للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[تشويه الحق]

محمد بن عبد الله الدويش

[email protected]

الحق واضح لا لبس فيه ولا غموض، وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه

وسلم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، ومع وضوح الحق وجلائه فقد فطر الله

تبارك وتعالى الناس على قبوله والأنس به، بل الباطل لا تستقيم النفوس عليه ولا

تستقر؛ فهي إنما خلقت لتعيش على الحق وتلتزمه.

لكن هذا لن ينقل الناس إلى دائرة الموضوعية؛ فهم قلَّما يفصلون بين الحق

وبين واقع أتباعه وأحوالهم.

وقد أخبر عز وجل أنه لم يميز الكفار بالنعم لئلا يلجأ الناس إلى الكفر معتقدين

الصلة بينه وبين محبة الله لأهله: [وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن

يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] (الزخرف: ٣٣) .

قال ابن كثير - رحمه الله - حول هذه الآية: «أي لولا أن يعتقد كثير من

الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر

لأجل المال؛ هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم» .

وامتن عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن رزقه الرفق واللين للناس،

وأخبر أنه لو حُرِم ذلك صلى الله عليه وسلم لأعرض عنه الناس: [فَبِمَا رَحْمَةٍ

مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ

لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]

(آل عمران: ١٥٩) .

فإذا كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بشأن غيره من الناس؟

وقد حذر الله تبارك وتعالى من شأن علماء السوء الذين يلبسون الحق بالباطل،

ويصدون عن سبيل الله، ويكتمون ما أنزل الله.

وشأن هؤلاء على خطورته واضح جلي؛ لكن تشويه الحق قد يصدر من

صاحب نية صالحة حسنة، فيؤدي ذلك لصد الناس عنه.

* ومن ذلك:

- سوء التعامل مع الناس والفظاظة والغلظة، وقد يسوِّغ لنفسه بأن هذا من

البغض في الله، ومن الغلظة على أصحاب المنكر وأهل الفسق، وهؤلاء من أبعد

الناس عن هدي صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.

- السطحية والسذاجة، وضحالة الثقافة، وقلة الوعي بأمور الحياة، وبخاصة

أنه كثيراً ما يتحدث ويبدي رأيه باعتبار أنَّ لما يثار صلةً بأمور الشرع، ويفترض

أن ما يملكه من خلفية معرفية كاف لإبداء رأيه فيما يحسن وما لا يحسن.

- الجمود والتعصب، أو الإصرار على إفتاء الناس بالورع والاحتياط في

أمور وسَّع الشرع فيها، والنفور من كل جديد مستحدث، وكأن الأصل التحريم

والتضييق.

- التخلف في السلوك الشخصي، أو في المؤسسات والمنشآت التعليمية

والدعوية.

- الحديث مع الناس بلغة التعالي غير المقصود وانتظار السماع والإنصات

منهم، دون أن يكون لهم حق الاعتراض والمناقشة؛ لأنهم ليسوا أهل علم ولا فقه.

إن دعوتنا للحق وصدق نيتنا لا تعفينا عن الاجتهاد في حسن إبلاغه للناس،

وإن انحراف بعض أهل العلم في مجاراة واقع الناس وتوسعهم في التيسير غير

المنضبط لا يسوِّغ لنا التضييق، ووفود كثير من المستجدات التي تحوي انحرافاً

وزيغاً لا يسوِّغ لنا رفض كل جديد.

والثبات على الحق والمنهج لا يستلزم الإصرار على وسائل لم تعد مجدية ولا

ملائمة للعصر بحجة أن من سبقنا استخدموها.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،

ولا تجعلنا فتنة للناس.