تأملات دعوية
[الحزبية وصفات الحزبيين]
بقلم: د. إبراهيم بن محمد عباس
لقد انتشر مؤخراً الحديث عن (الحزبية) وحظي هذا المصطلح بمساحة واسعة
من ساحة الحوار والمناظرة، ومجالس الدروس العلمية والمحاضرة، ولم يفقد
نصيبه كحديث مقروء لمن لم يدركوا السماع، سواء في بعض الصحف أو
المصنفات الحديثة وبالأخص مصنفات (الردود) ، حتى أصبحت (الحزبية) تهمة
جاهزة تسدد لكل من لا يُرغب فيه من الدعاة.
ومن الغريب أن يلقى هذا الموضوع رواجاً غير عادي في صفوف بعض
الدعاة وطلبة العلم حتى أشغلهم عن كثير من مهمات الأمور وواجبات الدعوة إلى الله، وزُيِّن لبعضهم أن الانشغال بمن يسمونهم بالحزبيين على خلل واضح في تعريف
الحزبيين عندهم أهمّ من تعليم الناس أمور دينهم والقيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وكشف مخططات أعداء الدين كاليهود والنصارى والمنافقين
وأصحاب البدع الشركية المنتشرين في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وطغى آخرون
فوسعوا دائرة الحزبيين حتى شملت كل مسلم يسعى لدعوة أو خير أو إصلاح بين
الناس حتى انتهى بهم الأمر إلى السؤال عن كل من تحدثه نفسه بالقيام بأي عمل من
أعمال البر التي يتعدى نفعها للمسلمين: هل هو حزبي أو غير حزبي؟ ليتحدد
الموقف منه ومن مساعدته في هذا العمل أو ذاك، أو للتشكيك فيه وفي نواياه؛
فلعله حزبي! أو لتصنيفه في القائمة الجائرة، بغضِّ النظر عن الأسس المعتمدة في
مثل هذا التصنيف وعن عدالة قائله، وهل كان بالظن أم باليقين، وبغض النظر
عن نوعية العمل التطوعي الذي يقوم به أو حتى يفكر في القيام به.
ومع هذا فلا شك أن الحزبية داء عضال وسُمّ زعاف يسري في جسم الأمة
فيضعفه أو يقتله، وهي من أهم أسباب الفرقة في المجتمعات المتماسكة، وهي
صفة ممقوتة لا يرضاها إلا ذوو النفوس الضعيفة يسدون من خلالها عجزهم وقلة
حيلتهم، ويشبعون نزعة الغرور والأنانية في نفوسهم، فيحقرون غيرهم ويسخرون
منهم وإن كانوا أجلّ منهم قدراً وأكثر نفعاً.
أما شيمة ذوي النفوس الكبيرة والقلوب المستنيرة والهمم العالية فهي البحث
عن الحق دون حزبية أو تعصب.
ومتى اخترق هذا الداء الحزبية أسوار الدعوة المباركة وسرى بين أركانها
وانتشر في أوساط أصحابها فإن النتيجة حينئذٍ ضعف وفرقة، وخواء وهزيمة،
وجبن وخور أمام الباطل ودعاته والشيطان وحزبه؛ لأن الحزبية التي ينشأ عنها
تقليد أعمى وتبعية سلبية وهوى متبع تخل بالإخلاص وتقيد الانطلاق الصحيح
وتقضي على كثير من روافد الخير والنماء التي تصب في نهر الدعوة المتدفق
الفياض. وتحصر الجهود في إطار ضيق وتقضي على مبادئ قيمة في غاية
الأهمية، فتنكمش دائرة البر والإحسان، وينزوي محيط التعاون على البر والتقوى
فينمو ويترعرع كل ما هو عكس ذلك في ظل هذه التصورات الخاطئة.
ومما هو مشاهد اليوم في صفوف بعض الجماعات الإسلامية، في مناهجها،
وفي سلوك بعض أفرادها أعراض كثيرة وعلامات مرضية خطيرة تدل كلها على
ذلك الوباء الذي أضعف العمل الدعوي والتربوي مما أدى إلى ضياع جهود كبيرة
دون استثمار صحيح، في وقت أشد ما تكون فيه الدعوة الإسلامية بحاجة إلى
الجهود المتضافرة والقلوب المجتمعة تحت ظلال الحق والمنهج المستقيم.
لقد كان هذا الداء بادياً للعيان، فهب المخلصون ينقدون وينصحون، ما بين
عالم مجتهد وطالب علم باحث، وكانوا بين مقل ومكثر، ومخطئ ومصيب، وكل
يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كانت ردة الفعل عند بعض الناس كبيرة جداً، فأخذت حيزاً أكبر مما
تستحق، فزيد في حجم الأخطاء، وتكلف البعض في تتبعها واستقصائها بما يشبه
التجسس وتتبع عورات المسلمين، حتى خرج الأمر من حد التغيير إلى التعيير،
ومن حد النصيحة إلى حد الفضيحة والتشهير، ونتج عن ذلك عداء شديد، وكثر
اللغط والتشويش، وظهر تيار جديد مضاد للحزبية والحزبيين وكان له بريق ولمعان، يتكئ على هذا الجدار تارة وعلى الآخر تارة أخرى، فانضم تحت لوائه شتات
من الناس، منهم صادق غيور، وجاهل مقلد، ومنافق ماكر يريد أن يتخذ من ذلك
سلماً يصعد به على أكتاف الصادقين الناصحين ليتربع على كرسي الشهرة وليصد
به عن سبيل الله وعن الدعوة الطيبة والعلم النافع، كل ذلك تحت مظلة النصح
والنصيحة والخوف على مستقبل الدعوة، وبدعوى أن هذه الوسائل أو تلك تؤدي
إلى الحزبية والانقسام وتشتيت الأمة وتضليل الناس، حتى انقسمت صفوف الدعاة
بهذا الأسلوب الماكر إلى اتجاهين متضادين متنافرين [كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [الروم: ٣٢] إلا من عصمه الله من الفتنة فعرف أن الحق قد يكون مع هذا
بعضه ومع هذا بعضه، وأن كل الناس لا يسلمون من الخطأ، وأن الخطأ مردود
على صاحبه، وأن الشخص لا يُؤاخذ بجريرة غيره، وأن الاختلاف في بعض
المسائل، في فهمها أو في تطبيقها لا يوجب عداءً ولا كراهية، ولا يلزم منه قطع
المؤاخاة ولا ترك النصرة، وأنه ليس من مسؤولية الدعاة تصنيف الأعيان وسوء
الظن بهم والطعن في نياتهم، فهو بهذا لا يتعصب لطائفة على طائفة لوقوع هذه في
أخطاء قد سلّم الله منها الأخرى، فقد يكون للطائفة الأخرى أخطاء لم يفطن لها،
ولم يوفق لإدراكها، وحسبه أن يقف من هذا الأمر موقفاً مشابهاً لموقف شيخ الإسلام
ابن قيم الجوزية رحمه الله إذ يقول: (على أن عادتنا في مسائل الدين كلها دقها
وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على
طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف
الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت
عليه ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله) اهـ[١] .
ومن هذا المنطلق أحببت أن أسهم بهذه المقالة في بيان صفات الحزبية، حتى
لا يغتر بعض من يكيل الذم والعتب للحزبيين ليل نهار وقد غرق في صفاتهم إلى
شحمة أذنيه دون علم، ونعوذ بالله من الجهل المركب.
والحزبية التي نعنيها هنا ليست مجرد التسمية أو الانتساب لحزب معين أو
جماعة معينة، فإن الله سبحانه وتعالى قد سمّى أولياءه حزباً، فقال عز من قائل:
[أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: ٢٢] .
فأثبت الاسم والمسمى؛ إذ إن الانتساب إلى حزب يدعو إلى الخير بما يوافق
شرع الله وسنة نبيه، أو طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وفق الضوابط
الشرعية يعدّ مطلباً شرعياً وباباً عظيماً من أبواب التعاون على البر والتقوى يتألف
من خلاله كيان أمة وصفها الله جل ذكره بالفلاح: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى
الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
[آل عمران: ١٠٤] .
أما الحزبية المذمومة الممقوتة فهي التعصب لرأس الحزب أو لنظام الحزب
ومنهجه دون اعتبار لموافقته للشرع من عدمه، وهذا إنما يعرف بصفات معينة
ينبغي التنبيه عليها حتى لا يقع المسلم فريسة للحزبية من حيث لا يدري، ومن أهم
هذه الصفات:
١- تعظيم الأشخاص فوق القدر اللازم لهم حتى يصل هذا التعظيم والتقدير
في بعض الأحيان إلى حد العصمة.
وهذا خطر عظيم قد أخرج بعض الطوائف من دائرة أهل السنة والجماعة
وأبعدهم عن منهجها المستقيم، وفي مقدمتهم غلاة الرافضة الذين ادعوا العصمة
لأئمتهم، وأهم الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر المبالغة في حب بعض أهل الخير
وأصحاب الفضل إلى قدر يخرج عن الحد الواجب لهم، واتخاذ هذا الأمر أصلاً
مهماً من أسس التربية التي يتربى عليها الأفراد، حيث يتردد اسم داعية أو عالم أو
شيخ معين في كل حديث وفي كل غدوة وروحة، وتذكر مآثره بمناسبة وبغير
مناسبة، وتحفظ أقواله بالنص، إضافة إلى أن يبالغ في فضائله ومحاسنه ومواقفه
إلى القدر الذي يخرج بهذا التقدير والتكريم عن الحد المشروع؛ وبذلك تعتبر كل
أقواله صحيحة، وكل مواقفه صائبة وسديدة، ولهذا تسوّغ أخطاؤه وتؤوّل هفواته،
وتُلتمس له المعاذير حتى فيما لا عذر له فيه، سواء كان هذا التسويغ بالمقاييس
العقلية وهوالغالب، أو باستخدام التسويغ الشرعي المبني على ليّ أعناق النصوص
أحياناً؛ وهو أدهى وأمر.
ولهذا فقد يؤدي ذلكم المسلك المتعسف إلى آثار بالغة الخطورة، كتقديس آراء
أولئك الرجال وتقديم أقوالهم على النصوص الشرعية: إما جهلاً بهذه النصوص
لعدم العناية الكافية بالعلوم الشرعية، وإما عن هوى تفسر به النصوص تفسيراً
خاطئاً يوافق مرادهم، وبهذا نجد أن معيار الحق عند هؤلاء هو أقوال الأشخاص.
والحق أن يُنقد الرجال بالحق.
إن هذه الصفة تؤدي إلى عطب كبير وخلل جلي في أساس التربية ودعائمها؛
حيث يتربى الأشخاص على التسليم المطلق عند سماع القول الصادر من (فلان)
ممن تردد اسمه وفضائله مرات ومرات في صواني أذنيه دون مناقشة أو نقد أو
طلب للدليل على هذا القول أو ذاك، خوفاً من أن يعترض فلا يبقى له قبول أو
تُساء به الظنون.
وهذا التعصب والتحزب ليس شرطاً أن يكون لطائفة، فقد يكون لشيخ معين،
وقد يكون لطريقة معينة، ولكن الجامع في كل أن تصل الموالاة والمعاداة في هذا
الشأن إلى الحد الذي يصنف فيه الناس إلى قسمين: معنا أو ضدنا.
فهؤلاء إن لم تحضر دروسهم، وتستشر قادتهم، وتسمع لرموزهم وتقرأ في
مصنفاتهم، وتوالي من يوالون، وتعادي من يعادون فلست منهم، وأولئك كذلك.
ولا غرابة في مثل هذا التصور أن تحرم حتى من حقوق المسلم على المسلم،
ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
٢- ضيق الأفق، وأحادية النظرة وعدم احترام الرأي الآخر ولو كان سائغاً.
وهذا ينتج غالباً عن التربية القاصرة التي يتربى عليها الفرد من خلال التلقي عن
شخص معين من الناس والحجر عليه من أن يستفيد من الآخرين ويحاورهم
ويتدارس معهم، أو يتبادل معهم الأفكار في أي شأن من شؤون الحياة، ومثله
الاقتصار على كتب معينة أو شرائط محدودة لأسماء محصورة، فينشأ المتربي
بعقلية جامدة محاصرة، ذات إطار ضيق ومجال محدود ينظر للآخرين ومناهجهم
وأطروحاتهم من خلاله ويفسر أقوالهم وآراءهم بما يتوفر لديه من مقدمات سابقة
عنهم، دون النظر في النص ذاته.
وهذا النمط من التفكير على ما فيه من إجحاف بحق الآخرين فإنه وإن صح
لهم في بعض الأحيان وفي بعض الأمور إلا أن ضيق النظرة يجعل الحكم على كثير
من المسائل والمواقف قاصراً أو مشلولاً، وخصوصاً تلك التي يحتاج الحكم فيها
إلى متابعات وشواهد وقرائن قوية يترجح من خلالها أحد الأمرين المحتملين، أو
تلك التي يتوقف على الحكم فيها تبني موقف معين عام قد يضر بالمصلحة العامة إذا
كان الحكم غير مدروس دراسة وافية فيها تجرد وإخلاص.. ولذلك تراهم يفكرون
في بعض الأمور بواسطة العدسة المصغرة، ومن خلال الواقع القريب المحيط بهم
أو بطائفتهم، ثم يقدمون هذا التفكير أو ذاك كنتائج مسلّم بها وبصحتها وفعاليتها،
وينسون أن ما يطرحون في الساحة قد يقع في مرأى أو مسمع القريب والبعيد والبر
والفاجر، فلا يحسبون لذلك حساباً.
والبصيرة تجعل الطرح المؤصل القوي قابلاً للتعامل معه هنا وهناك واليوم
وغداً طالماً كانت ظروف وملابسات الرأي المطروح واحدة أو متشابهة. ولذلك نجد
شواهد كثيرة في تاريخ السلف الصالح رضي الله عنهم لكثير من المشكلات التي
تعيشها الأمة اليوم، وحلولاً مناسبة حتى على هذا المدى الزمني البعيد، ومن هنا
نحن في حاجة إلى إعادة دراسة تاريخنا دراسة متأنية بتأمل واعتبار.
وأعود فأقول: إن اتساع الأفق لا يعطي رحابة في التفكير والتصور وحسب، بل يؤدي إلى مرونة منضبطة في النتائج تلتئم معها كثير من المفاهيم المتشابهة،
وتتقارب من خلالها الآراء المتنافرة وتجتمع الكلمة، شريطة أن يتم كل ذلك داخل
إطار المنهج المحدد بالكتاب العظيم والسنة المشرفة والإجماع المعتبر والقياس
الصحيح.
أما ذلك النوع من التربية الذي يؤدي إلى الحَجْر الفكري، فإنه يتمخض غالباً
عن إمّعيّة ممقوتة وذوبان للشخصية؛ وبذلك ينشأ البنيان ضعيفاً، إذا اعتمد كلية
على مثل هذه البنيات الهشة.
٣- صعوبة الاعتراف بالخطأ وصعوبة الرجوع عنه؛ فترى ذلك عند من
يدافع عن خطئه أو أخطاء حزبه حتى ولو تبينت له الحقيقة؛ لأن الرجوع إلى
الحق يعتبر عنده سبباً يهز ثقة الناس فيه وفي حزبه، وينسى هذا وأمثاله أن أي
شخص مهما يكن مستواه العلمي أو الفكري ضئيلاً أو محدوداً فإنه يستطيع أن يدافع
عن خطئه، وليس ذلك بمنقبة، ولكن المحمدة التي ترفع قدر الإنسان في أعين
الآخرين وتحفظ له احترامه عندهم وتسمو بها نفسه وتتهذب بها أخلاقه هي اعترافه
بخطئه ورجوعه عنه، وبعض الناس للأسف الشديد قد يعترف بخطئه، ومع ذلك
فإنه يصر عليه ولا يتراجع عنه. وبعض آخر يهون عليه أن يعترف بخطئه،
ولكن إن أخطأ شيخه الذي يتحزب له فإنه ينافح عن هذا الخطأ بكل ما يستطيع حتى
وإن كان واضحاً لا ينكره الشيخ نفسه، وهذا من عجائب ما تبتلى به بعض النفوس.
٤- العُجب والاعتزاز بالنفس، وفي المقابل الازدراء والتحقير للآخرين
ولآرائهم بحق وبغير حق؛ إذ المعيار هو موافقتهم فحسب، وهذه أعظم الآفات التي
تنشأ عن قلة الورع غالباً وعن الجهل وقلة المعرفة أحياناً، ومن هذا الباب تجد أن
كل فكرة أو عمل من أعمال البر تلقى رواجاً وقبولاً بين الناس ينسبها الحزبيون
إليهم، وأنها من نتائجهم وآثارهم ومن بنات أفكارهم؛ فهم أول من أنشأ هذا العمل
أو ذاك، وأول من نبّه إلى ذلك الخطر، وأول من سبق الناس إلى الفضل، وقد
يكون ذلك وقد لا يكون، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولم يقتصر هذا الأسلوب على مجال معين من مجالات العمل، بل حتى
الأشخاص والمصنفات ينسبونها إليهم متى وافقتهم، ويتبرؤون منها إن لم تتفق معهم.
وإذا ترك الحبل على الغارب خصوصاً في ميدان الفكر، ظن صاحب كل
فكرة بأن هذا هو ما توصل إليه بحثه واجتهاده، وأصبحت الأمور فوضى لا مثيل
لها، أما إلزام الآخرين بهذه الاجتهادات الشخصية والرؤى الفردية كما هو الحال
عند بعض الحزبيين فهو يؤدي إلى فساد عظيم وخلل يستعصي علاجه؛ إذ إن
الاجتهاد دون إخلاص ودون التقيد بالضوابط الشرعية مهلكة للمرء ومفسدة لسلوكه.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وينشأ غالباً عن شدة العجب والغرور الحطّ من قدر الآخرين واحتقار آرائهم
وكأن موافقة الصواب وقفٌ عليهم، فكل طريقة غير طريقتهم باطلة، وكل فكرة لا
تولد في منابعهم فعقيمة، وكل خطة لا تترعرع في أحضانهم لا تعرف النجاح،
وليت الأمر يقف بهؤلاء عند هذا الحد بل تراهم يتلمسون للأبرياء الأخطاء
والنقائص، ويطرحون عليهم رداء الجهل والسذاجة، ويرمونهم بشتى التهم، وليس
وراء ذلك إلا خلافات ربما تكون يسيرة جداً أحياناً. والخلاف عند أصحاب العقول
السليمة والقلوب المؤمنة لا ينبغي أن يثير مثل هذه الأحقاد فيفسد الود ويضعف
البناء، ويفتح الثغرات لكل من هب ودب أن يطعن في الدعاة.
٥- ظلم الآخرين: والظلم ظلمات يوم القيامة، فمرتعه وخيم ونهايته مرة
وآثاره سيئة، أما حين يقع هذا الظلم على إخوة في الدرب ينشدون الحق،
ويتلمسون طرق البر فإنه يكون أشد تأثيراً وأمرّ كيداً:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند
ويتفاوت الحزبيون درجاتٍ في هذا المسلك إلا أنه قد لا يسلم أصحاب الحزبية
من بعض مظاهر هذا البلاء وآثاره القبيحة ونتائجه المستقذرة مثل الكيل بمكيالين؛
فالذي هو معهم أو على أقل تقدير: يوافقهم في مواقفهم وآرائهم له اعتبار ومكانة
ووزن معين عندهم. والآخر له حساب آخر، وقد يصل الأمر إلى أبعد من هذا
حينما يشتغل الحزبيون بإظهار مثالب الآخرين وتتبع عوراتهم والفرح بأخطائهم
ونشرها بين الناس وإذاعتها بين الخاصة والعامة، وعدم السعي لسترها أو تبيين
الحق لأصحابها وأداء النصح لهم بالأساليب المشروعة.
٦- تقديم المصلحة الذاتية وجعلها هي الأساس ولو خالفت المصلحة الشرعية. وهذه سمة من سمات الحزبية الممقوتة نابعة عن الهوى وعدم الانقياد الخالص
التسليم المطلق لأوامر الشرع المطهر. والذي ينبغي للمسلم هو تقديم ما يستوجبه
النص الشرعي حتى ولو لم تظهر له الحكمة أو المصلحة في ذلك، فقد يكون هذا
بسبب قصور منه في العلم والمعرفة وقد يكون قصوراً في الحكمة والبصيرة؛ إذ
إنه قد ينظر إلى المصلحة القريبة العاجلة ويغفل عن مصلحة أهم منها وأعظم [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: ٣٦] . وقد ينظر إلى المصلحة المؤقتة ويغفل عن مصلحة كبرى عامة
أومستديمة.. وقد لا يدركون تلك المصالح المهمة؛ لأنهم لا يعرفونها بسبب التقوقع
الحاصل لهم من الدوران في فلك واحد. وعدم احتكاكهم بمخالفيهم، أو فتح باب
الحوار الهادئ معهم؛ وبذلك يحرمون من سماع أقوال الآخرين ومعرفة ما عندهم
من الأدلة والفوائد.
(١) طريق الهجرتين، ص ٣٦٦.