك بالانسحاب من لبنان دون اتفاق مع سوريا يوحي أنه يعرف
أن سوريا تستخدم ورقة عمليات حزب الله للضغط من أجل الحصول على أكبر قدر
من المكاسب في الجولان، وأن نجاحه في جمع التأييد لهذا الانسحاب وتصويره
بأنه تنفيذ لقراري مجلس الأمن ٤٢٥، ٤٢٦ اللذين مضى عليهما أكثر من عشرين
سنة والحماس الفرنسي المريب واستعداد فرنسا لإرسال قوات للمنطقة، ومسارعة
الشرع إلى باريس لاستجلاء الموقف الفرنسي بعد تصريحات وزيري الخارجية
والدفاع الفرنسيين الموالية لـ (إسرائيل) .
إن موقف باراك المعلن أنه بعد الانسحاب ستكون سوريا مسؤولة عن أي
عملية ضد (إسرائيل) وأن الرد سيكون قاسياً وسيتجاوز لبنان؛ لأن ضرب البنى
التحتية اللبنانية أصبح عمليات اعتيادية. إن وضع سوريا العسكري صعب،
والنظام مشغول بترتيب انتقال السلطة السلس لبشار الأسد، وعمليات فصل كبار
المسؤولين ومحاكمتهم الذين قد يفكرون في منافسة المرشح الأثير بتهمة إساءة
استعمال السلطة والفساد لا تسمح للنظام بخوض أي مغامرة عسكرية هي في
الأساس مرفوضة من جانب النظام السوري.
إن أخطر وضع يمكن أن يحدث هو ما لم يتحدث عنه باراك خوفاً من
مسارعة سوريا للموافقة، ماذا يحدث عندما تعلن سوريا أنها ستقوم بالانسحاب من
لبنان بالتزامن مع انسحاب (إسرائيل) من جنوب لبنان لتعود الأوضاع إلى نقطة
الصفر؛ حيث إن سوريا لن يكون لها نظرياً أي قدرة على التحكم بالتنظيمات
اللبنانية.